يبدو أن "أتيليه القاهرة" بات قاب قوسين أو أدنى لأن يصبح من ذكريات الماضي، على الأقل في ما يخص المكان "التاريخي" الذي ظل يشغله في وسط العاصمة المصرية على مدى عشرات السنين، باعتباره ملتقى لفنانين وأدباء من مصر ومختلف البلاد العربية.
المكان عبارة عن بناية انتزعت الدولة ملكيتها من أسرة يهودية، ثم خصَّصتها مقراً لـ"جماعة الأدباء والفنانين"، التي أشتهرت بمسمى "أتيليه القاهرة"، وباتت من أهم المؤسسات الموكل إليها الترشيح لجوائز الدولة، فضلاً عن استضافتها المنتظمة لأنشطة ثقافية، احتفظت بمسافة ما من النشاط الثقافي الرسمي. لكن وزارة التضامن التي يتبعها الاتيليه إدارياً بادرت أخيراً برفع دعوى تطالب ب"حل الأتيليه"، وقال رئيس مجلس إدارته الفنان أحمد الجنايني، إن هذا التطور سيترتب عليه إخلاء المكان تمهيداً لهدمه لصالح مستثمرين مصريين لم يعلنوا عن أنفسهم بعد، وربما يتحول مركزاً ثقافياً إسرائيلياً!
وبصرف النظر عما قد يبدو في كلام الجنايني من مبالغة" نوعاً ما بخصوص احتمال أن يصبح المكان من ممتلكات الدولة العبرية، فإنه قرر عقد لقاء مع رئيس الاتحاد العام للجمعيات والمؤسسات الأهلية المصرية، "لعرض أبعاد أزمة الأتيليه"، عليه، بوساطة من رئيس نقابة الفنانين التشكيليين المصريين حمدي أبوالمعاطي، تستهدف التصدي لمسعى "تصفية الأتيليه أو تهويده".
دخلت هذه المشكلة في بؤرة الضوء قبل نحو عشر سنوات وتحديداً في العام 2008 عندما توقف دفع إيجار "الأتيليه" لورثة مالكته الأصلية ليندا كوهينكا، لمدة خمس سنوات، فبدأت إجراءات لتسليم العقار للورثة، لكن جرى وقفها، لتتجدد قبل بضعة أيام عبر دعوى قضائية رفعتها وزارة التضامن الاجتماعي، بالاشتراك مع محافظة. هنا يبدو "إصرار رسمي" على "عودة الحق إلى أصحابه"، يؤيده كما قال الجنايني أعضاء سابقون في مجلس إدارة "الأتيليه" نفسه الذي يرجع فضل تأسيسه إلى المصوِّر المصري الراحل محمد ناجي في 1953.
آراء مثقفين
الروائي رءوف مسعد المقيم في هولندا، قال ل"اندبندنت عربية": "من واقع تجربتي الشخصية أستطيع أن أؤكد أن الاتيليه قبل دعوى وزارة التضامن استولت عليه جماعة معادية لحرية الثقافة وحرية التعبير". وأضاف: "اقترحتُ على "دار ابن رشد للنشر" خلال زيارتي للقاهرة قبل نحو شهر عقد ندوة في الاتيليه عن كتاب لي يتضمن حوارات مع المفكر الإشكالي الراحل نصر حامد أبي زيد، لكن إدارة الاتيليه رفضت الاقتراح، خوفاً من أن تثير الندوة حنق المسؤولين".
ويؤكد صاحب رواية "بيضة النعام" أنه شخصيا لا يمانع في أن يؤول مبنى "الاتيليه" إلى مستثمرين، بشرط أن يتحول مركزاً ثقافياً غير خاضع لهيمنة الدولة التي حولت استقلاله القديم إلى مجرد استقلال شكلي.
ويقول الروائي والقاص محمد بركة: مع احترامي الشديد للمتباكين على ذكرياتهم في "أتيليه القاهرة" فإنني شخصياً لا أرى فيه سوى مكان مثالي لجلسات النميمة ومن ثم فإنه لم يسهم في تطوير الحركة الأدبية أو حركة الفن التشكيلي في مصر في العشرين سنة الأخيرة.
ويضيف: كانوا يطلقون قديماً على "الأتيليه"؛ مع مقهى "زهرة البستان" وحديقة "الجوريون" مثلث الرعب. نفرتُ من ضجيج المقهى ولم تكن ميزانيتى المحدودة تحتمل أسعار حديقة "الجوريون"، فكان "الأتيليه" هو خيار أبناء جيلي لاسيما القادمين من القرى البعيدة للعاصمة. ذهبت فوجدت، مع احترامي للجميع، حفنة من العجائز يدمنون المشروبات العشبية بينما العنكبوت تنسج خيوطها في زوايا الجدران. الإضاءة دائماً خافتة. في البداية ظننتها من علامات الهيبة والوقار ولكنى أدركت بمرور الوقت أنها أعراض الموت البطىء.
ويلاحظ بركة أنه "لم يتخلق بين جنبات "الاتيليه" اتجاه أدبي ما يساهم في تقديم وجوه جديدة وفشل حتى في أن يصبح نادياً اجتماعياً! بالطبع أنا أتحدث عن تجربتي مع المكان في العشرين عاماً الأخيرة، ولا أصادر حق أجيال أخرى تفتَّح وعيُها على المكان حين كان شعلة متوهجة تعد بصناعة مستقبل أفضل للثقافة المصرية... وبعيداً عن الجدل المثار، حالياً يبدو لي المثقفين المصريين وكأنهم يبحثون عن قضية ما يتوحدون عليها بعد سنوات طويلة من العجز والتشرزم والفشل في صياغة حركة فكرية فعالة".
وتقول الكاتبة صفاء عبد المنعم: "لا أتخيل يوماً أن أجد نفسى في وسط البلد، ولا أجد "أتيليه القاهرة"؛ المكان الآمن وسط الأصدقاء الذي يفتح لنا ذراعيه لنحتسي الشاي، ونحضر ندوة أو نتتأمل لوحات معرض فن تشكيلي... منذ فترة طويلة نسمع أن هناك قضية ضد "أتيليه القاهرة" من ورثة ملاكه الأصليين، بسبب تأخر الإدارة في دفع الايجار السنوي الزهيد لهم، لكني لا أملك معلومات كافية في هذا الصدد على رغم أني أحمل عضوية رسمية فيه. ما أعرفه يقيناً هو أن "أتيلية القاهرة" كان شعلة نشاط بندواته الأدبية وأمسياته الموسيقية ومعارضه للفن التشكيلي، ثم أخذ ذلك كله في الانحسار تدريجاً فتجمّد النشاط تقريباً وأصبح محظوراً على جماعة محبي سيد درويش إقامة نشاطها الأسبوعي فيه، وتم إغلاق طابقه العلوي، وبات الإهمال هو المسيطر، ومن ثم بات الأعضاء لا يجدون ما يشجعهم على التردد على المكان".
وتضيف عبد المنعم: "أنا لا يهمنى من هو رئيس مجلس الإدارة ولا أعضاء المجلس لأنها لعبة تباديل وتوافيق، ونادرا ما أحضر الجمعية العمومية، ولكن حزني الحقيقي هو على ضياع ما جاهد من أجله الآباء من الفنانين والأدباء منذ ثلاثينات القرن الماضي، والأمر تتسع رقعته يوما بعد يوم، عبر إغلاق المراكز الثقافية في وسط القاهرة الواحد بعد الآخر، وهدم الكثير من المعالم التي شكلت ذاكرة أجيال عدة. أعتقد أن التاريخ هو مربط الفرس هنا، ولو أن هناك فكراً تآمرياً يتحرك منذ بيع القطاع العام فى التسعينات، فهو في قمته الآن. فتشوا عن الشركات والمصانع التي بيعت وتحولت إلى أبراج سكنية في ظل خفوت دور الدولة الثقافي الاجتماعي الذي كان في ذروته في ستينيات القرن الماضي".
وتقول الكاتبة منى الشيمي: "في ظني أن انتزاع "الأتيليه" ليس مؤامرة على الثقافة والمثقفين. مراكز تفعيل الأنشطة وممارستها كثيرة جدا، و"الأتيليه" في السنوات الأخيرة كان تقريباً خارج الخدمة. الأمر مرتبط بضرب مراكز رفض التطبيع مع إسرائيل في ظل ما يتردد عما يسمى حالياً بصفقة القرن، وما يقال في إطاره عن رد الاعتبار لليهود الذين خرجوا من مصر أو أخرجوا منها بعد حربي 1948 و1956 ليساهموا مجددا في انعاش الاقتصاد المصري، بعد أن يستردوا ممتلكاتهم ومنها أتيليه القاهرة! وفي الإطار ذاته جاءت على ما أعتقد زيارة وفد يهودي أميركي لمصر للمطالبة بالإشراف على ترميم مقبرة البساتين (جنوب القاهرة)، التي تعتبر ثاني أقدم مقبرة يهودية في العالم".
وتضيف الشيمي: "بخصوص حاجتنا الى "الأتيليه"، أقول: بالطبع كل مكان ثقافي هو منارة، والحقيقة ليست لديَّ اقتراحات للحفاظ عليه من الانتزاع إلا الاحتجاج، فهل بإمكان الوسط الثقافي توحيد الرأي والاصطفاف بعيدا عن الانقسام والتشاتم؟".
ويقول الناقد والروائي سيد الوكيل: استمرار وجود أي مؤسسة أو نظام ليس كافياً، لأن عوامل الزمن تفت في عضده مهما كانت قيمته، و"الأتيليه" نال الكثير من عوامل الهدم على مر الزمن، والأمور أصبحت أكثر صعوبة بعد القضية التي رفعتها وزارة التضامن نيابة عن ورثة مالكي المبنى، وتفاقمت أكتر بقرارات وقف النشاط وتجميد التمويل، حتى ظهرت على "الأتيليه" علامات الشيخوخة والتداعي. أنا أعرف أن مجلس الإدارة ؛ على ما يعانيه من انقسام، لديه رغبة في الاستمرار والدفاع عن هذا الكيان، الذي كان رمزاً دالاً على فاعلية الثقافة المصرية، وليس من الحصافة أن نتخلى عنه لمجرد أن عوامل الهِرم ظهرت عليه ، فمن واجبنا إنقاذه بتجديد شبابه. لكن يجب أن نعرف أن الثقافة لم تعد مجهوداً فردياً، ولا حتى عملاً مؤسسياً. الثقافة منتج يحتاج دعماً مالياً ومجتمعياً إلى جانب دور الدولة، لتكون فاعلة ومثمرة. والسؤال، لماذا يتقاعس رجال الأعمال عن هذا الدور، ولا سيما أن الدور الحكومي عاجز عن حل المشكلة؟ الحكومة في المرحلة الحالية لديها أولويات ليست الثقافة من بينها، لأننا في مرحلة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ومن ناحية أخرى، المحاكم ملتزمة بالقوانين الخاصة بحقوق الملكية، بغض النظر عن جنسية المالك وديانته، فالقوانين هي الواجهة الحضارية لأدي دولة. أعتقد أن الحل هو شراء المبنى وتعويض مالكه، لكن من يدفع الثمن؟ هذا هو السؤال. هناك اقتراحات عدة، كلها تعتمد على دور المجتمع المدني، رجال الأعمال مثلاً، اكتتاب بين المثقفين، أما دور الدولة فيمكن أن ينحصر في تخصيص مبنى بديل بمواصفات مناسبة. أظن أن الدولة لديها الكثير من الأصول غير المستغلة، تتبع وزارة الأوقاف أو وزارة الثقافة أو غيرهما. بالمناسبة، قصر ثقافة "روض الفرج" تحول إلى خرابة، وقصر السينما في جاردن سيتي هو مكان فخم لكن بلا عطاء ملموس. والحال نفسه ينطبق على نادي الأدباء ونادي القصة في شارع القصر العيني. السؤال عن أسباب تداعي ووهن هذه المنشآت الثقافية لا معنى له، لكن المهم أن نجد طريقاً لإنقاذها وتفعيلها، وتحريرها من اللوائح المعطلة لتكون منتجة. أقترح على وزيرة الثقافة تكوين لجنة متخصصة تكون مهمتها البحث عن حلول. لكن تركها وشأنها لتخوض حروبها مع الزمن والروتين والمحاكم وصراعات المجالس الإدارية الهشة والشائخة وسلبية المثقفين سينتهى بكارثة.