ملخص
ثمة أعمال في المجال الموسيقي ولكن بخاصة في مجال الفن التشكيلي قورنت دائماً بتلك التحفة الرباعية التي أبدعها فيفالدي عبر "الفصول الأربعة" حتى وإن كان من الصعب أن يقارن أي عمل في الموسيقى في الأقل بـ"فصول" فيفالدي باستثناء العمل الكبير وبالعنوان نفسه الذي وضعه جوزيف هايدن بعد ما لا يقل عن قرن ونصف القرن من وضع الراهب الإيطالي عمله الدنيوي الكبير.
حتى زمن فيفالدي كانت الكنيسة لا تزال مسيطرة تماماً على التأليف الموسيقي حتى وإن كان ثمة بين الحين والآخر موسيقيون يجربون حظهم في التأليف الدنيوي، فإن هؤلاء كانوا سرعان ما يرعون ويعودون إلى ما قبل عصر النهضة، أي إلى أحضان الكنيسة التي كانت على الدوام جاهزة لاستقبالهم واستقبال إبداعهم شرط أن يكون مكرساً لها لا يشرك معها في "ملكيتها" ذلك الإبداع، مستغفرين تائبين.
وهذا الكلام ينطبق خصوصاً على إيطاليا النهضة، إذ إن دراسة تاريخية مقارنة ستقول لنا بسرعة كيف أن الموسيقى تأخرت عن فن الرسم في التركيز على الطابع الإنساني لعملية الإبداع الفني. وليس هذا بالأمر الغريب ما دام الموسيقى كان لا يمكن الاستماع إليها بصورة عامة إلا في واحد من مكانين: الكنيسة أو قصور علية القوم. بالطبع كانت للشعب في الحانات والبيوت والأعياد موسيقاه، لكنها كانت "موسيقى متدنية" بالكاد يمكن إطلاق اسم على مؤلف لها. في زمن لاحق سيعاد اكتشاف تلك الموسيقى الدنيوية ويعاد إليها الاعتبار. أما في زمن فيفالدي وما قبله فالمصدر كان الكنيسة. وكان أي خروج على نظرتها إلى الفن وقوانينها الصارمة يعد تجديفاً.
الاضطهاد الكنسي أمر طبيعي
وهكذا حين اتجه فيفالدي، الذي كان على أية حال راهباً يعمل في خدمة الكنيسة، إلى كتابة موسيقى غير كنسية، موسيقى تمجد الإنسان والطبيعة من خلال نظرة الإنسان إليها، كان من الطبيعي أن تضطهده الكنيسة، وتجد لذلك ذريعة في علاقته مع مغنية فرنسية الأصل كان يحضنها، كما يقول.
والغضب على فيفالدي كان مزدوجاً لأنه في الأصل راهب، وكان موظفاً في ملجأ الرحمة من جانب الكنيسة. لكن فيفالدي كان راهباً غريب الأطوار، حتى في شكله، إذ كان شعره أصهب اللون مما جعله يعرف على الدوام بـ"الراهب الأصهب".
غير أن ذلك كان أقل علامات غرابته، هو الذي ما إن انتصف به العمر، حتى خاض الموسيقى الميلودرامية، ضارباً بموقف رؤسائه في الكنيسة منه، عرض الحائط، وراح يكتب موسيقى لأوبرات تاريخية معظمها مارق مثل "الأولمبياد" و"تيمورلنك" و"أورلاندو فوريوزو".
لكن هذا كان بعد زمن من بداية غضب الكنيسة عليه. والبداية كانت مع "ثورته" الموسيقية، حتى حين كان يكتب موسيقى ذات نفس إلهي. وحسبنا اليوم أن نصغي بدقة إلى أشهر أعماله، وربما إلى الأشهر قاطبة بين الكونشرتات في تاريخ الموسيقى "الفصول الأربعة"، حتى ندرك "تجديف فيفالدي".
600 كتابة لكونشرتو واحد
ومهما يكن من أمر هنا، إذا كان الموسيقي الروسي الكبير إيغور سترافنسكي الذي غادر بلاده باكراً هو الآخر لأن "تجديفه" لم يناسب دولته التي راحت تبدو أكثر وأكثر أشبه بـ"كنيسة جديدة"، قد قال عند بدايات القرن الـ20 لمناسبة تخص الراهب الأصهب: "لقد بالغوا في تقدير فيفالدي، إنه إنسان ممل كتب كونشرتو واحداً، وأعاد تأليفه 600 مرة على التوالي"، فإن الحقيقة الوحيدة التي يمكن أن تستشف من هذا الكلام، هي الكم الهائل من الأعمال الموسيقية التي وضعها فيفالدي طوال حياته، وهي أعمال لا تزال تكتشف بدهشة كبيرة حتى اليوم.
غير أن "الفصول الأربعة"، هذا الكونشرتو الرباعي الاستثنائي، يبقى الأشهر، وليس فقط لأن فيفالدي طبق فيه ابتكاراً عاماً وهائلاً في عالم كتابة الكونشرتو: فهو تخلى عن البداية البطيئة الحركة التي كانت تميز دائماً الحركة الأولى في أي كونشرتو غروسو، خصوصاً بالنسبة إلى ما كان يكتب من قبل.
هنا، وفي الأجزاء الأربعة "الربيع" و"الصيف" و"الخريف" و"الشتاء" التي يتألف منها هذا العمل الذي يستغرق عزفه قرابة الـ40 دقيقة، أبدل فيفالدي النسق، فصار كل كونشرتو يبدأ بـ"أليغرو" وينتهي بـ"أليغرو" آخر، وفي الوسط الثلاثي يضع إما "أداجيو" وإما "لارغو" بحسب الموضوع.
وهذا النسق هو الذي اتبعه دائماً ذلك المؤلف الذي لولادته في البندقية وعيشه إلى جوار بحرها المتموج الصاخب باستمرار، ما جعله يتعلم باكراً، وكما يقول الروائي والناقد الموسيقي ألبرتو سافينيو، أن ينقل حركة البحر. ويقيناً أن هذه الحركة المتوالية المتموجة هي ما يميز، ليس فقط كونشرتات فيفالدي بل أيضاً كونشرتات كوريللي، ومعظم أعمال سكارلاتي. إذاً، من روح الطبيعة وحركتها استقى فيفالدي إلهامه الأول. وهو في هذا ذهب إلى الحدود القصوى لما كان يمكن التهاون معه في أيامه.
آلات موسيقية لفصول السنة
إن فيفالدي الذي قيل عنه دائماً إنه كان يأنف اللجوء إلى الينابيع، الأرستقراطية بل الميتافيزيقية، للإلهام الفني، وعرف دائماً كيف ينهل من الحياة، جعل من "الفصول الأربعة" نشيداً لهذه الحياة، وللبشر أصحاب الحياة أنفسهم. هنا كل واحد من الكونشرتات الأربعة التي يتألف منها العمل يحمل اسم فصل من فصول السنة ويؤدى من مجموع يتكون من كمان رئيسة سوليست وكمانات أولى وثانية، إضافة إلى تشيلوات وكونترباص، مع باص متواصل يؤدي على الأرغن أو الكلانيسان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والمجابهة تكون هنا دائماً بين الكمانات الأولى والثانية التي بين حركة وأخرى تروح منفصلة عن الكمان الرئيسة، لتعود وتلتقي بها، في حركة تعطي ما يشبه نبض الحياة. ودائماً تبعاً للمخطط الرئيس التقريبي "أليغرو - أداجيو - أليغرو".
وفي كل مقطع حاول فيفالدي بنجاح أن يقلد مزاج الفصل الذي يتحدث عنه، جاعلاً الموسيقى تعكس حركة المياه والريح، وحفيف الأشجار وزقزقة العصافير، ثم خصوصاً مشاعر الإنسان الذي هو المعني الأول في هذا كله، من فرح الناس بقدوم الربيع، إلى رعب الراعي أمام مقدم العاصفة، إلى انزواء القرويين في بيوتهم في مواسم البرد والأمطار. لكل شعور من هذه المشاعر حرك فيفالدي آلاته، وجعل الكمان "السوليست" دائم التأهب للتعبير المنفرد، الذي يقول: هنا بزغت الشمس، هنا اكفهرت السماء، هنا خرج الفلاحون، هنا انزوى الرعاة... إلخ. ويقيناً أن ما من عمل في تاريخ الموسيقى عبر، أكثر من هذه "الفصول الأربعة" عن علاقة الإنسان العضوية بالطبيعة وتقلباتها.
بين الموسيقى والرسم ذهاباً وإياباً
ومع ذلك ثمة أعمال في المجال الموسيقي ولكن بخاصة في مجال الفن التشكيلي قورنت دائماً بتلك التحفة الرباعية التي أبدعها فيفالدي عبر "الفصول الأربعة"، حتى وإن كان من الصعب أن يقارن أي عمل في الموسيقى في الأقل بـ"فصول" فيفالدي باستثناء العمل الكبير وبالعنوان نفسه الذي وضعه جوزيف هايدن بعد ما لا يقل عن قرن ونصف القرن من وضع الراهب الإيطالي عمله الدنيوي الكبير.
ولكن الحال تختلف بالنسبة إلى الرسم، لا سيما بالنسبة إلى الرباعية التي رسمها الهولندي بروغيل ودائماً بالعنوان نفسه، وذلك عبر أربع لوحات قد لا تكون ضخمة الحجم بمقدار ما يتوقعه كثر قبل مشاهدة اللوحات. بل ثمة ما هو مفاجئ في الأمر هنا، إذ إن كثراً حين يشاهدون مستنسخات للوحات بروغيل وعدا عن كون اللوحات تجبرهم على استعادة ألحان فيفالدي بالتوازي مع مشاهدة رباعية بروغل، ثم يقارنونها برباعية للفرنسي بوسان تحمل بلوحاتها الأربع العنوان والموضوع أنفسهما.
من الواضح أن الفكرة الأولى التي تخطر هي أن لوحات بوسان، المستوحاة أصلاً من لوحات بروغيل وقد أقلمت مع الأنوار الإيطالية، بينما تخضع لوحات بروغيل للأنوار الشمالية، أصغر حجماً من لوحات بروغيل. لكن العكس صحيح بالنظر إلى الضخامة اللافتة للوحات بوسان. وهو أمر قد ينطبق إلى حد كبير على المقارنة بين "فصول" فيفالدي و"فصول" هايدن، علماً أن الزمن جعل موسيقى فيفالدي بالغة الشعبية بينما اتسمت "فصول" هايدن بقدر كبير من النخبوية.
من الملاجئ إلى مدافن الفقراء
ولد أنطونيو فيفالدي عام 1675 على الأرجح، ومات عام 1725. بدأ حياته خادماً في الكنيسة والتحق بسلك الكهنوت عام 1693. وبعد أن رسم قسيساً، ألحق كمعلم فيولا في ملجأ الرحمة، وبعد ذلك بـ10 أعوام بارح الملجأ، من دون أن يتخلى عن راتبه فيه، واهتم بإدارة مسرح قدمت عليه أوبراته، ولم يعرف بسلوكه الحسن في تلك الآونة. وهو في ذلك العمل، ثم عبر الالتحاق بقصور الأمراء، حقق ثروة كبيرة، وتنقل كثيراً وكتب مئات القطع الموسيقية وعشرات الأوبرات. لكنه حين مات في فيينا، إذ أمضى سنواته الأخيرة، قضى معدماً ودفن في مقابر الفقراء.