ملخص
رحلت الروائية والناقدة الأكاديمية اللبنانية الفلسطينية نازك سابا يارد عن 97 سنة، أمضت الردح الأكبر منها في كتابة النقد والرواية والقصة، إضافة إلى أدب الأطفال والترجمة. وتركت يارد مجموعة كبيرة من المؤلفات في السرد والنقد.
تختار الكاتبة اللبنانية الفلسطينية نازك سابا يارد (1928 - 2025) أن تبدأ السرد في الصفحة الأولى من روايتها "فقدان" (دار نوفل، 2018) بالحديث عن الأستاذ فؤاد الذي يشعر بالنزق والملل والفراغ الذي يطرح على نفسه السؤال الوجودي الأزلي الذي يطرحه أي إنسان عاقل على نفسه: "أي قيمة لحياته بعد اليوم؟ وقف ومشى بضع خطوات قبل أن يعود إلى كرسيه، ثم تساءل: ما قيمة حياته كلها؟ ماذا أنجز في هذه الحياة؟ يوم يموت لن يفقده أحد..." (ص: 7).
أسئلة كثيرة لا بد من أن الروائية والباحثة نازك سابا يارد طرحتها على نفسها في أعوامها الأخيرة قبل أن تغادرنا قبل أيام قليلة عن عمر يناهز الـ97، لكن يارد ليست من الذين لن يفقدهم أحد كما هي حال بطل روايتها ما قبل الأخيرة، ليست من الذين لم يخلفوا أي أثر بعد رحيلهم، فصاحبة الكتب النقدية والمقالات التحليلية والروايات المتعددة، تركت بصمة جميلة ومهمة في عالم الأدب في مختلف أبوابه.
الباحثة والناقدة
إن أراد القارئ أن يستعيد مسيرة هذه الكاتبة التي ولدت باسم كرهته بحسب ما تسرده في سيرتها الذاتية "ذكريات لم تكتمل" (دار الساقي، 2008)، فهو يلاحظ أن سابا يارد تعاطت الكتابة السردية وكتابة الأبحاث وكتابة المقالة بتفانٍ وتمكن متساويين، وهي التي نالت شهادة الدكتوراه عام 1976 حول موضوع بالغ الأهمية في العالم العربي وأدبه وهو موضوع تلاقح الثقافات وتأثر العرب بالحضارة الغربية نتيجة الرحلات التي قام بها المفكرون والكتاب والرحالة العرب إلى الغرب.
جاءت أطروحتها "الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة" لتكون مرجعاً بارزاً في العالم العربي وفي جامعات الغرب. وقد عرضت سابا يارد في هذا الكتاب (دار نوفل، 1992) الذي كان أطروحتها في الأساس، الاحتكاك الذي حصل بين العرب والغرب من خلال ملاحظات الرحالة العرب ومشاهداتهم وتدويناتهم إثر تجوالهم في أوروبا، فتناولت سابا يارد رحلات رفاعة الطهطاوي (1801 - 1873) طبعاً، وأحمد فارس الشدياق (1804 - 1887) وخير الدين التونسي (1820 - 1890) وفرنسيس المراش (1836 - 1874) في مرحلة أولى، لتنتقل في مراحل أخرى من كتابها إلى غيرهم من الأدباء الذين نقلوا نتفاً من الحضارة الغربية الأوروبية إلى المجتمعات العربية، فتكر السبحة لتتوقف نازك سابا يارد عند أعلام بارزين كمثل محمد إبراهيم المويلحي (1858 - 1930) وجرجي زيدان (1861 - 1914) والأمير شكيب أرسلان (1869 - 1946) وغيرهم.
تعالج نازك سابا يارد في هذا المؤلف إذاً، نتائج احتكاك المفكرين العرب بالحضارة الغربية وما أدخلوه برحلاتهم إلى المجتمعات العربية على صعيد الفكر والمجتمع والعادات والتقاليد وطرق التعليم وغيرها، ويعد هذا المؤلف من أبرز ما وضعته في مسيرتها كباحثة.
أما كتابها البارز الثاني، الذي وضعته بالاشتراك مع نهى بيومي "الكاتبات اللبنانيات - بيبليوغرافيا 1850 - 1950" (دار الساقي، 2000)، فهو يعد مصدراً أساساً للبحاثة في مجال السير والنبذ والبيبليوغرافيا، ويضم سيرة الكاتبات اللبنانيات في مرحلة لم يؤرخ لها بعد، كما يقدم أعمال هؤلاء الكاتبات بدقة ومنهجية وموضوعية.
يضاف إلى هذين الكتابين، كتابات وأبحاث في شعراء عرب بارزين تناولتهم نازك سابا يارد في مؤلفاتها منهم: أحمد شوقي وابن الرومي وإلياس أبو شبكة وجبران خليل جبران وأبو نواس ووالبة بن الحباب وكلثوم بن عمرو العتابي وغيرهم. وتجدر الإشارة إلى أن يارد وضعت مقالات نقدية ومراجعات كتب بالإنجليزية والفرنسية والعربية، ومن المجلات والصحف العربية التي نشرت فيها، نذكر مثلاً كتاباتها لأعوام في مجلة "الرائد" وفي "النهار" و"نهار الشباب" وفي صحيفة "الحياة".
الروائية المتعددة
بدأت نازك سابا يارد منذ عام 1983 بوضع الروايات التي عالجت فيها موضوعات نسوية واجتماعية من الواقع اللبناني والعربي، فتطرقت إلى قضايا المرأة والعنف ضدها والظلم الاجتماعي الذي تتعرض له، من دون أن تكون هناك لاصقات وتقاسيم لهذه الأنواع الموضوعاتية بعد، فوضعت "نقطة الدائرة" (دار الفكر اللبناني، 1983) و"الصدى المخنوق" (دار نوفل، 1986) و"كان الأمس غداً" (دار نوفل، 1988) و"تقاسيم على وتر ضائع" (دار نوفل، 1992)، وقد ترجمت هذه الرواية إلى الإنجليزية ونالت جائزة أفضل رواية عربية مترجمة إلى الإنجليزية لعام 1996.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لها كذلك "الذكريات الملغاة" (دار نوفل، 1998) و"الأقنعة" (دار الساقي، 2004) و"أوهام" (دار الساقي، 2011) و"اللعنة" (الدار العربية للعلوم ناشرون، 2014) و"فقدان" (دار نوفل، 2018) و"عبء الزمن" (دار نوفل، 2019)، إلى جانب كتاباتها في أدب الفتيان، وأبرزها "بيروت، هل نعرفها؟" (قصة للأطفال، 1994) و"في ظل القلعة" (رواية للفتيان، دار الكتاب العالمي، 1996) و"بعيداً من ظل القلعة" (رواية للفتيان، دار الكتاب العالمي، 1998) و"أيام بيروت" (دار الكتاب العالمي، 2002) و"سامر" (رواية للفتيان، دار الكتاب العالمي، 2009).
ومن الجدير ذكره أن نازك سابا يارد التي أتقنت الإنجليزية والفرنسية والألمانية تمكنت من استعمال وسع آفاقها ووسع اطلاعها على آداب هذه اللغات لتتمكن من توظيف أساليبها في رواياتها مع التطرق إلى موضوعات اجتماعية من واقعها، فرواية "اللعنة" مثلاً تروي قصة سلمى الفتاة المراهقة التي تخسر والدتها وطفولتها وبراءتها بأقسى الطرق لتتحول إلى خادمة في بيت هو الآخر يجعلها تعيش أتعس الظروف التي يمكن أن تعيشها فتاة شابة، وبعد أن تحمل سلمى من ابن صاحب البيت الذي تعمل فيه، تضطر إلى التخلي عن ابنها بحسب رغبة العائلة التي تؤويها لتأخذ هذه الشابة ترافق ابنها من بعيد من دون أن تجرؤ على إطلاعها على حقيقة الرابط الأمومي الذي يربطها به. قصة مؤسفة مؤلمة واقعية سردتها نازك سابا يارد في زمن كثرت فيه هذه القصص وقل من تحدث عنها.
تبقى السمة الأبرز لأعمال نازك سابا يارد في أعوامها الأخيرة هي العلاقة بالوقت والزمن ومرور العمر، فيجد القارئ نفسه أمام عنوانين رمزيين زاخرين بالمعاني هما "فقدان" و"عبء الزمن"، وكأن نازك سابا يارد تعبت من العمر ومن الحياة ومن الوقت، وكأنها سقطت في دوامة لا تنتهي هي الحياة، فتكتب في "فقدان": "عقارب الساعة تتحرك، الذي لا يتحرك هو الوقت". تتطرق سابا يارد في روايتيها الأخيرتين إلى التقدم في العمر والفراغ والملل والفقدان، كما تطرح أسئلة وجودية بالغة الأهمية كمكانة الإنسان في هذا الزمن ودوره، وقسوة مرور العمر وبطئه. تتناول نازك سابا يارد في أعوامها وكتاباتها الأخيرة مأساة حصيلة الأعوام وكأنها تحاسب الزمن، فتحكي ما أبقى عليه الوقت وما أخذه معه من هذا الكائن المسكين الذي يسمونه "الإنسان".