Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مخطط ترمب على الساحة الدولية

ملامح السياسة الخارجية وعواقبها في فترة ولايته الثانية

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يومئ بيده إلى أنصاره في ويست بالم بيتش بولاية فلوريدا، نوفمبر 2024 (براين سنايدر/رويترز)

ملخص

لقد فاز ترمب بفرصة تحديد سياسة الأمن القومي الأميركية وسيتحكم بالقوة المهيبة التي يجسّدها فريقه من المستشارين الموالين لكن العالم سيكتشف قريباً ما إذا كانت لدى هذا الفريق درجة كافية من الحكمة أيضاً

إن "وحيد القرن الرمادي"، وهو مصطلح يشير إلى اضطراب متوقع ومُتنبأ به منذ فترة طويلة لكنّه لا يزال يثير الصدمة عندما يحدث، قد اصطدم بالسياسة الخارجية الأميركية: فاز دونالد ترمب بولاية ثانية كرئيس للولايات المتحدة.

وعلى رغم أن استطلاعات الرأي توقعت سباقاً متقارباً، جاءت النتائج النهائية حاسمة نسبياً، وعلى رغم أننا لا نعرف التشكيلة الدقيقة للنظام الجديد، فنحن نعلم أن ترمب سيكون على رأس هذا النظام.

لقد شكّل فوز ترمب عام 2016 مفاجأة أكبر بكثير، وتمحور جزء كبير من النقاش في الأسابيع التي تلت يوم الانتخابات حول مسائل تتعلق بالطريقة التي قد يحكم فيها ومدى التغيير الذي قد يسعى إلى إحداثه في دور الولايات المتحدة على الساحة العالمية، وبسبب طبيعته غير المتوقعة وأسلوبه المتقلب وأفكاره غير المتماسكة أو غير الواضحة تماماً، يظل بعض هذه الأسئلة مطروحاً حتى اليوم، ولكن لدينا الآن معلومات أكثر بعد أربعة أعوام من مراقبته وهو يترأس البلاد، وأربعة أعوام من تحليل فترة حكمه، وعام كامل من متابعة حملته الثالثة للوصول إلى البيت الأبيض. مع هذه البيانات أصبح من الممكن وضع التوقعات حول ما قد يسعى ترمب إلى تحقيقه في ولايته الثانية، أما المجهول المعلوم فهو كيفية تفاعل بقية العالم معه وما ستكون عليه النتيجة النهائية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هناك أمران أساسان واضحان، أولاً كما كانت الحال في ولاية ترمب الأولى (وكما هي الحال في جميع الإدارات الرئاسية)، سيعمل موظفو الإدارة على صياغة السياسة، وستتنافس الفصائل المختلفة على النفوذ، بعضها يحمل أفكاراً متطرفة حول إعادة تشكيل هيكل الدولة الإداري والسياسة الخارجية الأميركية، وبعضها الآخر يحمل وجهات نظر أكثر تقليدية، ولكن هذه المرة ستكون الجماعات الأكثر تطرفاً هي الأقوى وستسعى إلى استغلال نفوذها لتهميش الأصوات المعتدلة وإضعاف دور المهنيين المدنيين والعسكريين الذين يُنظر إليهم على أنهم ينتمون إلى "الدولة العميقة"، وربما أيضاً استخدام أدوات الحكومة ضد خصوم ترمب ومنتقديه.

ثانياً، لا يزال جوهر نهج ترمب في السياسة الخارجية، القائم على المعاملاتية المكشوفة [أو الميل إلى عقد الصفقات]، على حاله، لكن السياق الذي سيحاول فيه تنفيذ أسلوبه الغريب في إبرام الصفقات قد تغير بصورة كبيرة: فالعالم اليوم أكثر خطورة بكثير مما كان عليه خلال ولايته الأولى. إن الخطاب الذي اعتمده ترمب خلال حملته الانتخابية رسم صورة قاتمة للعالم، وقد وصف نفسه وفريقه في هذا الخطاب على أنهم واقعيّون متشددون يفهمون الخطر المحدق.

إلا أن ما قدموه كان أقرب إلى الخيال الحالم منه إلى الواقعية: مجموعة من التفاخرات الخيالية والنصائح السطحية التي لا تُظهر أي فهم حقيقي للتهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة، وقد يعتمد نجاح ترمب الفعلي في حماية المصالح الأميركية في هذا السياق المعقد على مدى سرعة تخلّيه هو وفريقه عن الصورة الكاريكاتورية التي أقنعت أكثر من نصف الناخبين بقليل، والتركيز عوضاً عن ذلك على مواجهة العالم كما هو في الواقع.

التوظيف المسيس

أول مهمة يواجهها ترمب ستكون الانتقال الرسمي، حتى في أفضل الظروف، يُعتبر هذا إجراء بيروقراطياً يصعب تنفيذه، ومن المستبعد أن يسير بسلاسة هذه المرة، سبق أن أظهر ترمب ازدراءه للعملية، ومن أجل تجنب الخضوع لقيود أخلاقية صارمة، رفض حتى الآن التعاون مع "إدارة الخدمات العامة"، المسؤولة عن توفير البنية التحتية التي تتيح للحكومة المنتظرة جمع المعلومات اللازمة لكي تكون جاهزة للعمل منذ اليوم الأول.

ومع ذلك، قد لا يبطئ غياب الانتقال التقليدي تَقدّم الإدارة الجديدة كثيراً، إذ إنها أوكلت معظم العمل بالفعل إلى "مشروع 2025" السيئ السمعة التابع لمؤسسة "هيريتج" ومشروع الانتقال الأقل شهرة الذي خطط له معهد "أميركا أولاً" America First Institute.

بالمقارنة مع الجهود الرمزية المبذولة من جانب الفريق الانتقالي الرسمي بقيادة عضو الكونغرس السابقة تولسي جابارد وروبرت إف. كينيدي الابن، يُعتبر العمل الذي أنجزه المؤمنون الحقيقيون بشعار "لنجعل أميركا عظيمة من جديد" (ماغا) أعمق تأثيراً وهو يكشف ملامح السياسات المحتملة لإدارة ترمب المقبلة بصورة أوضح بكثير.

وسوف تكون عملية الانتقال أقل أهمية وتأثيراً إذا نفذ فريق ترمب خططه الرامية إلى التخلي عن عمليات التحقق من الخلفية التي يجريها "مكتب التحقيقات الفيدرالي "أف بي آي"، واكتفى بجعل الرئيس يمنح التصاريح الأمنية على أساس عملية التدقيق الداخلية التي يجريها فريق الحملة، مما يسمح لترمب بمنع الاعتراض على اختياراته المفضلة للموظفين بسبب أسرار محرجة وماضٍ غير موائم.

من المحتمل أن يُعتبر هذا الإجراء المتطرف قانونياً، لكنه غير ممكن التطبيق إلا بعد تنصيب ترمب، وفي هذه الأثناء، ستكون أمام إدارة بايدن المنتهية ولايتها قدرة محدودة على التنسيق مع فريق ترمب المقبل بالطريقة التقليدية لأن موظفي ترمب لن يكون بحوزتهم أي تصاريح أمنية.

وسيكون هذا الأمر أكثر أهمية إذا قرر ترمب أن يعيّن في المناصب العليا بعض الشخصيات المتطرفة التي تهيمن الآن على دائرته المقربة، وحتى إذا لم ينفذ ترمب الأفكار الأكثر جرأة وجنوناً التي طرحها خلال الحملة الانتخابية، مثل تعيين هيرشل ووكر نجم كرة القدم المتقاعد والمرشح الذي لم يتمكن من الوصول إلى مجلس الشيوخ عام 2022 مسؤولاً عن الدفاع الصاروخي، إلا أنه قد يجلب إلى مناصب الأمن القومي أفراداً مثل الجنرال المتقاعد مايكل فلين أو ستيف بانون، اللذين كانت مشكلاتهما مع القانون لتمنعهما عادةً من أن يشغلا مناصب في أجهزة الأمن القومي.

في جميع الأحوال، سيصل مع فريق عازم على تنفيذ عدد كبير من الخطط نفسها التي نجح أفراد أقل تطرفاً في إقناع ترمب بالتراجع عنها خلال ولايته الأولى، على سبيل المثال، بعد خسارة انتخابات عام 2020، أراد ترمب فرض انسحاب متعجل من أفغانستان في أسابيعه الأخيرة كقائد أعلى للقوات المسلحة، وهو نوع الانسحاب الكارثي نفسه الذي سمح به الرئيس جو بايدن بعد نصف عام، ولكن عندما أشار بعض أفراد فريقه المتبقين من الأمن القومي إلى أخطار هذه الخطوة، تراجع ترمب عنها.

في فترة ولاية ترمب الثانية ستكون اليد العليا للجماعات الأكثر تطرفاً في إدارته

خلال فترة ولاية ترمب الأولى، يمكن تصنيف الموظفين السياسيين في مجال الأمن القومي في إدارته إلى ثلاث فئات، كانت الفئة الأولى وربما الأكبر تتألف من أشخاص يتمتعون بخبرة حقيقية كانت لتمكّنهم من الحصول على وظائف في إدارة جمهورية تقليدية، لكنّهم كانوا سيشغلون ربما مناصب أقل من تلك التي وصلوا إليها في عالم ترمب، لقد حاولوا تنفيذ أجندة الرئيس بقدر ما استطاعوا وسط الفوضى، ومعظم الأشياء الجيدة التي حدثت يمكن أن تُنسب إليهم: على سبيل المثال، فإن جهود تنفيذ "الاستدارة نحو آسيا" التي تحدث عنها الرئيس السابق باراك أوباما من خلال شراكات إستراتيجية ذات مغزى في منطقة الهند والمحيط الهادئ، حدثت بعيداً من انتباه ترمب واستمرت على المسار ذاته في إدارة بايدن، بتوجيه من إستراتيجيين يحملون أفكاراً مشابهة.

أما الفئة الثانية، وهي أصغر لكن أكثر تأثيراً بكثير، فكانت تتألف من مسؤولين كبار مخضرمين لديهم أفكار ثابتة حول أين يجب أن تتجه سياسة الأمن القومي واعتقدوا أنهم قادرون على تحقيق تلك النتائج على رغم طبيعة ترمب التي تميل بصورة مفرطة إلى عقد الصفقات، من خلال التأكيد على أن السياسة البديلة يمكن أن تُظهر حالة من الضعف. نستطيع أن نذكر منهم مثلاً إتش آر ماكماستر الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي الثاني لترمب، وجون بولتون الذي خلفه في المنصب نفسه.

في مذكراتهما، أشارا إلى ما اعتبراه إنجازات سياسية حقيقية: فقد نجح ماكماستر في إقناع ترمب بالموافقة على زيادة عدد القوات الأميركية في أفغانستان في 2017، في حين تمكّن بولتون من إقناعه بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني في 2018، لكن ماكماستر وبولتون وكل شخصية بارزة أخرى تبنت هذا النهج انتهى بها الأمر إلى ترك الإدارة بعدما أدركوا أن ترمب سيجد دائماً طريقة للتملص من القيود، مما يقوض أية فائدة سياسية كانوا يعتقدون أنهم قد يحققونها، وحتى بعض الذين صمدوا في وظائفهم حتى تنصيب بايدن في 2021 عبّروا لي في جلسات خاصة عن تقييمات صادقة بصورة لافتة تؤكد الصورة التي يظهر فيها ترمب كشخص متهور وبعيد كل البعد عن كونه عقلاً عبقرياً في ما يخص الأمن القومي، بغض النظر عما قالوه علناً.

وكانت الفئة الثالثة عبارة عن مجموعة صغيرة ولكنها مؤثرة من المؤمنين الحقيقيين بشعار "لنجعل أميركا عظيمة من جديد" ووكلاء الفوضى الذين سعوا إلى تنفيذ أهواء ترمب من دون أي توضيح أو اعتبار للعواقب.

كانوا يرون الولاء من منظور ضيق، معتقدين أن رئيسهم يجب أن يحصل على ما يطلبه بصورة مباشرة، من دون الحاجة إلى سماع العواقب غير المقصودة التي يمكن أن تنتج من هذه التحركات، خشية أن يغير رأيه عندما يدرك الحقائق بالكامل.

على سبيل المثال، كانت محاولات الانسحاب الخطرة من أفغانستان وغيرها من التزامات حلف شمال الأطلسي في الأيام الأخيرة من الولاية الأولى من هندسة وتصميم موظفين صغار تولوا القيادة بعد مغادرة القادة الرفيعي المستوى الذين سعوا إلى منع ترمب من الحصول على إحاطة كاملة حول ما ستسفر عنه توجيهاته فعلياً.

في إدارة ترمب المقبلة، سوف يظل هناك الجمهوريون التقليديون الذين يبحثون عن فرصة مهنية فريدة، والمستعدون لمواجهة خطر تدمير أنفسهم مهنياً إذا تصادموا مع ترمب بأي شكل من الأشكال.

وينبغي عدم التقليل من شأن خدمتهم، لأنه من دونهم، لن يكون ترمب أفضل رئيس يقدر أن يكونه، وسوف يظل هناك أيضاً المتزمتون الذين يعتقدون أنهم يعرفون الإستراتيجية الصحيحة التي يجب اتباعها ويؤمنون بقدرتهم على توجيه ترمب ليفعل ما يرونه صائباً، على سبيل المثال، التخلي عن أوكرانيا لمصلحة أطماع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتعزيز الردع الأميركي ضد الصين، وهو نهج قد يبدو ذكياً في ندوة أكاديمية أو مقال صحافي، ولكن من غير المحتمل أن ينجح في الحياة الواقعية.

وبفضل مؤسسة "هيريتج" و"معهد أميركا أولاً"، سيكون هناك كثير من عملاء الفوضى الذين يعتبرون تدمير النظام الحالي المعني بصنع السياسات الأمنية القومية، الذي حافظ على المصالح الأميركية لمدة 80 عاماً، سمة من سمات ولاية ترمب الرئاسية الثانية، وليس عيباً، الفرق هذه المرة هو أن المجموعة الثالثة ستكون أكبر وأكثر تأثيراً من المرة السابقة.

جوهر نهج ترمب في السياسة الخارجية القائم على عقد صفقات صريحة، لا يزال على حاله

وهذا يشكل تحدياً خطراً للقائمين على نظام صنع السياسات الأمنية القومية الحالي، وهم عناصر الجيش النظامي وموظفو الخدمة المدنية، الذين يشكلون الغالبية العظمى من الأشخاص المكلفين بمراقبة أجندة أي رئيس.

لقد أوضح ترمب وفريقه أنهم يعطون الأولوية القصوى للولاء، وقد يكون لديهم اختبار ولاء بسيط جداً، وهو أن يسألوا أي شخص في موقع السلطة عمّا إذا كانت انتخابات 2020 قد سُرقت أو ما إذا كان هجوم السادس من يناير على مبنى الكابيتول الأميركي يُعتبر عملاً من أعمال التمرد، وقد أوضح جي دي فانس مرشح ترمب لمنصب نائب الرئيس، أنه لا توجد سوى إجابة واحدة عن هذه الأسئلة سيقبل بها ترمب.

إن مثل هذا الاختبار الحاسم قد يسمح لترمب بتسييس كبار الرتب في الجيش وأجهزة الاستخبارات من خلال ترقية الأفراد الذين يعتقد أنهم "جزء من الفريق". أما أعضاء الخدمة المدنية فسيحظون بمزيد من الأمان الوظيفي والعزل عن الضغوط السياسية، إلا إذا نفّذ فريق ترمب خطته الرامية إلى إعادة تصنيف الآلاف من موظفي الخدمة المدنية المحترفين باعتبارهم معيّنين سياسيين يعملون بناء على رغبة الرئيس، مما يجعل من السهل نسبياً إقالتهم لأسباب سياسية.

ومن غير المحتمل أن يتخذ الجيش والخدمة المدنية أي إجراء استفزازي قد يحفّز مثل هذا التطهير أو حتى يبرّره. هم يفهمون أنهم ليسوا "المعارضة المخلصة"، وهو دور مخصص لحزب الأقلية في الكونغرس ولمراقبي وسائل الإعلام والمعلقين السياسيين، ووفقاً ليمين الخدمة الذي أقسموه وأخلاقياتهم المهنية، سيجهّز المحترفون في مناصب الأمن القومي أنفسهم لمساعدة ترمب بأفضل ما لديهم من قدرات.

ولكن قد يقرر ترمب أن بإمكانه الحصول على التعاون أو الخضوع الذي يسعى إليه ببساطة من طريق جعل الطرد من الخدمة تهديداً مستمراً، وسيكون على صواب.

في الأقل، من المحتمل أن يقيل بعض الشخصيات البارزة تأثّراً في نصيحة فولتير بإقصاء بعض الجنرالات الفرنسيين لإثارة الخوف في قلوب الآخرين.

السؤال هو ما إذا كان المسؤولون الكبار في الخدمة المدنية سيتبعون أفضل الممارسات في العلاقات المدنية العسكرية ويقدمون نصائحهم الصادقة لترمب والمعينين السياسيين الكبار حتى عندما تكون تلك النصائح غير مرغوبة.

إذا فعلوا ذلك، يمكنهم مساعدته ليكون أفضل قائد أعلى يمكن أن يكونه، أما إذا لم يفعلوا ذلك، فربما لا يهمّ ما إذا كانوا سيتعرضون للإقالة أو سيبقون في مناصبهم، لأنهم لن يكونوا فعالين في كلتا الحالتين.

الحلفاء والخصوم

لقد اتخذ الناخبون الأميركيون خيارهم، والآن سوف تتكيف آلة الحكم في واشنطن مع ترمب بطريقة أو بأخرى، ولكن ماذا عن بقية العالم؟ لقد نظر معظم حلفاء الولايات المتحدة إلى فوز ترمب بخوف، معتقدين أنه سيكون بمثابة المسمار الأخير في نعش الزعامة العالمية التقليدية التي تولّتها أميركا.

هناك كثير من الانتقادات التي يمكن توجيهها للسياسة الخارجية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، ولم يتوقف حلفاء الولايات المتحدة قط عن التعبير عن شكواهم، لكنهم كانوا يدركون أيضاً أن حقبة ما بعد الحرب كانت أفضل بكثير بالنسبة إليهم من حقبة ما قبل الحرب، التي تنصلت خلالها واشنطن من مسؤولياتها، ودفعَ ملايين الناس الثمن غالياً نتيجة لذلك.

عندما اختار الناخبون الأميركيون ترمب للمرة الأولى، تمثّل رد فعل حلفاء الولايات المتحدة في مجموعة متنوعة من إستراتيجيات التحوط، وهذه المرة، باتوا في موقف أضعف بكثير بسبب التحديات الداخلية التي يواجهونها والتهديدات التي يفرضها بوتين والزعيم الصيني شي جينبينغ، وسوف يحاول حلفاء الولايات المتحدة إرضاء ترمب وتقديم التنازلات له، وبقدر ما تسمح به قوانينهم، سوف يعرضون عليه المغريات والمكافآت التي أثبتت أنها أفضل طريقة للحصول على شروط مواتية خلال عهد ترمب الرئاسي الأول.

ومن المرجح أنّ نهج ترمب القائم على عقد الصفقات القصيرة الأجل سوف يسفر عن بروز نموذج مماثل عند الحلفاء، الذين سيسعون إلى الحصول على ما يمكنهم الحصول عليه وتجنب إعطاء أي شيء في المقابل، وهو شكل من أشكال الدبلوماسية يؤدي في أفضل الأحوال إلى تعاون شكلي وفي أسوأ الأحوال إلى تفاقم المشكلات.

وعلى النقيض من ذلك، فإن عودة ترمب ستقدم فرصاً وفيرة لخصوم الولايات المتحدة، فقد وعد ترمب بمحاولة إجبار أوكرانيا على التنازل عن أراضٍ لمصلحة روسيا، وتعزيز المكاسب التي حققها بوتين من الغزو، وخلافاً لوعود كثيرة قُطعت في الحملة الانتخابية، فإن هذا الوعد قابل للتصديق، لأن ترمب أحاط نفسه بمستشارين مناهضين لأوكرانيا ومؤيدين لبوتين.

ومن المرجح أيضاً أن تُنفَّذ خطته في شأن أوكرانيا لأنها تقع بالكامل ضمن نطاق صلاحيات الرئيس، والسؤال الوحيد هو ما إذا كان بوتين سيوافق على التنازل جزئياً على أساس أنه يستطيع لاحقاً الاستيلاء على بقية أراضي أوكرانيا بمجرد أن ينجح ترمب في فرض صفة "البلد المحايد" على كييف [إرغام كييف على تبني موقف "حيادي"]، أو ما إذا كان بوتين سيكشف خدعة ترمب ويطالب بالاستسلام الكامل على الفور.

أما بالنسبة إلى الصين فالفوائد أقل وضوحاً، إذ ينغمس بعض أهم مستشاري ترمب في الخيال الحالم بأن الولايات المتحدة يمكن أن تضحي بمصالحها في أوروبا بينما تعمل بطريقة أو بأخرى على تعزيز الردع ضد التعديات الصينية في شرق آسيا، وقد تبدو الخطوات الأولية التي تتخذها إدارة ترمب الجديدة في آسيا متشددة للوهلة الأولى، على سبيل المثال، إذا تمكن ترمب من فرض الرسوم الجمركية الضخمة التي اقترح فرضها على السلع الصينية، فقد يتضرر اقتصاد الصين، على رغم أن الألم الذي سيلحق بالمستهلكين الأميركيين سيكون أشد وأسرع تأثيراً، ومن المرجح أن يبحث ترمب عن طريقة لاستعراض القوة العسكرية الأميركية في آسيا بهدف إظهار تباين مع ما رآه من ضعف في سياسة بايدن.

عودة ترمب ستقدم فرصاً وفيرة لخصوم الولايات المتحدة

ولكن من المشكوك فيه أن تؤدي الرسوم الجمركية إلى تغيير سياسات الصين بصورة ملموسة أو أن يترجَم السلوك العدواني الاستعراضي إلى تعزيز عسكري مستدام في آسيا. أولاً، لقد فرض ترمب شروطاً معينة للدفاع عن تايوان، مطالباً تايبه بزيادة إنفاقها الدفاعي أربعة أضعاف للحصول على دعم أميركي أقوى، وقد تنهار هذه الإستراتيجية الخيالية بسبب تناقضاتها، ومن الممكن أن تجد الشراكة الصينية الروسية نفسها أمام احتمالات التراجع الأميركي في الساحتين الرئيستين.

خلال الحملة الانتخابية، صور ترمب وفانس نفسيهما على أنهما رجلان يسعيان إلى السلام بينما سخرا من خصمهما، نائبة الرئيس كامالا هاريس، وحلفائها باعتبارهم من دعاة الحرب.

وقد قدم ستيفن ميلر، أحد أكثر مستشاري ترمب ولاء، صورة حية لهذا الاختيار المزعوم، حينما نشر على منصة التواصل الاجتماعي "إكس"، "الأمر ليس معقداً، إذا أعطيتم صوتكم لكامالا، ستصبح ليز تشيني وزيرة للدفاع، سنغزو عشرات البلدان، وسيُجنَّد شبّان ميشيغان لمحاربة الشبّان في الشرق الأوسط، وسيموت الملايين، وسنغزو روسيا، ودولاً في آسيا، وستندلع الحرب العالمية الثالثة، وسنشهد شتاء نووياً".

هذا التصوير الضمني لترمب كحمامة حذرة يجب أن يكون مزعجاً لأي شخص يتذكر تهديداته في ولايته الأولى بالرد بـ"النار والغضب" على كوريا الشمالية أو اغتياله المحفوف بالأخطار لجنرال إيراني بارز.

وقد يتبيّن أن الانعزالية المطلقة في رسائل حملته الانتخابية ستكون قيداً يشل السياسة الخارجية لإدارته في لحظة حرجة، لكن ترمب يشتهر بتملّصه من مثل هذه القيود ورفضه أن يُحصَر ضمن حدود ضيّقة، ويقول ماكماستر في مذكراته إن مساعدي ترمب الأكثر ذكاء سوف يستغلون هذا لمصلحتهم، ويصورون أية مهمة يريدونه أن ينفذها على أنها أمر يعتقد أعداؤه أنه غير قادر عليه، وقد تنجح هذه الحيلة في حالات محدودة لفترة قصيرة، ولكن في مرحلة ما، سوف يتحرك ترمب حتماً في اتجاه مختلف تماماً، وهذه المرة قد يؤدي هذا الاندفاع إلى تقويض الفصائل الأكثر تطرفاً في فريقه، بدلاً من تمكينها.

لقد فاز ترمب بفرصة تحديد سياسة الأمن القومي الأميركية وسيتحكم بالقوة المهيبة التي يجسّدها الرجال والنساء المتحمسون الآن للعمل تحت قيادته.

وفي الواقع، يمتلك فريق ترمب ما يكفي من الثقة، لكن العالم سيكتشف قريباً ما إذا كانت لدى هذا الفريق درجة كافية من الحكمة أيضاً.

 

بيتر د. فيفر أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة في جامعة ديوك ومؤلف كتاب "شكراً لخدمتك: أسباب وعواقب الثقة العامة في الجيش الأميركي". من عام 2005 إلى عام 2007، عمل مستشاراً خاصاً حول التخطيط الإستراتيجي والإصلاح المؤسسي في طاقم موظفي مجلس الأمن القومي.

مترجم عن "فورين أفيرز"، 6 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024

المزيد من آراء