ملخص
لو قارنا لبنان اليوم بلبنان قبل 200 عام سنجد أنه اليوم يحسد لبنان القديم، الذي كان يحميه اللبنانيون أنفسهم، وبضمان حقوق السنة والشيعة والدروز والمسيحيين.
لبنان... الذي أطلق عليه العثمانيون اسم جبل لبنان هو منطقة جغرافية استضافت حضارات لا تعد ولا تحصى، منطقة تشبه ماردين جنوب تركيا في جوانب عديدة من حيث التنوع الثقافي، ففضلاً عن المسلمين السنة كان للدروز والمسيحيين والموارنة وغيرهم من الطوائف كلمة مسموعة.
يمكن القول إن لبنان خلال فترة الحكم العثماني شهد هدوءاً طويلاً باستثناء حالات خاصة شهدت حروباً طائفية وتمرداً مسلحاً، وعلى رغم ذلك فإن لبنان نظراً إلى موقعه الجغرافي المهم أثار شهية القوى العظمى لذلك مع بدء القرن الـ19 أمسى لبنان مسرحاً للتوترات والاضطرابات، وكما ذكرنا فإن التدخل الخارجي في لبنان هو سبب هذه الاضطرابات التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.
وفي إسرائيل يدور بين الحين والآخر الحديث عن "الأرض الموعودة" خصوصاً من قبل المتطرفين، وطموح إسرائيل بالتوسع هو خطر حقيقي على لبنان ثانياً، وعلى محور فلسطين من الخريطة أولاً.
خلال العقود الماضية قدمت إيران دعماً لا محدوداً لـ"حزب الله" ليتوسع في لبنان ويقوي نفوذه ويفرض الهيمنة على البلد، وبالفعل وصل "حزب الله" إلى مرحلة أصبح فيها هو الأقوى في لبنان، وتجاهل ألفي عام من الديناميكيات التي يتمتع فيها لبنان بموقعه الحساس وتعدد الطوائف فيه، وهذه الهيمنة لـ"حزب الله" لم تكن مقبولة من جميع اللبنانيين لكن عدم القبول بها لا يعني إضفاء الشرعية على قيام إسرائيل بعمليات برية تحتل من خلالها أراضي لبنانية، وهذا يعني أن عدم القبول بـ"حزب الله" لا يعني القبول بإسرائيل، لكن على كل حال ليس هذا موضوع تقريرنا، بل سنتطرق إلى تاريخ لبنان خلال فترة الحكم العثماني.
العثمانيون في لبنان
كما أسلفنا أطلق العثمانيون على منطقة لبنان اسم "جبل لبنان" ولم يكن لبنان يحكم من خلال العثمانيين بصورة مباشرة، بل كانت هناك عائلات لبنانية هي التي تدير شؤون البلاد نيابة عن السلطان في إسطنبول، وخلال الفترة ما بين 1697 و1841 كانت عائلة شهاب السنية هي التي تحكم في لبنان، إذ كان الأمير اللبناني البشير الثاني الشهابي واحداً من أهم رجالات الدولة العثمانية، علماً أن عائلة الشهابي يعود أصلها إلى قبيلة قريش من بني مخزوم واستقروا لاحقاً في لبنان وجنوب سوريا، ولا تزال العائلة حتى اليوم واحدة من أبرز العائلات اللبنانية، وكان رئيس لبنان الثالث بعد الاستقلال الأمير فؤاد شهاب أحد أبناء هذه العائلة، وفي تركيا أيضاً تعد عائلة "باكسوي" من أحفاد الأمير اللبناني البشير الشهابي لكن مع مرور الزمن أصبحوا أتراكاً بالاسم واللغة والثقافة.
بالنسبة إلى العثمانيين كان أمن لبنان مهماً لضمان أمن قوافل الحج القادمة من دمشق، وفي بداية العهد العثماني شهد لبنان نوعاً من الاستقرار والهدوء، إلا أنه مع ازدياد الأهمية الاستراتيجية للمرفأ اللبناني بدأت الفوضى السياسية في المنطقة تنمو وتتحول إلى صراعات طائفية، وكما أسلفنا لم يكن القصر في إسطنبول يتدخل في الإدارة المحلية للبنان بل كانوا يحيلون ذلك للحاكم المحلي الذي يتفق بصورة أو بأخرى مع باقي الطوائف، وكان التدخل العثماني واقعاً فقط عندما يحصل صراع مسلح أو يزيد النزاع على قدرة الوالي، وكان العثمانيون يتدخلون عسكرياً وبصورة محدودة في حال شب صراع طائفي أو سياسي، وهكذا كانت تدار لبنان بين حكم عثماني لامركزي وإدارة للديناميكيات المحلية، واستمرت الحال بهذه الصورة حتى عام 1831 عندما قام والي مصر محمد علي باشا بغزو لبنان فدمر بذلك نهج الإدارة الذي تركه الإرث العثماني.
غزو محمد علي باشا للبنان أدى إلى قطع الحوار بين الأديان والطوائف، فانغلقت كل فئة في لبنان على نفسها، وبعد ذلك أنشأ محافظة خاصة للمسيحيين عام 1841 ومحافظة خاصة بالدروز، وازدادت المشكلات السياسية في لبنان، لكن هذا لم يدم طويلاً حتى أجريت محاولات تدخل لتخفيف حدة التوترات السياسية من خلال إنشاء برلمان لبناني مختلط يضم 12 عضواً من محافظتي المناطق المارونية والدرزية، وأيضاً يشارك في البرلمان ممثلون مسلمون وموارنة ودروز وأرثوذكس ويونان وشيعة بعضوين لكل طائفة.
وقبل غزو محمد علي باشا للبنان كانت فرنسا تحاول دائماً الاستفادة من أية أزمة في البلد الشرق أوسطي، لكن بعد الغزو قررت هي الأخرى غزو لبنان تحت دعوى حماية حقوق المسيحيين في المنطقة.
لبنان وفرنسا
يشكل المسلمون والمسيحيون غالبية السكان في لبنان مع أقلية يهودية، لكن المجتمع اللبناني لا يقوم على الأديان إذ ينقسم السكان بحسب الطوائف وليس الدين، يعني أن الانقسام ليس فقط إسلامياً - مسيحياً، وإنما هناك انقسام بين المسلمين (سنة وشيعة)، وأيضاً داخل المسيحيين (موارنة وأرثوذكس وكاثوليك).
وكان الشيعة هم الطبقة الأفقر في المجتمع اللبناني بخلاف الدروز الذين كان منهم ولاة عثمانيون، أما فرنسا فقدمت دعماً عسكرياً واقتصادياً للمسيحيين وعلى وجه الخصوص الموارنة، وهذا ما مكنهم من أن يصبحوا قوة مهمة في البلاد، وعملت باريس على تحريض الموارنة ضد الدروز المقربين من العثمانيين، وهذا التحريض كان بداية لتوتر طائفي استمر قروناً عدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عندما حاصر أسطول نابليون بونابرت عكا وفشل فكر في غزو لبنان ودعمه الموارنة في هذه الخطوة أملاً منهم أن يصبحوا القوة الأولى في لبنان أو يسيطروا على البلد بصورة كاملة، لكن عندما أدركت إسطنبول ذلك عقدت مع محمد علي باشا اتفاقاً ينص على شرعنة حكمه في لبنان ومنحه صلاحيات واسعة مقابل قطع العلاقات بين الموارنة والفرنسيين ومنع دخول الأخيرين إلى لبنان، وسميت تلك الحقبة بفترة "الحكم المزدوج للبنان"، إذ كانت تحكم بصورة كاملة من قبل محمد علي باشا وبدعم وموافقة وشرعية من الدولة المركزية العثمانية، لكن فشل العثمانيون في تحقيق نتيجة نهائية بلبنان.
خطيئة الأب
قرب نهاية الحرب العالمية الأولى تمكن الجيش الفرنسي من احتلال الأراضي اللبنانية، وسيطرت فرنسا على لبنان ضمن اتفاقية "سايكس بيكو" الشهيرة، وخلال عام 1926 أعلن عن قيام "دولة لبنان تحت الانتداب الفرنسي" مما يعني إدارة فرنسية كاملة للبنان أو ما يعد بمثابة احتلال، وخلال فترة الوجود الفرنسي في لبنان عملت باريس كل ما في وسعها لتعزيز الموارنة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، مما أثار غضب ورد فعل من قبل المسلمين سواء السنة أو الشيعة.
خلال فترة الحكم العثماني كان بين المسلمين والمسيحيين في لبنان تضارب في المصالح، وازداد التنافس بينهم أكثر خلال فترة الحكم الفرنسي مما أسفر عن حروب طائفية دامية جلبت معاناة كبيرة للشعب اللبناني، هذه الحرب الأهلية قامت بين شعب عاش مع بعضه بعضاً مئات السنين.
وقبل أعوام قليلة نزل ماكرون إلى شوارع بيروت والتحم بالناس الذين أطلقوا الصيحات مطالبين بإسقاط النظام بعد انفجار المرفأ. وكان نابليون خلال فترة حصاره لعكا يوجه رسالة مفادها أن ما يجري في الجغرافيا اللبنانية هو شأن فرنسي داخلي، وقال "اعلموا أن كل الموارنة فرنسيون"، واليوم ماكرون يقول إنه نزل إلى شوارع بيروت لمشاركة اللبنانيين آلامهم إلا أن هناك آراء ترى أن اهتمام ماكرون بلبنان هو تقديس لأنقاض الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، وكما هو معروف كان هناك جدل كبير خلال الأعوام الماضية حول ضرورة ألا تتنصل فرنسا من مسؤوليتها التاريخية بسبب وجودها في الجزائر وتونس وسوريا ولبنان وغيرها من المناطق التي تعرضت للاستعمار الفرنسي، هذا ما يسمى "خطيئة الأب".
محاولة أميركية لغزو لبنان
في بداية القرن الـ20 وعلى رغم أن الولايات المتحدة لم تكن منخرطة بصورة كبيرة في الشؤون الأوروبية فإنها كانت تراقب الأحداث من كثب، وبخاصة في الأراضي التي تخضع للسيطرة العثمانية، وخلال عام 1903 أرسل الأميركيون سفينة مدرعة إلى المياه الإقليمية العثمانية مما أدى إلى إزعاج قصر "يلدز" بصورة كبيرة، حينها كان حاكم الدولة العثمانية هو السلطان عبدالحميد الثاني الذي أرسل تعليمات للتعامل مع هذه الحادثة، وفيما يلي نص رسالة من سكرتيرة القصر الأول موثقة بتاريخ الـ28 من ديسمبر (كانون الثاني) 1903، جاء فيها:
"إلى السيد يلدريم سراي همايانو رئيس القلم، بالنسبة إلى رسالتكم الوزارية الخاصة بتاريخ الـ27 من ديسمبر 1903 والتي تعرض البرقية الواردة من والي اليمن، وتفيد بأنه ليست لديه الوسائل الكافية لإبقاء الزورق الحربي الذي يحمل العلم الأميركي تحت المراقبة، والذي وصل ورسا في مياه فرسان في إحدى جزر البحر الأحمر خلال الثاني من شهر ديسمبر، قد رأى السلطان برقيتكم وكما تعلمون فعلى رغم أن الأميركيين لم يتدخلوا في الشؤون الأوروبية فإنه لا يجوز لهم أيضاً التدخل في شؤون الدولة العثمانية ومحاولة القيام بمثل هذه الأعمال مثل إرسال السفن إلى المياه العثمانية، وبما أن هذا التصرف كان مخالفاً للقوانين فقد طلبت الحكومة اتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان عدم وجود مجال لمثل هذه المحاولات، وذلك وفقاً لأوامر وإرادة سلطاننا.. سكرتير القصر الأول، الـ28 من ديسمبر 1903".
لكن الإجراءات التي اتخذها العثمانيون لم تكن قادرة على إجبار السفينة الأميركية على مغادرة المياه الإقليمية العثمانية، بل على العكس أرسلت الولايات المتحدة ثلاث سفن مدرعة إلى البحر الأبيض المتوسط، والهدف هو بيروت، وبقيت المدرعات والسفن الأميركية في المياه العثمانية حتى عام 1904.
لم يكن العثمانيون في ذلك الوقت بوارد دخول حرب مع الولايات المتحدة لهذا السبب، فآثر عبدالحميد الثاني محاولات الحل الدبلوماسي، ويقال إن السلطان دفع رشوة بقيمة 100 ألف دولار لسياسيين وضباط أميركيين من أجل مغادرة السفن الموانئ العثمانية، إضافة إلى ذلك قامت الحكومة العثمانية باتخاذ إجراءات تخفف القيود على المدارس التبشيرية مراعاة للأميركيين.
باختصار، يمكن القول إن لبنان عاش واحدة من أفضل حقبه من حيث الاستقرار والهدوء في فترة الحكم العثماني، فكان هناك انسجام مقبول بين الطوائف وكان الحكم يدار في لبنان بصورة تُرضي الجميع، وعند حصول خلافات أنشئ برلمان يضم جميع الطوائف وكان التدخل العثماني محدوداً، وعلى كل حال لو قارنا لبنان اليوم بلبنان قبل 200 عام سنجد أنه اليوم يحسد لبنان القديم، الذي كان يحميه اللبنانيون أنفسهم وبضمان حقوق السنة والشيعة والدروز والمسيحيين.
ملاحظة:
الآراء الواردة في هذا المقال تخص المؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لصحيفة "اندبندنت التركية".