ملخص
أنقرة وتل أبيب حليفتان لواشنطن لكنهما تختلفان في سوريا، ويمكن للولايات المتحدة التخلي عن الأكراد لكسب رضا تركيا لكنها لا يمكن أن تتخلى عن إسرائيل بأي شكل من الأشكال والحل أمام تركيا تقوية تحالفها مع الدول العربية.
لقد انتصر المعسكر الغربي، بما في ذلك تركيا، في الصراع الطويل والحرب بالوكالة في سوريا، بينما خسر الجانب الآخر المكون بصورة أساسية من روسيا وإيران، وخسارة هاتين الدولتين تصب في المصلحة المشتركة لكل من أنقرة والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل.
لكن في المقابل هناك مشكلة مهمة، وهي أن إسرائيل وتركيا اللتين تنتميان إلى المعسكر نفسه (الغربي)، هما الآن تواجهان بعضهما بعضاً في سوريا بصورة أو بأخرى، ولدى كل منهما مصالح وأهداف مختلفة، وليس من السهولة بمكان تحقيق توافق بينهما.
ما تريده إسرائيل في سوريا هو حكومة مركزية ضعيفة مقسمة إلى حكومات محلية مختلفة ومناطق تتمتع بالحكم الذاتي، بحيث إن مثل هذه الحكومة لن تشكل أي تهديد مستقبلي لتل أبيب، ويمكن لإسرائيل أن تعطل سوريا في أي وقت من خلال هذه المناطق التي تتمتع بالحكم الذاتي، فضلاً عن ذلك فإن الإدارة الضعيفة والهشة في دمشق لن تتمكن أبداً من معارضة الاحتلال الإسرائيلي وتوسعه الإقليمي في مرتفعات الجولان.
في المقابل، إن ما تريده تركيا في سوريا هو دولة قومية قوية تقوم على نظام ديمقراطي يشمل تمثيل جميع المجموعات العرقية والطائفية الموجودة في البلاد، وبطبيعة الحال ترفض تركيا أن تضم هذه الحكومة التنظيمات والعناصر التي تصنفها على قوائم الإرهاب وتتهمها بأن لديها أجندة انفصالية مثل "حزب العمال الكردستاني" ومجموعة "وحدات حماية الشعب" الكردية.
من جهة أخرى، تصرّ أنقرة على أن تكون في سوريا حكومة مركزية وأن يتم ضمان الحدود الحالية لسوريا كما هي كاملة من دون أي تغيير بالخريطة السورية بأي شكل من الأشكال، بهدف إغلاق الباب أمام أي حكم ذاتي أو انفصالي، وهنا قد تتباين الأهداف والمصالح بين تركيا من جهة، ومن جهة أخرى بين الثنائي الأميركي- الإسرائيلي.
أميركياً، تريد واشنطن أن تبقى لها قوة مسلحة في سوريا (قاعدة ما) يتم استخدامها في جميع الأوقات عند الحاجة، وقد يكون هذا السبب وراء تقديم الولايات المتحدة شحنات كبيرة من الأسلحة إلى المجموعات الكردية المسلحة التي تعتبرها واشنطن شريكاً محلياً في سوريا تحت بند محاربة تنظيم "داعش" الإرهابي، كما أن قائد "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) مظلوم عبدي يحظى بمكانة خاصة لدى الأميركيين على رغم أنه أحد أهم تلاميذ عبدالله أوجلان زعيم "حزب العمال الكردستاني".
من وجهة النظر التركية، تسعى إسرائيل إلى زرع لغم عند المثلث الإيراني- التركي- العراقي، هو دولة كردية يقوم عمودها الفقري على "حزب العمال الكردستاني" ومجموعات "وحدات حماية الشعب"، وهناك أيضاً من يرى أن قيام دولة كهذه هو أيضاً هدف أميركي، لكن لا يمكن تأكيد هذا لأن الولايات المتحدة في حقيقة الأمر لا تبحث عن دولة كردية في الشرق الأوسط، وربما أن القضية الكردية برمتها ليست من أولويات واشنطن أو لا تعيرها أهمية حقيقية، وإنما تبحث عن مصالحها الخاصة، وبالفعل أسهم التحالف الأميركي مع دول الخليج العربي في تأمين مصالح الطرفين.
ومن جانب آخر، تعمل واشنطن على استخدام إسرائيل كـ"سوط" لها في المنطقة، ولو أن أميركا مهتمة حقاً بإقامة دولة كردية لكانت اعترفت بالاستفتاء الذي أجراه زعيم إقليم كردستان العراق مسعود بارازاني عام 2017 عندما أجرى استفتاء شعبياً على الاستقلال، ولو اعترفت واشنطن بهذا الاستفتاء وهذه الدولة لكان الأمر لاقى قبولاً دولياً، بخاصة من دول الاتحاد الأوروبي، والأمر بكل بساطة هو أنه إذا كان الأكراد في الشرق الأوسط بالنسبة إلى واشنطن هم قطعة كعكة، فإن تركيا شريحة كبيرة من الكعك، وليس من المنطق أن تضحي بشريحة كبيرة لأجل قطعة، ولذلك لا تضحي الولايات المتحدة بتركيا مقابل دولة كردية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خلال العمليات العسكرية التركية السابقة في سوريا، عندما نفذ الجيش التركي عمليات قرب الحدود لإبعاد التنظيمات الكردية، كانت القوات الأميركية تنسحب من المناطق التي هي أهداف للجيش التركي، وكان عناصر "قسد" يبدون غضبهم من خلال رجم القوات الأميركية المنسحبة بالحجارة، كما أن الولايات المتحدة لم تعترض بصورة جدية على العمليات العسكرية التي نفذتها القوات التركية في سوريا ضد التنظيمات الكردية، وببساطة كما قلت لا تضحي واشنطن بشريحة كبيرة من أجل فتات بالنسبة إليها، وهذا لا يقتصر على الماضي فحسب، فاليوم يتكرر السيناريو ذاته، وستراعي الولايات المتحدة المصالح والمخاوف التركية من المشروع الكردي، حتى إن أميركا ليس لديها مانع في التخلص من مجموعات "وحدات حماية الشعب" ما دام أنها وجدت أنها قد تشكل خطراً على حليف لها مثل تركيا، مما يعني أن الولايات المتحدة قد تتخلى بسهولة عن التنظيمات الكردية التي تدعمها في شمال شرقي سوريا، ولدينا مثال قريب في أفغانسان حيث تخلت القوات الأميركية في صيف 2021 عن النظام الجمهوري الذي دعمته لـ20 عاماً، وتركت ملايين الأفغان الذين آمنوا بوعود الغرب الديمقراطية، وسقطت ترسانة هائلة تتكون من مئات طائرات النقل العسكرية والمروحيات والدبابات وآلاف المركبات المدرعة في أيدي حركة "طالبان"، وجميع الأسلحة التي قدمتها أميركا إلى التنظيمات الكردية لا تشكل حتى عُشر المعدات التي تركتها الولايات المتحدة لـ"طالبان" في أفغانستان، وكل هذه مجرد حكايات لا تستحق الذكر بالنسبة إلى الولايات المتحدة.
والقوات الأميركية موجودة في سوريا مع قوات أجنبية وغربية كثيرة ضمن مهمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) في محاربة تنظيم "داعش"، وإذا قررت واشنطن المغادرة، فعلى الفور ستغادر قوات بقية الدول، وحينها ستُترك قضية شعب المنطقة لأهل المنطقة، لذلك ما يحتاج الأكراد إلى فهمه هو أنه من غير الممكن بالنسبة إليهم تحقيق أهدافهم من خلال الاعتماد على القوى الأجنبية، وإذا كانوا يريدون العيش بسلام في المنطقة، فإنهم بحاجة إلى إيجاد طريقة للتوصل إلى اتفاق مع دول وشعوب المنطقة حصراً.
وبالنسبة إلى تركيا، فهي بلا شك دولة إقليمية قوية في الشرق الأوسط، ولكن بالنسبة إلى علاقتها مع الأكراد فإن وجهة النظر الرسمية هي معاداة التنظيمات التي تشكل خطراً على الأمن القومي، في المقابل تشكيل علاقة ودية مع الشعوب الكردية، ولدينا مثال قائم وهو إقليم كردستان العراق الذي يتمتع بحكم ذاتي ويقيم علاقات متينة مع أنقرة، وليس علاقات دبلوماسية فحسب، بل أسهمت الشركات التركية بصورة كبيرة في تطوير مناطق الإقليم، لذلك على أكراد سوريا الاتفاق مع تركيا بصورة أو بأخرى لأن ذلك يصب في مصلحتهم بالدرجة الأولى، وبالنتيجة فإن العمليات التي نفذها "حزب العمال الكردستاني" على مدى أربعة عقود في حقيقة الأمر لم تعُد بأي نفع على الشعب الكردي، بل بالعكس تماماً إذ جلبت للأكراد كثيراً من الدموع والدماء.
من جانب آخر، على الحكيم أن يدرك أنه لا يفرح إذا وقفت أميركا إلى جانبه، ولا يحزن إذا صنفته على قوائم الإرهاب لأن كل ذلك منبعه المصالح الخاصة، والتجارب حول ذلك كثيرة، فالجميع يعرف أنه في يوم ما كان تنظيم "القاعدة" متحالفاً مع واشنطن، والآن هو تنظيم مصنف على قوائم الإرهاب العالمية والأميركية، مما يعني أن لا مشكلة لدى واشنطن إذا قامت بتصنيف كيان ما على أنه كيان إرهابي إذا اقتضى الأمر، أو لم يكُن هذا الكيان مفيداً، ونرى في المشهد السوري- التركي أن "وحدات حماية الشعب" و"قسد" هما تنظيمان كرديان حليفان لأميركا ولهما ارتباط مباشر مع "حزب العمال الكردستاني" الذي تصنفه واشنطن على أنه تنظيم إرهابي، لذا باختصار شديد يمكننا القول إن الحليف الوحيد الذي لن تتخلى عنه الولايات المتحدة هو إسرائيل.
إذاً ليس هناك خلاف لا يمكن حله بين تركيا والولايات المتحدة بخصوص القضية الكردية، لكن عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، فإن أميركا والغرب برمته سيتحركان، وشاهد العالم كله كيف دعم الغرب معارك إسرائيل على غزة، وحالياً في سوريا فإن وجود خلاف تركي- إسرائيلي أمر لا ترحب به واشنطن لأن الدولتين تعتبران من أهم حلفائها في المنطقة، وأحد أسباب الخلاف يتمثل في حال استمرت إسرائيل بالاحتفاظ بالمناطق التي سيطرت عليها في جنوب سوريا، وليس من الواضح حتى الآن إذا ما كانت الولايات المتحدة قادرة على حل هذه القضية بين أنقرة وتل أبيب، خصوصاً مع عودة الرئيس الجديد دونالد ترمب للحكم مجدداً، وكما هو معروف فإن ترمب شخص من الصعب التنبؤ بقراراته.
بالنسبة إلى تركيا، فإن أحد الحلول التي أمامها تقوية التحالف مع الدول العربية، خصوصاً دول الخليج العربي، فإذا ما كانت تركيا والدول العربية في جبهة واحدة فإنهما تستطيعان الضغط على الولايات المتحدة التي بدورها ستجبر إسرائيل على احترام وحدة الأراضي السورية، وبالتأكيد لا ترغب واشنطن في خسارة العرب والأتراك معاً، وفي حال حصل هذا فإن سوريا قد تشهد بالفعل حلاً مثالياً ينتهي بتشكيل نظام ديمقراطي يمثل مختلف المكونات العرقية والطائفية المتنوعة في سوريا، مما يفتح المجال أيضاً لعودة طوعية لملايين المهاجرين السوريين.
نقلا عن صحيفة "اندبندنت تركية"