يستهل الكاتب سفيان رجب روايته "ساعة نوح" بحكاية نوح المجنون الذي شوهد في آخر أيامه يركض على الشاطئ قبالة بنزرت، ممسكاً في يده حفنة رمل، وفي الأخرى حفنة ثلج. وكان "كلما أدرك الماء، ألقى حفنة الرمل في البحر، وحفنة الثلج على الشاطئ"، من خلال نوح الذي يشتبك اسمه مع العنوان، يتحول الكاتب إلى قصة بلقاسم وصديقته الأوكرانية أولغا.
يتخذ الروائي التونسي سفيان رجب من تقسيم فصول السرد في روايته "ساعة نوح"، (دار روايات)، بين حفنتي الرمل والثلج، هيكلاً لبناء الرواية، وتناوب فصولها السردية بين بلقاسم مع حفنة الرمل، وأولغا مع الثلج، وكأن كلاً منهما يرمز إلى الأرض التي أتى منها.
تقاطعات الجنون
تتمحور أحداث الرواية حول بلقاسم، وهو شاب تونسي بحار ومثقف وشيوعي، يعيش في قرية صغيرة قرب ميناء بنزرت، يعمل في صيد السمك، ويعتنق الفكر الماركسي متأثراً بجده الذي كان يُعرف كأول شيوعي في قريتهم. بلقاسم كان مفتوناً بسيرة جده الذي واجه قسوة مجتمعه لأنه قزم، وعاش حياة مليئة بالصراعات والنضال، إلى جانب هذه الخلفية الاجتماعية، تظهر شخصية نوح الذي يحمل ساعة رملية، ويتجول في البلدة طالباً من الناس أن يسردوا قصصهم له. نوح الذي يُنظر إليه على أنه مجنون، الحاضر الغائب، يبدو كما لو أنه يُعبر بصورة واضحة عن الصوت الرمزي والفلسفي في الرواية، إذ يعمل كمرآة تعكس تفاصيل الحياة والموت والزمن.
تظهر المرأة الأوكرانية أولغا لتمثل بعداً إنسانياً يتجاوز حدود السرد المحلي، لينفتح أفق الحكاية والأماكن على أبعاد أخرى، ترتبط بالحرب الأوكرانية- الروسية وما أدت إليه على مستوى التهجير والقتل والموت. وكانت أولغا، في الماضي، جاءت إلى البلدة كمتطوعة لخدمة سيدة عجوز وابنها المريض، تتعرف إلى بلقاسم، وتنشأ بينهما صداقة ودودة، لكنها تمثل حباً عميقاً بالنسبة إليه.
هذا الحب الذي لم يكتمل في البداية يعود للظهور، عندما تتصل أولغا ببلقاسم بعد أعوام من مغادرتها البلدة، طلباً للمساعدة بسبب الحرب بين روسيا وأوكرانيا. لنقرأ، "تعرفت إلى أولغا بمنزل السيدة أنستازيا، ربيع 2009، كانت في العشرينيات من عمرها، بقوام لاعبات التنس الروسيات، وعينين زرقاوين، ومطر خفيف من النمش الفضي على وجهها... في ربيع 2011، فاجأتني بقرار عودتها إلى بلدها... وفاجأتني من جديد برسالة موجزة على الفيسبوك، في بداية هذه السنة، تقول لي فيها: بعد أيام قليلة ستدخل أوكرانيا في حرب، سأهرب إلى تونس".
هكذا تعود أولغا لتونس برفقة ابنتها المقعدة ليزا، تقيم مع بلقاسم ووالده. لا يتأخر الكاتب في الكشف عن التحولات الكبيرة التي حصلت لأولغا خلال هذه الأعوام، الفتاة الجميلة الرشيقة، تغير جسدها، تضخم وأصبحت تغطيه الأوشام، ولا يتوانى بلقاسم عن القول، "كانت تبدو مثل مومسات أوروبا الشرقية اللواتي يرافقن السياح الروس، في نزهاتهم السياحية بتونس".
رمزية الساعة
يبدأ التصاعد الدرامي للأحداث من حياة بلقاسم البسيطة، وصولاً إلى مأساته الكبرى. ويشكل حدث انقطاع أولغا عن بلقاسم، ثم عودتها لحياته، تحولاً محورياً في عالمه لأن العلاقة بينهما تعكس واقعاً متناقضاً لحال من الحب غير المتكافئ.
تسلط الرواية الضوء على تعقيدات الحياة الإنسانية من خلال حكايات تتداخل، كي تعكس أزمات الهوية والانتماء والحب، كما تستكشف الحدود بين الضعف والقوة والماضي والحاضر والذات والمجتمع، ولعل الأهم من ذلك الهزيمة الفردية الواضحة مع معظم الشخصيات الذكورية، الجد القزم، الأب هادي والد بلقاسم يصاب بحادثة سير ويفقد أطرافه، والحفيد بطل الرواية بلقاسم ونهايته المأسوية، وأيضاً الكاتب أمجد صديق بلقاسم ومصيره المفجع، وهناك أيضاً نوح الذي يُلقي بظلال جنونه على سائر الأبطال، وكأن لعنته تطاولهم جميعاً. في المقابل نجد أولغا، على رغم الملامح النفسية الغامضة لها، فقد ظلت أكثر ثباتاً واستقراراً من سائر الشخوص، بخاصة في اختيارها البقاء في تونس مع بلقاسم وإنجاب طفل منه. تنجو أولغا من ثقل الهويات والمصائر، شاخصة نحو الغد، على رغم كل العلائق الثقيلة التي تشدها إلى الوراء، وعلى رغم اختيارها تسمية ابنها الذي أنجبته من بلقاسم "نوح"، تقول في ختام السرد، "وصلت أخيراً إلى الميناء القديم، أوقفت سيارتي على الرصيف. وضعت إليزا على كرسيها المتحرك، وحملت نوح بين أحضاني، وتوجهت نحو البحر، دافعة كرسي إليزا برفق.. عاد بي شريط الأحداث التي عشتها في بنزرت، منذ لقائي ببيل قاسم، إلى حد الدقائق القليلة، لما وقفت أمامه في مستشفى الأمراض العقلية. فتجسد لي البحر والبر عاشقين يتناجيان، الأول يمسك ساعة ينسكب منها الماء، والثاني يمسك ساعة ينسكب منها الرمل. كان كل منهما يروي قصته للآخر".
مصائر موجعة
تزخر الرواية بكثير من الرموز التي تعكس قضايا وجودية واجتماعية، شخصية نوح المجنون بساعته الرملية تحمل دلالة واضحة للزمن كعامل حاكم في مصائر الشخصيات المختلفة، بما فيها من سرد متداخل بين مواضيع مؤثرة مثل الحروب والثورات والنضال السياسي والحب والفقد والانتماء.
وتمثل شخصية الجد القزم مع العبارة التي تصفه: "عشت قزماً ومت بطلاً"، رمزاً للثبات في وجه الظروف القاسية، مجسداً الكفاح من أجل تحقيق الذات، في مجتمع قاسٍ وغير متسامح مع أمثاله. ومع ذلك، فإن الجد لا يبدو بطلاً يحقق مفهوم البطولة بصورة تقليدية، بل هو شخصية مليئة بالتعقيدات، عاش حياة صعبة وواجه خيانة رفاقه في النضال، مما يضيف أبعاداً إنسانية إلى شخصيته.
سرد بلقاسم حكاية جده لصديقه الكاتب أمجد، ومن هنا تبدأ أزمة الرواية الحقيقية حين يقرر بلقاسم قتل صديقه عبر إغراقه في البحر لأنه خانه وباح بحكاية الجد القزم عبر كتابتها في رواية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لذا يمكن اعتبار بلقاسم الشخصية المحورية التي تربط عوالم الرواية وشخوصها، بطلاً تراجيدياً يعيش صراعاً دائماً بين الماضي والحاضر. علاقته بأولغا وشكوكه الدائمة بها تعكس هشاشته العاطفية، وسعيه إلى إيجاد معنى لحياته في ظل الفقد والخذلان، قتله لصديقه يكشف عن مدى خوفه من الحقيقة والجهر بها، وعدم إيمانه بالفن، هذا يظهر أيضاً عند قراءته نصوص أولغا وتخيلاته عن أنها جاءت كي تنقل معلومات أمنية إلى جهة ما. يقول "هذه الأوكرانية التي تهذي بسيرة قزم يزورها في أحلامها، مكلفة بمهمة تجسس على حفيد لينين الأسود. لا أتصور أنها لاجئة من الحرب في بلادها... هل كانت مكلفة بمهمة تصفيتي، مثلما صفى ذلك الجاسوس ريمون ميركادير الرفيق تروتسكي؟".
أما نوح الذي يحضر اسمه في العنوان، فيوجز بلقاسم قصته بأنه عرفه في مطلع الألفية الجديدة، كان يجلس بين الرفاق بصورة دائمة، من دون أن يعرف أحد أي شيء عنه، كان شاباً لطيفا وجميلاً، ذا ابتسامة جذابة، وكان محباً للقصص المثيرة، وجذبه حبه للقصص إلى مجالسة بلقاسم ورفاقه البحارة، ولاحقاً أصيب نوح بالجنون، لكنه ظل في القرية يسكن في خيمة، ويستمع إلى القصص التي ربما كانت السبب في جنونه، كما يرى بلقاسم.
ازدواجية السرد
في تشابك السرد وتحولاته، تمزج الرواية بين الواقعية والفلسفة والرمزية النفسية، سواء في الكشف عن التباينات الثقافية والجغرافية بين أولغا وبلقاسم، أيضاً في الإحالة إلى أقوال كتاب وأدباء عالميين وعرب، مثل لوركا وستيفان زفايغ وناظم حكمت ودوستويفسكي وأولغا توكارتشوك وغيرهم، يفتتح بها بعض الفصول، مثل القول المؤثر للكاتب الإيطالي جوزي تومازي دي لابينوزا، "الحب نار ولهيب طوال سنة واحدة، ورماد طوال ثلاثين سنة بعدها"، وقول آخر للكاتب نفسه، "لقد كان الله يشفي عميان الجسد، أما عميان الروح فماذا يكون مصيرهم؟".
استخدم الكاتب بصورة غير مباشرة تقنية وجود رواية داخل الرواية، بأن ضمن رواية جده التي يسرد أجزاء منها على مسامع أولغا، وصديقه أمجد داخل مجرى السرد. وجاءت عناوين بعض الفصول كاشفة لمضمونها، مثل "إعدام صديق خائن" و"إعدام رواية" و"المخطوط المسموم" و"الكمين" و"السيرة الأصلية لجد بيل قاسم" و"كيف أصبحت شيوعياً؟" و"الحياة الشاسعة والمعتقدات الضيقة". والجدير بالملاحظة أيضاً أن اسم بلقاسم يتحول إلى بيل قاسم حين ينتقل السرد إلى أولغا، في إشارة إلى تحريف الاسم بسبب جهلها باللغة العربية.
قدم الكاتب أجواء البلدة التونسية وشخصياتها بدقة، مما جعل العمل قريباً من الواقع ومعبراً عن تعقيدات الحياة، مع الاستناد إلى لغة بسيطة ومباشرة في وصف الأحداث والشخصيات والصراعات الداخلية. ولم تقتصر واقعية السرد على تصوير الأماكن أو الشخصيات فحسب، بل شملت كذلك تحليل المشاعر والمواقف الإنسانية، وذكر بعض الأحداث السياسية التي حصلت في تونس وأماكن أخرى، وأيضاً الحرب بين روسيا وأوكرانيا التي تظهر في خلفية الأحداث في كل ما يتعلق بماضي أولغا وحاضرها. تنتقد الرواية بصورة ضمنية واقع المهمشين، سواء كانوا مثل الجد الذي وُصف بالقزم، أو نوح الذي عُدَّ مجنوناً، كما اختار الكاتب أن يترك النهاية مفتوحة، وبذلك جاءت منسجمة مع السياق الكلي للسرد وواقعيته المرتبطة بقضايا راهنة لم تحسم بعد.