ملخص
تسعى رواية "وجوه طنجة" للكاتب المصري صبحي موسى الى استعادة مأساة الـ "موريسكيين" محاولة إلقاء أضواء جديدة على القضية التي شغلت المؤرخين والروائيين.
يمتاز الفن الروائي عموماً باعتماده على مجموعة من الوحدات البنائية، ويأتي بناء الشخصيىة السردية في مقدمها، مما دفع كثيراً من الباحثين إلى أن يجعلها شبيهة ببناء الصورة الشعرية. ومع ذلك تظل الوحدات البنائية الأخرى مثل البنية الزمنية والمكانية وموقع الراوي ذات فاعلية كبيرة، ويوحي عنوان رواية "وجوه طنجة - رحلة البحث عن الموريسكيين" (سلسلة إبداعات عربية، دائرة الثقافة، الشارقة) للكاتب المصري صبحي موسى بتصدر بناء الشخصية، غير أننا نرى الاهتمام بوصف المكان مقدماً على غيره، وربما يرجع ذلك لتماس تلك الرواية بالرحلة المكانية التي قام بها السارد من القاهرة إلى طنجة، حيث يغدو الوصف أحد وسائل استكشاف المكان.و
يتوقف السارد ابتداء أمام معنى "طنجة"، فيرى أنه تحوير لجملة "الطين جاء" التي تنسب إلى النبي نوح عليه السلام حين اقترب من مكانها بالسفينة التي شيدها للنجاة من الطوفان، لكن السارد الذي يتماهى بوضوح مع الكاتب يقوم بتفكيك هذه الأسطورة والسخرية منها في ضوء أن طنجة مبنية على هضبة صخرية، والأماكن عامة يغلب عليها البعد التاريخي على نحو ما يبدو في قوله "لم أشعر أنني في مطار الدار البيضاء منتظراً الوصول إلى طنجة، ولكني شعرت أنني في قصر الحمراء منتظراً خروج المعتمد بن عباد أو الولادة وابن زيدون".
وليس هذا غريباً إذ إن الـ "موريسكيين" هم ورثة بناة الزهراء وقرطبة وغرناطة وطليطلة وإشبيلية، واللافت هو ذلك التداخل الذي نلاحظه بين البنية المكانية والزمنية، ويظهر ذلك في قوله مثلاً إنه لاحظ وجود "أقواس تربط بين مبنيين وكأنها بوابات زمانية تنقلنا كل لحظة إلى فترة من التاريخ"، إضافة إلى تدويل طنجة واعتبارها مدينة "كوزموبوليتانية" على غرار الإسكندرية، وهذا سر مبالغة أهل طنجة كما شعر السارد "في حبهم للمكان، فجميعهم يعتزون بكونها كانت مدينة دولية في حقبة الاستعمار".
آلية المقارنة
وهناك ما يسمى بآلية المقارنة حين تستدعي الأماكن المغربية ما يناظرها من أماكن مصرية ، كما يظهر في قوله "حيين دخلنا المقهى وجدتُ نفسي أمام تحفة معمارية مبطّنة بالخشب، ذكرتني بقاعة فندق رويال بالقاهرة، وبدرجة ما مقهى الحرية في باب اللوق"، وهو هنا يتحدث عن مقهى مغربي شهير يقصده المثقفون والأدباء لطبيعته ولموقعه المميز حيث يربط "بين بحر ومحيط، وبين قارتين ودولتين وحضارتين وشعوب عدة "، لكن هناك "طنجة الأخرى" أو الضواحي التي يسكنها الفقراء والمهمشون الذين حفلت بهم نصوص محمد شكري وخصوصاً رواية "الخبز الحافي"، وهكذا يتجاور ويتحاور التاريخي والمعاصر والجليل والهامشي والخالد والعابر.
ومن خلال ضميري المتكلم والغائب وموقع الراوي المشارك في الأحداث، يقدم صبحي موسى مأساة الجماعة التي وقعت ضحية الإسبان بعد سقوط الأندلس، حيث شككوا في دينهم وحرقوا مكتباتهم وهدموا بيوتهم، كما كانوا بعد رحيلهم إلى بلاد المغرب الكبير، المغرب والجزائر وتونس، ضحية لأولئك الذين تعاملوا معهم على أنهم متحولون من الإسلام إلى النصرانية، على رغم أن هؤلاء كانوا من أكثر الجماعات البشرية التي دافعت عن هويتها واستمسكت بها، ولولا تخاذل العثمانيين والسعديين والفاطميين في نصرتهم لنجحت ثورتهم ضد الإسبان، وكانت رحلتهم من إسبانيا إلى بلاد المغرب رحلة عذاب ومخاطرة، فقد كانوا يُقذفون في سفن متهالكة تحمل أضعاف حمولتها وعلى مسافة من الشاطئ يكملون هذه الرحلة سباحة، مما ترتب على ذلك موت كثيرين منهم غرقاً. ويقال إن محمد السعدي هو الذي طلب من الإسبان ترحيلهم قسرياً بغرض تجنيدهم في جيشه لغزو أفريقية (تونس)، وظل الموريسكيون يحتفظون بمفاتيح بيوتهم معلَقة تحت جيوب قمصانهم، "ولا تزال أرواحهم تتأرجح فوق مضيق جبل طارق".
أساليب متجاورة
وتدل المعلومات التاريخية الكثيرة التي يسوقها الراوي على الجانب المعرفي داخل هذا النص الروائي، وهو ما يبدو منذ البداية في الاقتباس المنسوب للمناضل المغربي عبدالكريم الخطابي والاقتباس المنسوب لمحمد شكري، كما ترتب على هذا الجانب المعرفي شيوع ما يمكن أن نسميه بالجمل الثقافية، أي الجمل التي تحيل إلى معرفة سابقة مثل الحديث عن "ثيرفانتس" الذي يقول السارد عنه إنه دخل الجندية في زمن ثورة الـ "موريسكيين" على جبال البشرات، وكانت روايته "دون كيشوت" عن زمن تهجيرهم إلى المغرب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتزخر هذه الرواية بكثير من الأساليب السردية، إذ نجد تجاوراً بين الفصحى في المتن السردي والعامية وبخاصة المصرية في الحوار، ونجد تضميناً لبعض العبارات الإنجليزية وتضمين كثير من أشعار الكاتب ومنها "حين تنجب طفلاً / لا تسمه رامبو / ولا بودلير/ ولا حتى محمد / لأن هؤلاء رحلوا / وعليك أن تتركه هكذا بلا اسم / حتى لا يدرك حين يكبر / أنك ارتكبت في حقه جريمة أخرى".
وأظن أنه يقصد أن الجريمة الأولى هي إنجابه طبقاً لقول أبي العلاء المعري "هذا ما جناه أبي عليّ وما جنيتُ على أحد"، ومنها أيضاً "اسمحوا لي / أن ألوح من بعيد وأرحل / فجميعهم لوّحوا ورحلوا من هناك / كانوا يرفعون خوذاتهم مواعدين الصباح بأنهم سيعودون / لكن أحداً لم يعد".
ومن بين هذه الأساليب هناك ما يمكن أن نطلق عليه الأسلوب الأسطوري وذلك في حديثه عن "الندّاهة" التي شاعت أسطورتها في القرى، حيث يحكون أنها "تطرق الأبواب منتصف الليل وتنادي غريمها بالاسم متصنعة صوت أقرب الناس إليه، فإن استجاب ونهض من فراشه تكون قد سحرت سمعه فيفتح الباب ويتبع صوتها، وهي تمشي في الدروب والشوارع والحقول منادية عليه".
وأخيراً يمكن القول إن الكاتب اتبع بنية زمنية متعاقبة مع قليل من الاسترجاعات لرصد كل ما تزخر به روايته هذه من أحداث.