ملخص
يدرس عالم الأحياء المدارية الأميركي، المهتم بالحشرات الاجتماعية، مارك موفيت، في كتابه "السرب البشري: كيف تنشأ مجتمعاتنا وتزدهر وتسقط"، عضوية المجتمع بصفتها مكوناً محدداً لشعورنا بأنفسنا، وهو الأمر الذي ينبغي درسه، وفقاً لملاحظته، بموازاة العرق والإثنية، وهي محددات يمكن أن تثير القدر نفسه من البدائية والجاذبية العاطفية.
بحسب الباحث الأميركي مارك موفيت الحاصل على الدكتوراه في علم الأحياء العضوية والنشوئية من جامعة هارفارد، يمكن المكانة الرفيعة التي نمنحها لمجتمعاتنا وإثنياتنا وأعراقنا، مقارنة بنواح أخرى من هويتنا، "أن تبدو غير منطقية على الإطلاق". ويضيف أنه عندما تتصارع المعتقدات في شأن ما يشكله مجتمع ما أو من ينتمي إليه، تتصاعد الشكوك وتتداعى الروابط وتحضر إلى الذهن كلمة القبلية التي تشير إلى أشخاص يجتمعون حول أي شيء، بداية بحب سباق السيارات، وصولاً إلى إنكار الاحترار العالمي، معتبراً أن فكرة القبيلة المستعملة استعمالاً موسعاً جداً بهذه الطريقة، "تعد موضوعاً شائعاً في قوائم الكتب الأكثر مبيعاً".
لكن عندما نتحدث، يوضح موفيت، عن قبيلة ينتمي إليها أحد سكان مرتفعات غينيا الجديدة، أو القبلية في ما يتعلق بالروابط التي تشدنا إلى مجتمع معين، فإن ما يكون في أذهاننا هو كيف أن شعوراً دائماً على مدى الحياة بالانتماء يثير الحب والولاء، لكن أيضاً حين يعبر عنه في ما يتصل بعلاقاتنا بالغرباء، يثير الكراهية والدمار واليأس.
يحاول هذا الكتاب الذي صدر في جزأين بترجمة أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة دمشق نايف الياسين، ضمن سلسلة "عالم المعرفة" (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت)، الإجابة عن سؤال مفصلي هو: لماذا تمكن البشر وحدهم من الوصول إلى هذا المستوى من التنظيم الاجتماعي الذي لا يوازيه شيء آخر لدى أي من الأنواع الأخرى من المخلوقات؟ إنه استكشاف للمجتمع البشري من أصوله الأولى إلى الحضارات الكبرى الموجودة على كوكبنا اليوم، ويبين كيف تمكن البشر من إقامة مجتمعات والمحافظة عليها بأحجام وتعقيدات لا مثيل لها في عالم الحيوان.
فكرتان أساسيتان
ثمة فكرتان أساسيتان بنى عليهما مارك موفيت كتابه الصادر بالانجليزية عام 2019 عن هاشيت بوك غروب، الأولى هي أن المجتمعات البشرية ومجتمعات الحشرات الاجتماعية تتشابهان أكثر مما نعتقد أو نرغب في الاعتقاد، والثانية الشكل الفريد والمعقد للهوية البشرية التي تحدد من ينتمي إلى مجتمعاتنا ومن هو غريب عنها، وتنبع أهمية الفكرة الثانية من أن جميع الحيوانات الأخرى التي تبني مجتمعات، مثل الفيلة والرئيسيات، تعتمد على التعرف الشخصي، وبالتالي فإن عدد أفراد مجتمعاتها يبقى مقيداً بهذا الشرط، أي نحو 200 فرد، أما البشر والحشرات الاجتماعية مثل النمل فتتميز بقدرتها على العيش في مجتمعات مغفلة الهوية، وبالتالي تبلغ مجتمعاتها أحجاماً هائلة من دون أن تنقسم أو تتفكك.
ولاحظ موفيت أنه مع نشوء الزراعة والاستقرار وتراكم المشكلات وتطور التكنولوجيا وازدياد عدد أفراد المجتمعات، تراجعت المساواة وظهر القادة الذين بات تدخلهم ضرورياً للتنظيم وحل الخلافات، وهنا، يضيف موفيت، ظهرت أيضاً ضرورة وضع علامات تحدد من ينتمي إلى مجتمع معين ومن لا ينتمي إليه وكيفية التعامل مع الأغراب، وفي حين يعتمد النمل على الرائحة لتمييز أفراد مجتمعه فإن لدى البشر مجموعة كبيرة من علامات الهوية ومنها اللغة واللباس والأعلام.
يأخذ موفيت القارئ في هذا الكتاب إلى جولة شاملة ومرتبة زمنياً في التاريخ العميق للبشرية، من الرئيسيات إلى الصيادين الجامعين، ويتفرع عرضه إلى مجالات معرفية ذات صلة مثل علمي النفس والأنثروبولوجيا وعلم الأعراق واللغويات وعلم النفس، لتغطية النقاط التي يتناولها.
وفي خلاصة تلك الجولة التي توزعت في الكتاب على تسعة محاور احتواها 27 فصلاً، أنه عندما سار أسلافنا عبر السافانا الأفريقية والساحل الأسترالي والسهول الأميركية فإنهم كانوا يتنقلون في فرق صغيرة مترابطة، مكونة من رفاق ظلوا بصحبتهم مدى الحياة، يبحثون معاً عن الغذاء والماء، ونادراً ما كانوا يواجهون بشراً آخرين، وبمرور العصور كبرت المجتمعات إلى درجة أننا نتحرك الآن كالنمل في سرب لا يعرف أفراده بعضهم بعضاً، وباتت أدمغتنا المصممة للتفاعل مع عدد أقل من الأفراد والمجموعات مكتظة، "ولذلك فقد استقى هذا الكتاب مادته من كثير من ميادين الدراسة لفهم طبيعة المجتمعات وفهم الكيفية التي نتكيف فيها مع هذا الحمل الزائد، واكتشاف كثير من الأشياء في سياق فعل ذلك" (ص 248 - الجزء الثاني).
ضرورة المجتمعات
وهنا يخلُص موفيت إلى بضعة استنتاجات جوهرية، والاستنتاج الأكثر جوهرية بتعبيره هو أن المجتمعات ليست مجرد اختراع بشري لكنها مع ذلك ضرورية للظرف البشري بالنظر إلى أنها وجدت منذ الأزل، وفيما تشكل الروائح علامة على الهوية عند الحشرات فإن علامات الهوية لدى البشر تتراوح من اللهجات والإشارات إلى طرق ارتداء الملابس والطقوس والأعلام، لكن عند نقطة معينة من النمو لا تعود تلك العلامات كافية لتحقيق التماسك بين أفراد المجتمع البشري، ومن ثم تعتمد المجتمعات البشرية الكبيرة على التفاعل بين علامات الهوية وقبول القيادة والسيطرة الاجتماعية، إضافة إلى زيادة الالتزام بالتخصصات مثل الوظائف والمجموعات الاجتماعية.
وفي خاتمة الكتاب أيضاً يسأل موفيت عن السيناريو الأمثل لمستقبل مجتمعاتنا، وما الذي سيوافر الصحة الاجتماعية وطول العمر، وفي هذا السياق يؤكد موفيت أن النزعة الحالية في ابتعاد المجتمعات عن دعم التنوع لتركيز هويتها الوطنية، تمثلت على نحو أضيق في المجموعة المهيمنة فيها، ولكن على رغم ذلك فإن الأقليات لن تختفي، مضيفاً أنه "يمكن أن نبطئ الهجرة لكن لم يعد من الممكن طرد الإثنيات الأخرى كم فعل الرومان أحياناً عندما ساءت الأحوال".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى المؤلف كذلك أنه لحسن الحظ فإن الولايات المتحدة الأميركية باتت بين عدد متزايد من الأمم اليوم التي تعد استثنائية، ليس من حيث التعددية الإثنية فقط بل من حيث غناها من جميع النواحي، وتفخر تلك الأمم بوفرة فرص العمل فيها والخيارات الدينية وتشجيع الرياضات وجماعات مصالح أخرى، ويمكن لقرن الوفرة هذا أن يزيد من قوة المجتمع بمنح مواطنيه كثيراً من الخيارات التي تضيف طبقات إلى هوياتهم الشخصية وارتباطاتهم مع الآخرين، ويسأل "كم من الوقت يمكن لمجتمع أن يظل قوياً في وجه العلاقات المتحولة بين أفراده؟"، ويرى أنه سيظل سؤالاً مقلقاً، موضحاً أنه لكي يظل المجتمكع سليماً بوسائل غير القوة فينبغي أن تحفّز جميع المجموعات الفرعية للاحتشاد بشغف متساو حول هوية محورية جامعة، "وهو أمر يسهل قوله أكثر من فعله بالنظر إلى الحريات والسلطة الأكبر المتاحة للغالبية للتلاعب بقواعد اللعبة لمصلحتها، وفي كثير من الأحيان من خلال مؤسسات تكون على نحو رئيس تحت سيطرة طبقتها الاجتماعية العليا" (ص 255 - الجزء الثاني)
ويختم موفيت بالقول "لقد كانت بلوانا دائماً أن المجتمعات لا تمحو الاستياء، بل إنها ببساطة تعيد توجيهه نحو الغرباء، والمفارقة أن أولئك يمكن أن يشملوا مجموعات إثنية داخل المجتمعات، فيما معارفنا المتطورة بالآخرين ليست كافية دائماً لتحسين الكيفية التي نعاملهم بها، ومن ثم سيترتب علينا أن نفهم على نحو أفضل الدافع للنظر إلى البشر الآخرين على أنهم أقل بشرية، إذا كان لنوعنا البشري أن يتحرر من تاريخ من التنافر بين المجموعات يعود لما قبل العصور القديمة، نعم سنظل منقسمين وعلينا أن نقف معاً منقسمين".