ملخص
توجهنا إلى مجموعة من السوريين في مخيمات اللجوء المنتشرة على الأراضي اللبنانية بجملة أسئلة حول خيار العودة أو البقاء بعد أعوام من النزوح. وهناك سمعنا قصصاً عن عشرات السوريين الذين غادروا في الساعات والأيام القليلة الماضية ما إن سمعوا بسقوط بشار الأسد، وأقفلوا الباب على قصة لجوئهم في لبنان التي استمرت لسنوات طويلة.
لكن في المقابل تبرز مجموعة كبيرة من السوريين الذين يفضلون البقاء هنا أقله في المرحلة الراهنة.
تقاطر النازحون السوريون نحو المعابر الشرعية اللبنانية - السورية عائدين إلى بلادهم فور سماعهم نبأ سقوط نظام بشار الأسد، بعد معاناة استمرت لأكثر من 13 عاماً شهدت فيها سوريا حرباً مهولة دفعت بهم إلى التشرد في شتى بلدان العالم، في أكبر أزمة نزوح شهدها العالم عبر التاريخ.
يعد غالب النازحين أن دوافع بقائهم في لبنان قد تلاشت، إذ "لا اعتقال تعسفياً، ولا للحيطان آذان تسمع، ولا إخفاء وراء الشمس" بحجة مطالبتهم بالحرية. منهم من يرى أن العودة الآمنة قد توفرت، لكن الظروف المواتية، خصوصاً بيوتهم المدمرة، ستجبرهم على البقاء في لبنان حتى الانتهاء من إعادة الإعمار. في المقابل غصت المعابر بين لبنان وسوريا بموجة نزوح جديدة من مؤيدي النظام ومناصريه إلى داخل لبنان، خوفاً من الملاحقة والثأر من قبل جماعات الفصائل المعارضة.
شهادات من المعاناة اليومية والتحديات
توجهنا إلى مجموعة من السوريين في مخيمات اللجوء المنتشرة على الأراضي اللبنانية بجملة أسئلة حول خيار العودة أو البقاء بعد سنوات من النزوح. وهناك سمعنا قصصاً عن عشرات السوريين الذين غادروا في الساعات والأيام القليلة الماضية ما إن سمعوا بسقوط بشار الأسد، وأقفلوا الباب على قصة لجوئهم في لبنان التي استمرت لأعوام طويلة.
لكن في المقابل تبرز مجموعة كبيرة من السوريين الذين يفضلون البقاء هنا أقله في المرحلة الراهنة.
يقول السوري خالد اللبدي الذي قضى أعواماً طويلة في لبنان "لن أعود وعائلتي إلى سوريا قبل استعادة الأمن والأمان في أحياء دمشق"، ويضيف "العديد من الأفراد المغادرين للأراضي السورية هم ملاحقون في الأساس من الجماعات المسلحة". وبذلك تحولت الأراضي اللبنانية من ملجأ لمعارضي نظام الأسد إلى ملاذ آمن لمؤيديه وفلوله، من ثم يستمر اليوم الخوف من حال عدم الاستقرار التي تشهدها سوريا وموجة النزوح الآتية إلى لبنان.
وفي جولة لـ"اندبندنت عربية" على مخيم بر الياس في منطقة البقاع شرق لبنان، القريبة من الحدود اللبنانية- السورية، يعبر النازح إبراهيم علوش عن مشاعر مختلطة من الشجن والأمل قائلاً "13 عاماً مرت، ولم يتغير شيء". يتحدث علوش بمرارة عن واقع العودة إلى سوريا، مضيفاً "من يملك منزلاً في سوريا قد يجد طريقه للعودة، لكن ماذا عن أولئك الذين فقدوا كل شيء؟ عليهم أن يعيدوا بناء حياتهم من جديد وسط الركام، وهذا يبدو كأنه مهمة مستحيلة في ظل هذا الدمار الهائل".
يروي علوش بعينين مثقلتين بحكايات الفقد، واقعاً يتكرر في كل زاوية من المخيمات. دمار غير مسبوق يجعل العودة فكرة مؤجلة، "هناك أشخاص يذهبون ويعودون، لكن الوضع المعيشي في سوريا تحت الصفر. كل البيوت تحتاج إلى تصليحات جذرية، وحتى الآن لا مساعدات ملموسة من الأمن العام أو الأمم المتحدة تسهل علينا العودة".
هذا وانطلقت في بر الياس بعض الاحتفالات الرمزية إيذاناً بعودة مزعومة، ولكن على أرض الواقع، لا شيء ملموساً. "الناس سئمت الغربة، ملت الانتظار. صحيح أن الخوف من العودة قد تلاشى، لكن التحديات الحقيقية تبدأ بعد أول خطوة نحو الوطن. كيف يمكن أن تعود إلى بلد بلا بيت يؤويك؟ زيارة قد تكون ممكنة، أما الاستقرار، فهو قصة أخرى".
أمام خيمة إبراهيم، فيتقاطع صمت الأرض مع ضجيج الأسئلة الكبرى: متى تنتهي الغربة، متى ينتهي الانتظار؟ وبين أطلال الوطن وأحلام العودة، تقف حكايات النازحين شاهدة على زمن لم ينصفهم.
"الهرب من الجحيم"
من ناحية أخرى وتحت أشعة شمس المخيم التي تنعكس على خيمة بالكاد تحمي ساكنيها، يجلس وليد، رب لأسرة مؤلفة من ثمانية أشخاص، يتأمل أطلال الماضي وحطام المستقبل. "في الصيف، كانت منازلنا في سوريا مدمرة بالكامل. العودة؟ لا يمكن أن تحدث إلا إذا توفر مأوى مناسب. نحن من القصير، غرب دمشق، منطقة كانت تعج بالجماعات المسلحة لكنها الآن خالية تماماً. وعلى رغم ذلك، الطريق إلى العودة مليء بالعوائق، وأبسطها أجرة النقل التي باتت حلماً بعيد المنال في ظل الأوضاع الاقتصادية في لبنان".
يستذكر وليد، مشاهد لا تمحى من رحلة النزوح عام 2012، ويروي "هربنا من القصف في سوريا لحماية أطفالنا. كنا مزارعين نعيش من أرضنا، لكننا اضطررنا لبيع كل شيء قبل الهرب. رحلتنا كانت شاقة، قطعناها سيراً على الأقدام وعبر دراجات نارية إلى منطقة حوش السيد علي في لبنان، ثم إلى الهرمل باستخدام سيارات تهريبية. استغرقت الرحلة 15 يوماً، كانت مليئة بالخوف والتعب، خصوصاً على الأطفال. حتى اليوم، لا تزال آثارها النفسية تطاردهم". تحت وطأة الأمل الذي يتناقص يوماً بعد يوم، يتساءل وليد بصوت مبحوح "إلى متى سنظل نعيش هكذا؟ بين وطن مدمر وغربة قاسية؟ العودة ليست مجرد قرار، إنها رحلة شاقة تحتاج دعماً وإرادة حقيقية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دور الأمن العام اللبناني
منذ عام 2017، نفذت المديرية العامة للأمن العام اللبناني خطة العودة الآمنة والطوعية للاجئين السوريين بالتنسيق مع السلطات السورية حينها والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، مما أدى إلى عودة أكثر من 22 ألف سوري إلى بلادهم عبر حافلات خاصة وبإشراف الأمن العام اللبناني. تأثرت وتيرة تنفيذ الخطة بالظروف الاستثنائية التي مر بها لبنان، مثل جائحة كورونا، والانهيار الاقتصادي، وانفجار مرفأ بيروت.
إضافة إلى ذلك، قدمت المديرية تسهيلات للسوريين الراغبين في العودة، بما في ذلك تسوية أوضاع المخالفين لنظام الإقامة على المعابر الحدودية وفي مراكز الأمن العام. وخلال الحرب الأخيرة بين إسرائيل و"حزب الله"، اتخذت المديرية إجراءات إضافية لتسوية أوضاع السوريين مباشرة على الحدود، مما أسهم في تحسين أوضاع عديد منهم. وكانت التقارير أفادت بأن أكثر من 400 ألف سوري غادروا لبنان بسبب هذه الحرب.
وضع المعابر الحدودية
في السياق صرح العميد الإداري المتقاعد في الأمن العام، رئيس تحرير مجلة "الأمن العام"، العميد منير عقيقي في حديث إلى "اندبندنت عربية"، بأن "الوضع الحالي للمعابر البرية على الحدود اللبنانية السورية يعكس تداعيات الضربات الإسرائيلية المتكررة التي ألحقت أضراراً بالغة بالطرقات والمباني"، موضحاً أن "معظم المعابر مغلقة، باستثناء معبر المصنع البري الذي لا يزال يعمل كمعبر رسمي وحيد للدخول والخروج".
وأشار العميد عقيقي إلى أن "معبر القاع في البقاع يشهد حركة مشاة فقط بسبب تدمير إسرائيل للطرق المؤدية إليه، مما جعل العبور بالآليات مستحيلاً. أما في الشمال، فإن المعابر الثلاثة المتبقية (البقيعة، العبودية، والعريضة) متوقفة عن العمل نتيجة الضربات التي طاولت المواقع والمباني الحدودية".
ولفت إلى أنه "في البقاع أيضاً، يشهد معبر مطربا الواقع شمال مدينة الهرمل حركة مشاة فحسب، في حين أن معبر الزمراني في عرسال لا يعد معبراً شرعياً، إذ لا توجد فيه عناصر أمنية بل انتشار للجيش اللبناني الذي يتولى تنظيم حركة الدخول والخروج للسوريين".
عدد المغادرين السوريين
يوضح العميد عقيقي أن "أعداد السوريين المغادرين تنقسم بين من يستخدمون المعابر الشرعية ومن يلجأون إلى طرق غير شرعية. أما اليوم، ومع تغير المشهد في سوريا، فإن تقدير أعداد المغادرين بدقة لا يزال صعباً. ومع ذلك، قامت المديرية العامة للأمن العام بتقديم تسهيلات لتسوية أوضاعهم من دون تحميلهم رسوم مخالفة لنظام الإقامة في لبنان".
ودعا العميد المجتمع الدولي إلى "مواكبة هذه القضية"، مشيراً إلى أن "التحولات الجديدة في سوريا أزالت عديداً من الشروط التي كانت تعوق عودة النازحين السوريين"، مؤكداً "ضرورة مراجعة سياسات المجتمع الدولي والمنظمات الدولية تجاه ملف النزوح السوري، خصوصاً أن الأمن العام اللبناني يعدهم نازحين بينما سجلتهم المفوضية السامية لاجئين".
الإجراءات الأمنية
وفي سياق تعزيز الإجراءات الأمنية، أوضح العميد أن "الدولة اللبنانية قامت بواجباتها قدر الإمكان، إذ طلبت من الجيش والأجهزة الأمنية تكثيف وجودها على الحدود الشمالية الشرقية. ورغم هذه الجهود، تبقى بعض المناطق معرضة للتسلل بسبب طبيعة الحدود الوعرة والمتداخلة بين البلدين، مما يستدعي تنسيقاً أكبر مع المجتمع الدول".
مع سقوط نظام بشار الأسد، يتزايد الاهتمام بتداعيات هذا التحول على مستقبل سوريا، خصوصاً ما يتعلق بملف اللاجئين السوريين المنتشرين في دول الجوار. ويعد لبنان أحد أبرز البلدان المستضيفة، إذ يعيش فيه نحو 1.5 مليون لاجئ سوري، بينهم 700 ألف مسجلين لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
في هذا السياق، أشارت المسؤولة الإعلامية والمتحدثة الرسمية باسم المفوضية في لبنان دلال حرب، في حديث إلى "اندبندنت عربية" إلى أن "المفوضية على علم بتقارير تفيد بعودة بعض السوريين من لبنان إلى بلادهم"، موضحة أن "هذه التحركات تشمل عبور اللاجئين من معبر المصنع الحدودي في البقاع، في حين تبقى المعابر الرسمية في شمال لبنان مغلقة"، لافتة إلى أن "عودة اللاجئين تتم أيضاً عبر معابر غير رسمية في مناطق أخرى"، مشيرة إلى أن "الأمن العام اللبناني أعلن عن إجراءات لتسهيل هذه العودة".
عودة طوعية ضمن ظروف آمنة
وأكدت حرب أن "حق اللاجئين في العودة إلى وطنهم حق أساسي"، مشددة على "ضرورة أن تكون العودة طوعية، كريمة، وآمنة"، لافتة إلى أن "الوضع داخل سوريا لا يزال غير مستقر، إذ يحاول عديد من السوريين تقييم الظروف الأمنية والمعيشية قبل اتخاذ قرار العودة". وأضافت أن "المفوضية تدعم فكرة تنظيم زيارات استكشافية (Go and See visits) لتمكين اللاجئين من الاطلاع على الأوضاع في مناطقهم الأصلية قبل العودة النهائية".
عن الاستجابة للمستجدات، أشارت حرب إلى أن "المفوضية تتابع من كثب التطورات المتعلقة بعودة اللاجئين السوريين، وتبقى على اتصال مع السلطات المعنية لتوفير الدعم اللازم ومتابعة أي مستجدات"، مؤكدة أن "الأشخاص الفارين من العنف والاضطهاد لديهم الحق في طلب الأمان عبر الحدود وسط أهمية ضمان الحماية لهم في ظل التحديات المستمرة".
في وقت تتزايد فيه الدعوات لعودة اللاجئين مع سقوط النظام، ترى حرب أن "الأولوية يجب أن تركز على تهيئة الظروف المناسبة التي تضمن سلامة العائدين"، مشددة على "أهمية دعم اللاجئين خلال هذه المرحلة الانتقالية، سواء من خلال تأمين المساعدات الإنسانية أو تعزيز الحوار مع الجهات المعنية لتسهيل العودة المستدامة".