ملخص
هناك من لم يفقد الأمل في كالاس، ففي المقابل أعرب ميكا ألتولا عضو البرلمان الفنلندي من حزب "الشعب الأوروبي" عن إيمانه القوي بقدرة كالاس على تحقيق التوافق، ولهذا قال لشبكة "دويتشه فيله" الإخبارية الألمانية "حسب ما أفهم عن كالاس، فهي قادرة على بناء التوافق، وهي براغماتية جيدة".
تبدو القارة الأوروبية بالفعل في حاجة ماسة إلى من يجدد شبابها ويدفع مزيداً من الدماء في شرايينها السياسية والفكرية، وبخاصة في ظل توقعات بأن تكون السنوات المقبلة، أكثر إثارة، سلماً أو حرباً، فعلى صعيد السلم، يدلف إلى البيت الأبيض رئيس جديد لا يمكن لعدو أو صديق أن يتوقع قراراته، أو يستشرف توجهاته، السياسية والاقتصادية، ولأوروبا معه تجربة مثيرة في ولايته الأولى الممتدة من 2016 إلى 2020، ولا ينتظر أن يتغير كثيراً في الأقل في ظل شعاره "أميركا أولاً".
وعلى صعيد الحرب، لا تبدو هناك في الأفق تباشير نهاية للحرب بين روسيا وأوكرانيا، بل على العكس من ذلك، ها هي معظم دول أوروبا تعد أوراقها لحرب طويلة، وما رشح عن عملية "دويتشلاند" الألمانية السرية، يكفي لاعتقاد المرء بأن حرباً عالمية ثالثة ستدور رحاها في الأراضي الأوروبية بنوع خاص.
وبين السلم والحرب، تبدو الطبقات الحضارية في الداخل الأوروبي غير مرتاحة لبعضها بعضاً، لا سيما في ظل تصاعد موجات الشوفينية والقومية، وما يصاحبهما من توجهات عنصرية قاتلة تؤثر في السلام والطمأنينة في داخل القارة التي صدرت للعالم النزعات الإنسانية.
وإن ينسى المرء فلا ينسى المواقف الأوروبية المختلفة من العلاقة مع الصين بنوع خاص، والتي تبدو ملتبسة، فبعد مرحلة متقدمة من العلاقات الثنائية، جاء انفلاش فيروس "كوفيد-19" ليغير الأوضاع ويبدل الطباع، بل ويفتح باباً للشكوك في هشاشة النظام الصيني، والكلف التي يجب على أوروبا دفعها، حال توثيق العلاقات أكثر، لا سيما في ظل التحالف الثنائي المثير للجدل بين روسيا والصين من جهة، وإطار مع تسميه واشنطن "محور الشر الرباعي" الجديد، ذاك التمثل في روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران.
هل كان الاتحاد الأوروبي في حاجة بالفعل لشخصية حديدية تخلف منسق السياسات العامة للاتحاد الحالي جوزيب بوريل؟
يبدو أن الأوروبيين قد وجدوا ضالتهم المنشودة في كايا كالاس رئيسة وزراء إستونيا، والتي استقالت للتفرغ لهذه المهام الجسيمة، والتي ترسم الخطوط اللازمة لأوروبا مغايرة.
من هي كالاس؟ ولماذا يلقبونها بالمرأة الحديدية؟ وماذا عن عدائها المثير والخطر للقيصر الروسي فلاديمير بوتين؟ وهل يمكنها، بالفعل، أن تنتشل الاتحاد الأوروبي من حالة التكلس التي أصابته، وتجنبه المزيد من المآزق في السنوات المقبلة؟
كايا كالاس... امرأة إستونيا الحديدية
كايا كالاس هي ابنة رئيس الوزراء الإستوني السابق ومفوض الاتحاد الأوروبي سيم كالاس، وقد ولدت عندما كانت إستونيا لا تزال جزءاً من الاتحاد السوفياتي قبل أن تستعيد استقلالها عام 1991.
كالاس من مواليد عام 1977، سياسية ودبلوماسية، وتنتمي لعائلة سياسية عريقة، فقد كان جد كالاي لأبيها، إدوارد ألفر محامياً، وقائداً لرابطة الدفاع الإستونية أثناء حرب الاستقلال الإستونية من 1918 إلى 1920، كما شغل منصب رئيس شرطة البلاد وجهاز الأمن الداخلي.
وإلى جانب أصولها الإستونية، تمتلك كالاس، أيضاً، أصولاً بعيدة من لاتفيا وألمانية بلطيقية، كما اكتشف الصحافيون الاستقصائيون الذين بحثوا في أصول والدها بعد فترة وجيزة من توليه منصب رئيس الوزراء، مما يعني أن دماء أوروبية متعددة تجري في عروقها.
وتحمل كالاس درجة البكالوريوس في القانون، والماجستير في إدارة الأعمال، وعملت كمحامية في عدد من كبريات شركات المحاماة في إستونيا. وعام 2010 انضمت إلى "حزب الإصلاح" الإستوني، وفي 2014 فازت بعضوية البرلمان الأوروبي، وخلال فترة عملها كرست جهوداً كبيرة للعمل على استراتيجية السوق الرقمية الموحدة.
وفي 2017 عادت إلى إستونيا، وأصبحت أول زعيمة لحزب سياسي كبير، وما إلا بضع سنوات حتى وصلت إلى منصب رئيسة وزراء إستونيا. وجذبت كالاس الانتباه الدولي كقائدة في الجهود المبذولة لدعم أوكرانيا خلال الهجوم الروسي حيث سلمت مزيداً من المعدات العسكرية إلى أوكرانيا كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي للفرد أكثر من أي دولة أخرى في العالم.
وفي الـ28 من يونيو (حزيران) الماضي بدا واضحاً أن رؤية كالاس للحرب الروسية - الأوكرانية، وما قدمته من جهود، فاقت كبريات الدول الأوروبية، مكن لدى زعماء الاتحاد الأوروبي لترشيحها لتصبح الممثلة الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية خلفاً لجوزيب بوريل الإسباني الذي أطلق تصريحات عدة عن أوروبا قبل أكثر من عام، تسبب بعضها في قلق حول عودة أوروبا إلى مرحلة الانعزالية، وبعيداً من العالم المحيط بها.
لا تبدو كالاس متحدثة بارعة فقط باللسانيات، إذ تجيد، إلى جانب لغتها الأم الإستونية، اللغات الإنجليزية والفنلندية والروسية والفرنسية، بل يبدو من النظر إلى أفكارها وتصريحاتها المختلفة، عطفاً على مواقفها السياسية السابقة، أنها عقل أوروبي، جاء في لحظة حاسمة، عقل يعرف ثقل الوطأة السوفياتية، ويخشى من عودة قريبة لروسيا النووية، تتم فيها مهاجمة دول القارة الأوروبية، بعدما بعدت أوكرانيا مدخلاً أولياً. على أن علامة استفهام مهمة ومحورية ترتبط باختيار كالاس، وحال ومآل دول أوروبا الشرقية... ماذا عن هذا؟
كالاس رسالة قوية لروسيا - بوتين
بعد الاختيار الأول، وقبل موافقة البرلمان الأوروبي صرحت كالاس بأن هذا المنصب يمثل مسؤولية هائلة في هذه اللحظة من التوترات الجيوسياسية. وأضافت، "سأكون في خدمة مصالحنا المشتركة، يجب أن تكون أوروبا مكاناً يتمتع فيه الناس بالحرية والأمان والازدهار".
يتساءل المرء، "هل من رسالة ما حملها ترشيح كالاس للمنصب الأوروبي الكبير؟".
الثابت أنه حتى أشهر قليلة مضت، كانت كالاس من أبرز المرشحين في السباق لخلافة ينس ستولتنبرغ في منصب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، غير أن سمعتها، باعتبارها صقراً مضاداً لروسيا، أفسدت فرصتها، وحتى لا يكون في الأمر إشارة ما لعداوة مستقبلية من "الناتو" لروسيا، وحتى لو كان الأمر بالفعل كذلك.
لاحقاً اتفقت الدول الأعضاء المؤثرة في حلف شمال الأطلسي، وكثير منها من الاتحاد الأوروبي، على أنه في ظل الحرب في أوكرانيا، لم يعد من الممكن إبقاء الدول الأعضاء من أوروبا الشرقية على هامش التسلسل الهرمي في بروكسل. ومع ذلك كانت هناك مخاوف من أن تسليم منصب الأمن الأعلى لزعيم من دول البلطيق كان بمثابة رسالة قوية للغاية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وعلاوة على ذلك، كانت إمكانية حدوث تغيير في القيادة الأميركية، وهو ما حدث بالفعل، حول من يمكنه التعامل بصورة أفضل مع دونالد ترمب، إذا فاز في الانتخابات الرئاسية، محل تساؤل أيضاً.
والشاهد أن كالاس كانت من الحذاقة والمرونة أن تقبلت الأمر بصدر رحب، وأيدت رئيس وزراء هولندا السابق مارك روته كرئيس جديد لحلف شمال الأطلسي. ومع ذلك اشتبه المراقبون في أن خروجها غير المبالي كان جزءاً من اتفاق مهد الطريق لها لتصبح الممثلة العليا للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، وهو المنصب الذي رشحت له في قمة الاتحاد الأوروبي التي عقدت بعد الانتخابات في يونيو الماضي.
كانت كالاس (47 سنة)، من الزعماء الأوائل للاتحاد الأوروبي الذين دقوا ناقوس الخطر في شأن مخططات بوتين التوسعية، محذرة زملاءها من الوقوع في فخ الاعتقاد أن العلاقات التجارية الجديدة مع موسكو يمكن أن تتجنب الأزمة التي وجدت أوروبا نفسها فيها في ما بعد، وذلك عندما غزت روسيا أوكرانيا.
في هذا الصدد تقول ميريلي أرجاكا زميلة المركز الدولي للدفاع والأمن، وهو مركز أبحاث في تالين في إستونيا "إن ترشيحها يثبت أنها، الآن، وجهة النظر السائدة في عواصم الاتحاد الأوروبي". ويبدو أن مؤهلات كالاس وغرائزها، لا سيما التاريخية تجاه روسيا، ومن قبل الاتحاد السوفياتي، قد تحولت، بالفعل، إلى أصول بعدما قرر الاتحاد الأوروبي الخروج من منطقة الراحة والاستعداد لمواجهة التهديد الروسي، حتى إن البعض يفكرون في إعادة التجنيد العسكري، ولو بصورة إلزامية.
هل يمكن اعتبار كالاس محركاً جديداً ضمن المحركات الأوروبية في عالم ما بعد الأزمة الأوكرانية؟
ربما يمكن الجواب عن علامة الاستفهام المتقدمة، حال الغوص في أولويات كالاس وما تعتبره أولويات، في زمن القلاقل الجيوسياسية القائمة والقادمة.
روسيا أولوية كالاس السياسية المتقدمة
"نحن لسنا خائفين"، بهذه العبارة تؤسس كالاس لعهد أوروبي جديد، وبتعميق السؤال ممن الخوف؟ يدرك القارئ أن روسيا هي المسببة الرئيسة للذعر في أوروبا المعاصرة، وإلى درجة أن بدأ الأطلسي في إعداد قواته لحرب عالمية ثالثة، مما تجلى في ما عرف قبل أيام قليلة بخطة "دويتشلاند" الألمانية لمواجهة غزو روسي - أوروبي قادم.
والثابت أنه، باعتبارها رئيسة وزراء إستونيا، وهي دولة صغيرة كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي حتى عام 1991، وابنة امرأة تم ترحيلها إلى سيبيريا عندما كانت طفلة، فإن كالاس تفهم جيداً ما يمكن أن يحدث إذا خسرت أوكرانيا حربها مع روسيا أو اضطرت إلى التنازل عن أراضٍ.
من هنا ستكون أولويتها القصوى، باعتبارها كبيرة الدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي، ضمان استعداد الأوروبيين لمنع أي تقدم روسي في المستقبل.
ولأن الحرب في أوكرانيا قد كشفت عن عديد من نقاط الضعف في أوروبا، بما في ذلك عدم كفاية إنتاج الذخائر والثغرات في قدرات المراقبة والاستطلاع عبر الأقمار الاصطناعية، لذا فإن كالاس قدمت بالفعل في الفترة الماضية، أفكاراً لتمويل توسيع القدرات الدفاعية، وهي فكرة أيدها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتشير التقارير إلى أنها ربما طرحت هذه الفكرة في فبراير (شباط) الماضي في هامبورغ مع المستشار الألماني أولاف شولتز.
تبدو رؤية كالاس لروسيا، إحدى أهم أحجار الزاوية التي يمكن أن تجمع الأوروبيين على فكرة واحدة، ودائماً ما كررت أنه في حال التماهي أو الصمت عن العدوان البوتيني الوحشي على أوكرانيا، فإن ذلك سيعد بمثابة ضوء أخضر من الأوروبيين للروس بتكرار المشهد مرة جديدة.
ويزخم مستقبل كالاس بفعل ماضيها في إستونيا المقاوم لكل ما يذكر شعبها القليل عدداً، بمرارة العقود التي جثمت فيها الشيوعية على صدرها، ولهذا فإنه في عمل رمزي لانفصال إستونيا عن ماضيها، قامت الحكومة هناك بقيادة كالاس بإزالة المعالم التذكارية للحرب التي تعود إلى الحقبة السوفياتية، وهي العملية التي اكتسبت زخماً بعد الهجوم على أوكرانيا.
وردت موسكو على هذا النحو بوضعها على قائمة المجرمين المطلوبين للعدالة، غير أن هذا التصرف قابلته كالاس بتصريح ناري قالت فيه، "عندما حصلنا على استقلالنا، كان لدينا كثير من المخاوف الأخرى، والآن، عندما بدأت الحرب، فتحت كل الجراح". على أن تركيز كالاس على روسيا، يدفع البعض إلى التساؤل، "هل يمكن أن يعطلها هذا التوجه الأيديولوجي عن ملاقاة كثير من الخطوب والأخطار القائمة والقادمة ضمن صفوف الاتحاد الأوروبي اليوم؟".
يرى البعض أن هناك ملفات عديدة مفتوحة ستكون على كالاس مناقشتها، منها مخاوف ما هو موصول بالصين من جهة، وبعلاقة أوروبا بالولايات المتحدة الأميركية في زمن ترمب من ناحية ثانية، وبين هذا وذاك، تبقى قضايا الصراع الداخلي في أوروبا كامنة، وتنذر بقلاقل كبرى، لا سيما في ضوء نشوء وارتقاء الشعبوياًت اليمينية المتشددة إلى حد المتطرفة... ماذا عن بقية تلك التحديات؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كالاس... عن أوروبا وأميركا الانعزالية
لعلها من مصادفات القدر أن تواكب مرحلة كايا كالاس عودة الرئيس الأميركي ترمب إلى البيت الأبيض لأربع سنوات أخرى، مما يطرح علامة استفهام حول مستقبل العلاقة بين جانبي الأطلسي، وبخاصة في ضوء ما هو معروف ومألوف من رغبة ترمب في الانعزالية، مما يجعل الأوروبيين يتساءلون، "ماذا نحن فاعلون؟".
في كل الأحوال يمكن القول إن كالاس تعد صديقة صدوقة للولايات المتحدة، وسياساتها الدولية، بغض النظر عمن يسكن البيت الأبيض، وسواء كان جمهورياً أم ديمقراطياً. والثابت أنها من موقعها كرئيسة لوزراء إستونيا، بدت مواقفها طيبة للغاية تجاه واشنطن، ففي فبراير الماضي، التقت كالاس وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، وناقشا تعزيز الوجود الأميركي في إستونيا، ودعم موقف الردع والدفاع لحلف شمال الأطلسي، وكذلك مساندة أوكرانيا في مواجهتها روسيا.
وبعد الاجتماع صرحت كالاس، "لقد شكرت وزير الدفاع لويد أوستن والولايات المتحدة على عملهما في دعم أوكرانيا وتعزيز حلف الأطلسي. إن تعاوننا الثنائي ووجودهما هنا له أهمية أساسية في ضمان أمن إستونيا والحلف، وردع لروسيا والتصدي للتهديدات الصادرة عنها".
وبدت كالاس وكأنها خبيرة بدروب النفس الأميركية، وأجادت العزف على أوتار الغرور الإمبراطوري الأميركي وذلك بقولها "إن مساهمة الولايات المتحدة في أمن إستونيا وأوروبا ثابتة. ويشكل الوجود المعزز للقوات الأميركية في إستونيا ومنطقتنا تأكيداً على أهمية العلاقات عبر الأطلسية بين الحلفاء، ما يمكننا من جعل موقف الدفاع والردع لحلف شمال الأطلسي أكثر فاعلية على الجناح الشرقي".
وبدت كالاس في زيارتها الولايات المتحدة، في فبراير الماضي، وكأنها تقدم أوراق اعتمادها للنخبة الأميركية الماورائية، لا سيما حين اعتبرت "أن فوز أوكرانيا في هذه الحرب أمر وجودي بالنسبة إلى النظام العالمي، وكذلك لمسارات الديمقراطية ومساقات سيادة القانون".
وفي الوقت عينه رأت كالاس، "أن الطريقة التي تفوز بها أوكرانيا، وتخسر بها روسيا، ستستمر في التأثير في أمن أوروبا ولفترة طويلة، وأنه لضمان انتصار أوكرانيا، يجب استمرار المساعدات العسكرية من قبل الحلفاء وزيادتها، ويجب الحد من فرص روسيا في تمويل حربها العدوانية". على أن مجيء ترمب بعد فوزه الكبير، دفع كالاس في الـ11 من نوفمبر الماضي للقول، "من غير الواضح ما الذي سيفعله ترمب في شأن الحرب في أوكرانيا، وفي أي اتجاه سيمضي".
فهل هناك بالفعل من الأسباب ما يجعل كالاس الإستونية الأصل والجذور تبدو وكأنها قلقة بحذر من مجيء ترمب؟
لعل عديداً من الأصوات الجمهورية تكاد تقطع بأن ترمب يتطلع أول الأمر وآخره إلى وقف هذه الحرب العبثية، والضغط على كلا الطرفين لتحقيق نوع من أنواع الهدنة ثم الاتفاق. غير أنه، وإن كانت لترمب مصلحة متقدمة مع روسيا، يهدف من خلالها إلى فض التحالف بين روسيا والصين، فإن ذلك يمكن أن يعرض الأوكرانيين إلى توقف الدعم العسكري الأميركي، وقد نقل بالفعل عن نائب الرئيس الأميركي المنتخب حديثاً جي دي فانس قوله "إن أجزاء من أوكرانيا يمكن أن تبقى مع روسيا كجزء من اتفاق سلام". وتبدو مثل هذه التصريحات مزعجة بالفعل لكالاسن، ولهذا نراها قالت "هذا نظرنا إلى التاريخ، فإن الانعزالية لم تنجح أبداً، ولم تكن يوماً في صالح الولايات المتحدة".
كالاس مع واشنطن ضد روسيا والصين
تؤمن كالاس إيماناً عميقاً بأن هذا هو وقت يجب فيه على العالم الديمقراطي أن يشكل فريقاً ممتازاً من أجل دعم أوكرانيا، وليس أفضل من تعزيز العلاقة بين جانبي الأطلسي، تلك التي استطاعت الوقوف في وجه النازية في زمن الحرب العالمية الثانية، وتضافرت جهودهما معاً في وجه الزحف الشيوعي في أوان الحرب الباردة.
ولم يكن غريباً أن تتخذ كالاس، وفي وقت مبكر، مواقف متشددة تجاه روسيا والصين، ذلك أنها تعتبرهما من الأنظمة الشمولية المعادية للحرية والديمقراطية، وقد بدأت مبكراً بالفعل في إرسال إشارات مفادها بأنها ستتخذ موقفاً صارماً تجاه روسيا والصين، وستكون مدافعة عن تحالف قوي بين أوروبا وأميركا.
وتتجاوز رؤية كالاس المستقبلية العلاقات الأوروبية - الأميركية، إلى التحذير من الخطر الرباعي القادم لمحور الشر الجديد، فقد حذرت من أن روسيا وإيران وكوريا الشمالية والصين، تريد تغيير النظام العالمي القادم، والخروج القائم على القواعد المستقرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى الساعة، ولهذا دعت الاتحاد الأوروبي إلى الرد على هذا التهديد إلى جانب أقرب حلفائه وشركائه "من دون أن نخسر شبراً واحداً من هويتنا".
وتبدو كالاس وكأنها غير صديقة للصين، لكنها بلا شك أقل حدة في عدائها لبكين من مشاعرها ناحية موسكو، ولأنها تفهم طبيعة السياسات الأميركية القائمة على الغزل على المتناقضات، بين موسكو وبكين، لذا فقد تحدثت في جلسة الاستماع التي جرت لها في الـ12 نوفمبر الماضي بالقول، "إذا كانت الولايات المتحدة تشعر بالقلق إزاء الصين، والجهات الفاعلة الأخرى، فيجب أن تشعر بالقلق، أيضاً، في شأن كيفية ردنا على روسيا ضد أوكرانيا". والشاهد أنه إذا كانت مواقف كالاس من روسيا تجعلها مطلوبة للعدالة هناك، فإن مواقفها الصارمة من الصين قد ظهرت بالفعل في أوقات مبكرة.
وكانت المرة الأولى التي لاحت فيها مشاعرها أثناء توليها منصب رئيسة وزراء إستونيا، عندما دعت حكومتها إلى تعزيز سياسة إستونيا تجاه الصين في إطار العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين. غير أن هذا التوجه سرعان ما تغير، ففي عام 2022 أعلنت إستونيا انسحابها من آلية "التعاون بين الصين ودول وسط وشرق أوروبا" التي تقودها بكين، والتي تعرف باسم آلية "16+1".
هل ستتبع كالاس إجراءات أكثر خشونة وحزماً ضد الصين؟
يقول بعض المتخصصين في السياسات الأوروبية إن هذا ما ستجري به المقادير بالفعل، وإنها ستتبع سياسة أكثر صرامة تجاه بكين مقارنة بسياسات سلفها جوزيب بوريل. وفي هذا الصدد تقول إليزي بينليت الخبيرة في اللجنة الاقتصادية والاجتماعية الأوروبية المتخصصة في العلاقات الصينية - الأوروبية "إن كالاس من المرجح أن تسعى للحصول على دعم واسع وكبير للحد من قدرة الصين على خوض الحرب نيابة عن روسيا". ومعروف أنه منذ الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير 2022، دان الاتحاد الأوروبي دعم بكين لموسكو، ولهذا فقد قالت كالاس من قبل "من دون دعم الصين لا تستطيع روسيا مواصلة الحرب بالشدة نفسها". وأضافت، "الصين يجب أن تواجه كلفة أعلى لدعمها روسيا في الحرب ضد أوكرانيا"، ملمحة إلى فرض عقوبات أكثر ردعاً.
لا تبدو كالاس، في واقع الحال، من المتحمسين لمشروع الصين الإمبراطوري "الطريق والحزام"، كما أنها تؤمن أن سياسات الصين الخفية، وستارها الحديدي الموازي للستار السوفياتي البائد، انت السبب في الوفيات المليونية التي حلت بالأوروبيين، من جراء تفشي فيروس "كوفيد-19"، وأنه لو كانت هناك شفافية في المعلومات، أو حرية رأي، لما خسرت أوروبا بضعة تريليونات من اليوروهات في الأعوام الماضية.
فهل يمكن القول إن مواقف كالاس من الصين يمكن أن تكون مدخلاً أوروبياً متميزاً للتواصل مع إدارة ترمب الجديدة، بصورة أفضل مما كان عليه الوضع في زمن إدارته الأولى؟
الجواب عند مديرة السياسة والشؤون الأوروبية في معهد "ميركاتو" الألماني أبيجيل فاسيليز لإذاعة "صوت أميركا"، "الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى تجنب حالة الذعر التي وقع فيها مع إدارة ترمب الأولى، وأنه يتعين بدلاً من ذلك أن تسعى كالاس إلى التنسيق مع إدارة ترمب، بما في ذلك، تقديم توصيات في شأن القضايا المتعلقة بالصين".
فهل كالاس بعيدة من ملفات الصراع في الشرق الأوسط؟
رؤية كالاس للصراع العربي - الإسرائيلي
كيف سيكون موقف كالاس من أزمات الشرق الأوسط، ولا سيما الصراع الدائر في غزة؟
بلا شك يبقى الشرق الأوسط، الجار الأقرب تاريخياً وجغرافياً للقارة الأوروبية، وقد جاء اختيار كالاس ونهاية فترة بوريل، ليجد ترحيباً كبيراً في إسرائيل، والتي كانت تعتبر بوريل منحازاً للعرب والفلسطينيين.
يقول مدير معهد "أي جي كي" عبر الأطلسي دانييل شفامنتال، وهو المكتب الذي يتبع اللجنة اليهودية - الأميركية في بروكسل، "إن الإسرائيليين شعروا أن بوريل كان غير عادل في انتقاده لبلادهم". ويوضح، "يرى الإسرائيليون أنه معادٍ لإسرائيل بالتالي غير مناسب للقيام بدور الوساطة في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني".
تؤمن كالاس أنه لا بد أن يكون للاتحاد الأوروبي دور في حل هذا النزاع الذي طال، لا سيما أنه يلقي بظلال على الجاليات العربية والإسلامية المقيمة في أوروبا، وبما يمكن أن يهدد حالة السلم والأمن، وعليه فإنه لا بد لها من خطوات محددة تقوم بها لتفعيل وساطة تقبلها الأطراف الشرق أوسطية كافة. غير أن هناك أصواتاً توجه انتقادات شديدة ولاذعة لشخص كالاس على هذا الصعيد.
خذ إليك على سبيل المثال تصريحات النائبة السويدية إيفين إنسير عضو البرلمان الأوروبي من مجموعة الاشتراكيين والديمقراطيين، والتي أعربت عن قلقها من أن كالاس لم تعط أولوية كافية للوضع الإنساني في غزة، ولم يسمع صوتها بصورة عالية، كما كانت تأمل المجموعة.
وعلى رغم أن كالاس من بين من يرون أن حل الدولتين هو الطريق الأكثر أماناً لإنهاء هذا النزاع، فإن آخرين يرون أن دعمها هذه الفكرة قد جاء في وقت غير مناسب أو متأخر، ومن بين هؤلاء بيتر ماندل عضو البرلمان الأوروبي النمسوي الذي اعتبر أنه من غير المجدي الحديث فقط عن حل الدولتين من دون توفر الظروف المناسبة.
لكن من جهة أخرى هناك من لم يفقد الأمل في كالاس، ففي المقابل أعرب ميكا ألتولا عضو البرلمان الفنلندي من حزب "الشعب الأوروبي"، أكبر مجموعة برلمانية في الاتحاد الأوروبي عن إيمانه القوي بقدرة كالاس على تحقيق التوافق، ولهذا قال لشبكة "دويتشه فيله" الإخبارية الألمانية "حسب ما أفهم عن كالاس، فهي قادرة على بناء التوافق، وهي براغماتية جيدة".
ومن الوهلة الأولى، يمكن القول إن الخرق الأوروبي يتسع على الراتق الإستوني، بمعنى أن معضلات أوروبا المتراكمة، قد تبدو وكأنها أكثر من أن تحتملها تلك الشقراء الأربعينية. غير أن سيدة استطاعت أن تتسبب في إزعاج الكرملين، ودفعه لمطاردتها، يمكن أن تضحى بالفعل علامة بارزة بين الأوروبيين، لا سيما في مثل هذا التوقيت القلق والمضطرب من المحاور الاستراتيجية كافة، ما بين روسيا المتحفزة للانقضاض على أوروبا والعالم، وأميركا غير واضحة المعالم، لا سيما مع إدارة يمكن اعتبارها الطبعة الثانية لليمين الأميركي المتشدد وعالم ما بعد المحافظين الجدد، عطفاً على المواجهة مع الصين، ناهيك بصوريات اليمين الشعبوي في الداخل الأوروبي.
فهل سيقدر لكالاس أن تنجح في ما أخفق فيه بوريل؟
دعونا نراقب، ولو بحذر.