ملخص
هذا المسار الذي اعتمده النظام الإيراني في التعامل مع ما تتعرض له القوى الموالية أو المتحالفة له من أخطار وضربات قاسية على مدى العام الماضي منذ السابع من أكتوبر 2023، يؤكد أن طهران، حتى الآن، تسعى وتحاول النأي بنفسها عن الدخول المباشر أو الانزلاق إلى حرب إقليمية مباشرة مع إسرائيل.
ليس من الصعب على أي متابع للجدل السياسي الذي تشهده إيران أن يكتشف أو يلمس حجم التباين بين القوى السياسية المتعلقة أو المرتبطة بالموقف من التطورات المتصاعدة في الإقليم، بخاصة بعد عملية اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" اللبناني حسن نصرالله وارتفاع حدة الاعتداءات والحرب المفتوحة التي بدأتها الحكومة الإسرائيلية ضد لبنان.
هذا التباين في المواقف مرتبط بصورة أساسية ومباشرة بنوعية النظرة الإيرانية إلى المسائل والقضايا التي تشكل تحدياً في السياسة الخارجية والعلاقة مع المحيط والعالم. لذلك، فإن خروج أصوات تدعو إلى ممارسة أعلى درجات ضبط النفس وعدم الانزلاق إلى ما يريده أعداء أو خصوم إيران يبدو طبيعياً انطلاقاً من قراءة هذه الأصوات الواقعية لقدرات إيران وضرورة المحافظة على مصالحها وأمنها القوميين. من هنا جاء ترحيبها بالهجوم الصاروخي الأول "الوعد الصادق-1" والهجوم الثاني "الوعد الصادق-2" من باب الدفاع عن السيادة والأمن القومي الذي حاولت إسرائيل النيل منه من خلال الهجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق، ومن ثم اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية الذي كان ضيفاً رسمياً على مراسم تنصيب رئيس الجمهورية الجديد مسعود بزشكيان.
وترى هذه القوى أو الجماعات، وبناء على قراءتها الواقعية، أن ما انزجّ أو تم القيام به، يشكل رداً على هذه الانتهاكات الإسرائيلية ويسهم في إعادة صورة الردع الإيرانية ورسالة إلى كل الأطراف في الإقليم وما وراءه، أنها قادرة على الرد ولا تسمح بأي مساس بمصالحها، شرط ألا تذهب الأمور إلى أبعد من ذلك، أو تخرج عن هذا السياق أو الإطار، أي الاكتفاء بهذا المستوى من الرد من دون التورط بما هو أوسع وأكبر.
في المقابل، فإن المثالية الثورية ما زالت تسيطر على عقول كثير من الأطراف داخل التركيبة السياسية ومراكز القوى في إيران، وتمثلها مجموعة من الأصوات التي تدعو إلى اغتنام الفرصة السانحة أمام إيران، سواء في الرد على اغتيال هنية أو في الانتقام لاغتيال نصرالله، وتوجيه ضربة قاسية وواسعة لحكومة تل أبيب تعيد خلط الأوراق وتسمح لإيران بإعادة ترتيب موازين القوى في الإقليم بالشكل الذي ترغب فيه وتريده، خصوصاً أن هذه الجماعة تعتقد بأن إيران قادرة على استيعاب أي رد فعل أميركي أو إسرائيلي جراء هذه الحرب، حتى إن ذهبت الأمور إلى حرب إقليمية أو حتى عالمية.
في مواجهة هذين التوجهين، يبدو أن المسار الذي يعتمده المرشد الأعلى للنظام، وعلى غرار الزعيم المؤسس، يحاول المزج بين هذين الاتجاهين، أي التوجه الواقعي والتوجه المثالي الثوري والأيديولوجي. والذاكرة التاريخية الإيرانية ما زالت تستذكر موقف الزعيم الخميني والآلية التي تعامل بها عام 1982 مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان، عندما كبح الاندفاعة الثورية والأيديولوجية التي سيطرت على قيادات "حرس الثورة الإسلامية" حينها وبدأت بنقل قوات عسكرية إلى سوريا للدخول في الحرب ضد إسرائيل، عندما وقف أمام هذه العملية وأعاد تصويب الأولويات الإيرانية، واضعاً "إيران أولاً" في ظل الحرب التي كانت تخوضها مع العراق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى غرار المؤسس السيد الخميني، فإن المرشد الحالي السيد علي خامنئي يحاول إمساك العصا من الوسط بين هذين التوجهين، ويبدو أنه استطاع السيطرة على الاندفاعة الثورية داخل مؤسسة "حرس الثورة"، الذارع الأيديولوجية للنظام والثورة والمعنية بما يشهده الشرق من ألغام، ومنع الانزلاق في اللعبة التي يحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو جرّ المنطقة إليها، خصوصاً أنه يرى أن معركته الأساس والمفصلية هي مع الجهة التي تقود وتحرّك القرار الإسرائيلي، أي الولايات المتحدة مباشرة، لكن من دون التخلي عن أساس "الانتقام" لما طاول مبدأ السيادة والأمن القوميين من انتهاك.
هذا المسار الذي اعتمده النظام الإيراني في التعامل مع ما تتعرض له القوى الموالية أو المتحالفة معه من أخطار وضربات قاسية على مدى العام الماضي منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 والتي بلغت ذروتها في الأسابيع الأخيرة مع الضربات التي تعرض لها الحزب اللبناني بما يمثله من ثقل نوعي واستراتيجي في العقيدة الإقليمية لطهران، بخاصة أن هذه الضربات لم تقتصر على قيادات الحزب الأساسية، بل أخذت معها قيادات من القوة الإقليمية العسكرية في "قوة القدس" لـ"حرس الثورة"، هذا المسار يؤكد أن طهران، حتى الآن، تسعى وتحاول النأي بنفسها عن الدخول المباشر أو الانزلاق إلى حرب إقليمية مباشرة مع إسرائيل لا أحد يعرف أبعادها ومدياتها وما يمكن أن ينتج منها من تداعيات.
لكن المرشد، في المقابل، وفي وقت أكد أن النظام الإيراني لن يتردد في الرد على أي استهداف قد يتعرض له، إلا أنه أكد أن أي خطوة في هذا المجال لن تكون "متسرعة"، وهذه المعادلة تحولت إلى استراتيجية تبناها "حرس الثورة" في مواجهة الدعوات التي تطالبه بتوجيه ضربات أكثر قسوة ضد إسرائيل أو التدخل إلى جانب حلفاء إيران. وعلى رغم أن المرشد لم يوضح توقيت، أو الدوافع التي تضع الرد أو التدخل الإيراني، موضع التنفيذ، إلا أن كلامه عن استعداد إيران للتصدي الحاسم لإفشال المشروع الأميركي في منطقة الشرق الأوسط الذي يسعى إلى تحويل إسرائيل نقطة تجميع ومحور تصدير لمصادر الطاقة في الشرق الأوسط نحو أوروبا والغرب من جهة، وأن تكون الممر لكل ما تحتاج إليه هذه المنطقة من مواد استهلاكية وتكنولوجية من الغرب، مما يوضح، بصورة جلية، حدود ودوافع وتوقيت هذا التدخل وأهدافه.
وهذا الموقف الذي يضع المصالح الاستراتيجية للنظام الإيراني على رأس الأولويات، يعني أن إيران لن تدخل طرفاً في الحرب القائمة بصورة مباشرة ما دام أن القوى الحليفة أو الموالية لها، سواء في غزة أو لبنان، قادرة على إدارة المعركة ولم تصل أو تبلغ نقطة الخطر الوجودي، وأن الإحساس باقتراب هذه القوى من دائرة الخطر الوجودي، يعني أن طهران باتت ضمن هذه الدائرة، بالتالي فإن جميع الاعتبارات الإيرانية تسقط، وينتقل الموقف من التروي ومحاولة النأي عن الحرب، إلى قرار بخوضها بكل ما لديها من قدرات، دفاعاً عن نفسها ومصالحها، وفي الوقت نفسه، دفاعاً عن الحلفاء.