تأخرت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن وترددت بعد انتخابها في عدم العودة السريعة للاتفاق النووي الإيراني لسعيها إلى ترتيب أولوياتها ورصيدها السياسي بعد فوزها في الانتخابات على حساب الرئيس دونالد ترمب الذي قرر الانسحاب من الاتفاق من جانب واحد، وعلى رغم اعتراض كل الشركاء في الاتفاق روسيا والصين، وكذلك أعضاء حلف الشمال الأطلنطي بريطانيا وفرنسا وألمانيا.
من جانبها، تأخرت وترددت إيران في الموافقة على حلول وسط طرحت أوروبياً لاستئناف الاتفاق، آخرها اقتراح من مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي في يوليو (تموز) الماضي، واعتذرت عن عدم استمرار المشاركة في المفاوضات إلى أن أعلن وزير الخارجية الإيراني موافقة بلاده على اختتام مباحثات فيينا على أساس مسودة الاتفاق الأخيرة، وذلك في مؤتمر صحافي عقده مع بوريل في 20 ديسمبر (كانون الأول)، عقب قمة جمعت عدداً من الدول الإقليمية في عاصمة الأردن عمان.
وبعد تردد أميركي اقتربت الولايات المتحدة من الموقف الأوروبي الأكثر مرونة وإيجابية، بل وافقت على بعض طلبات طهران في إبداء المرونة برفع بعض المؤسسات الإيرانية من قوائم العقوبات، وظلت العقبة الرئيسة عدم قدرة الولايات المتحدة إعطاء ضمانات بعدم انسحاب إدارات مقبلة من الاتفاق من جانب واحد، وكذلك التمسك بضرورة توصل تصفية إيران لملفاتها العالقة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو موقف مشترك مع الدول الدائمة الأخرى.
وصعدت إيران تحركها على الأرض لفرض الأمر الواقع، وهي تناور دبلوماسياً وتظهر قدراً من المرونة بالإعلان عن مضاعفة قدراتها في تخصيب اليورانيوم، واستخدامها أجهزة الطرد المركزي المتطورة، قبل الموافقة على استئناف زيارات وفد خبراء الوكالة، فضلاً عن تطوير قدراتها الصاروخية ونيتها إطلاق أقمار صناعية، فاقترب الموقف الأوروبي وأصبح شبه متطابق مع نظيره الأميركي بالابتعاد عن التركيز على إحياء الاتفاق النووي، وفرض الاتحاد الأوروبي وبريطانيا عقوبات متتالية على طهران في الآونة الأخيرة.
من اتصالاتي الأميركية والإيرانية في الآونة الأخيرة أجد أن هناك قناعة لدى الوسط السياسي في الجانبين بأن هناك مصلحة في استئناف الاتفاق النووي لضبط الطموحات النووية الإيرانية من جانب واشنطن، ومن ناحية طهران، لرفع العقوبات الاقتصادية الشديدة والتمركز مرة كدولة فاعلة ومتفاعلة في الشرق الأوسط الذى يعيد تشكيله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع هذا، أرى أنه يصعب تصور العودة مجدداً إلى الاتفاق في المستقبل المنظور، حيث أصبح التفاوض يؤخذ من اليمين السياسي في البلدين على أنه دليل على الضعف والفشل السياسي، وكذلك لاعتبارات جيوسياسية وداخلية عدة. ولا أتصور تغير أي منها في المدى القريب.
الإدارة الأميركية الديمقراطية نجحت في الاحتفاظ بغالبية مجلس الشيوخ، لكنها فقدتها في مجلس النواب، ولها طموحات ومشروعات داخلية ضخمة تريد إنجازها تمهيداً للانتخابات المقبلة عام 2024، لذا لن تنجرف وراء مشروعات خارجية حساسة وغير مضمونة.
من شبه المستحيل أميركياً الظهور بمن يشرع في مفاوضات مع إيران في الوقت الذي توفر فيه الطائرات غير المسيرة لروسيا بعد حربها ضد أوكرانيا. إذاً، استئناف تلك المفاوضات مرهون بدرجة كبيرة بتطورات الأوضاع في كييف، والتي لن تتغير كثيراً وتستقر إلا بعد مفاوضات شاقة قد تطول، ولن تنجز بشكل حاسم قبل نهاية الربيع في أفضل تقدير. كما لا أعتقد بإمكان عقد مفاوضات غربية - إيرانية على المدى القصير في ظل المناوشات التي حصلت بين مؤسسات النظام الإيراني وبعض مواطنيها، والتي لم تستقر أو تنته بعد، وتحمل في طياتها تداعيات عديدة، بخاصة إذا شهدنا مزيداً من التصعيد وردود الفعل القاسية من قبل النظام.
إذاً، من الجانب الغربي المشكلة ليست في مضمون ونصوص الاتفاق المرجو التوصل إليه فحسب، بل تمتد إلى عدم ملاءمة التفاعل تفاوضياً مع إيران في الوقت الحالي حول الاتفاق النووي، أو غيره من مشروعات التعاون المحتملة.
وكلما استنفد الوقت واقتربنا من المواسم الانتخابية قل الحماس للدخول في مفاوضات حساسة من حيث الشكل أو المضمون، وضعفت الاحتمالات والقدرات على تقديم التنازلات اللازمة للتوصل إلى حلول وسط توافقية.
مقابل هذا أرى أن الجانب الإيراني المؤسسي مهتم بالظهور بأنه متقبل العودة إلى المفاوضات، بل يرحب بذلك، فمجرد استئنافها يعني ضمنياً خروج طهران جزئياً من عزلتها السياسية الناتجة من تعاونها مع روسيا في مجال التسليح أو نتيجة الخسائر الإنسانية المرتبطة بالتظاهرات الأخيرة والتحدي الصريح لمكانة رجال الدين المرتبطين بالنظام.
في الوقت نفسه، لا أرى مؤشرات واضحة إلى أن إيران على استعداد لإظهار المرونة الكافية حول بنود الاتفاق النووي، بما يسمح بالتوصل إلى اتفاق، أو أنها على استعداد للتراجع عن نسب التخصيب الذي وصلت إليه، ويرجح أن تكون المرونة السياسية الإيرانية الأخيرة جزءاً من مناورات وممارسات إيرانية تكتيكية اعتدنا عليها، وليست مؤشراً واضحاً إلى أن تكون نظرة طهران أكثر شمولاً واستراتيجية.
ومن ثم أستبعد أن نشهد انفراجة في المواقف من الاتفاق النووي الإيراني على المدى القصير، وأرجح استمرار الأوضاع على ما هي عليه، من دون تقدم أو تراجع جوهري، إلا إذا فاجأتنا بعمل عسكري يؤدي إلى إعادة ترتيب الأوضاع ويفرض تغيير الحسابات، وهو أمر تهدد به إسرائيل كثيراً كعامل ضغط دون الشروع فيه، وإنما الله يعلم موقفها في تشكيلها السياسي الجديد الذي أصبح أكثر حدة وتطرفاً.