ملخص
تشير دراسة بريطانية إلى أن آلام النساء تهمل ولا تعالج على أفضل وجه وهذه مشكلة عمرها آلاف السنوات
تعدّ أمراض القلب أكبر قاتل للنساء في المملكة المتحدة والعالم. أكنتم تعرفون ذلك؟ أنا لم أكن أعرف أمراً عن هذا الموضوع. فلطالما صُوّر كل ما يتعلق بأمراض القلب والأوعية الدموية على أنه "مرض الرجال"، وهو يقترن في الأذهان بصورة رجل سمين في منتصف العمر يُصاب بنوبة قلبية- لكنها صورة نمطية خاطئة، وهي تقتل النساء حرفياً.
ربما تفاجأت عند اكتشافي الحقيقة الآنفة الذكر، لكن ما لم يفاجئني في المقابل، هو ما كشفه تقرير جديد نشرته المجلة الطبية "هارت" (شؤون القلب) عن وجود تحيّز جنسي راسخ في نظام الرعاية الصحية في بريطانيا يسفر عنه آلاف الوفيات غير الضرورية. وضعت مجموعة مؤلفة من 33 خبيراً في أمراض القلب بياناً مشتركاً طالبت فيه هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية باتخاذ التدابير الضرورية لتحسين الرعاية المقدمة للنساء. فعلى رغم إصابة أكثر من 3.6 مليون امرأة في المملكة المتحدة بأمراض القلب، لا تزال هذه الحالة تشهد "قصوراً في التشخيص والعلاج والتمثيل [عينات غير ممثلة لحالات الإناث]"- لأن النساء لا يُشملن عادة في التجارب السريرية ولا يحصلن على فرص متساوية في تلقي العلاج الكفيل بإنقاذ حياتهن والأسوأ من كل ذلك أنهن غالباً ما يعانين من أعراض يقلل الأطباء من أهميتها ومنها ارتفاع ضغط الدم مثلاً.
لكن "أمراض القلب لا تميّز (بين المرضى) بحسب جنسهم" وفق تعبير الخبراء- بينما هذا ما يفعله أخصّائيو الطب على ما يبدو. فلو تلقّت النساء العلاج المناسب، "لأُنقذت حياتهن" وفقاً لكاتبة التقرير الرئيسية البروفسورة فيجاي كوناديان من جامعة نيوكاسل. لكن قواعد البيانات الوطنية تبيّن أنهن ما زلن عرضة لأخطاء في التشخيص تسفر عن ارتفاع معدلات الوفيات في أوساطهن بعد النوبات القلبية.
وقالت البروفسورة كوناديان "لا يمكننا أن نستمرّ بتجاهل ذلك. يفترض الناس أنه مرض يصيب الرجال. لذلك عندما يشتكي رجل، ترتفع احتمالات أن يلقى الإسعاف أو اهتمام الأطبّاء إليه مثلاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قد تجد أي امرأة تقرأ هذه السطور هذا الشعور مألوفاً على نحو مُحبط. ليس طبعاً لأننا أصبنا جميعاً بمرض في القلب وإنما لأن معظمنا تعامل في وقت من الأوقات مع أحد في القطاع الصحي إما لم يصدّق قصصنا وأعراضنا أو قلّل من شأنها. ولو أخذنا في الاعتبار تشخيص كل الحالات الطبية الممكنة على أنها "هستيريا"، بدءاً من العصور الكلاسيكية ووصولاً إلى مطلع القرن العشرين، واستمرار وجود ظاهرة أخذ ألم الرجل على محمل الجدّ بدرجة أكبر من ألم المرأة، نجد أنّ النساء لطالما عانين من تمييز جنسي بنيوي في القطاع الطبي.
أثبتت دراسات كثيرة وجود تفاوت كبير في طريقة تعاطي الكوادر الصحية مع الجنسين. كشفت دراسة نشرتها مجلة نايتشور Nature أن النساء ينتظرن فترة أطول قبل خضوعهن للمعاينة في المستشفيات فيما لا تُقدّم إليهنّ مسكّنات للألم إسوة بالرجال. وأكّدت دراسة أخرى أجرتها كلية لندن الجامعية في 2022 أنّ التنميط الجنسي دفع العاملين والعاملات في القطاع الصحي إلى الاستهانة بآلام النساء. وبسبب المعتقد الخاطئ بأنّ النساء لديهن "حساسية زائدة" على الألم، وقدرة تحمّل منخفضة للألم وأنهنّ يبالغن في التعبير عن أوجاعهن مقارنةً بالرجال أو يعبّرن عنها بشكل أسهل منهم، قُلل من أهمية إفصاح النساء عن معاناتهن من الألم، سواء لفظياً أو على نحو غير لفظي. (ما زلت أذكر أنني قصدت طبيب الصحة العامة بسبب معاناتي من آلام مزمنة ومبرحة في الظهر عندما كنت في منتصف العشرينيات من عمري، وأنه بعد ستة أشهر من هذه المعاناة شبه الدائمة، قالت لي الطبيبة بفظاظة إنه لا يلزمني أكثر من تناول حبة مسكّن آيبوبروفين).
لكن الأسوأ هو أن هذه الإساءة في تقدير مستوى الأمراض ودرجتها أدّت إلى عدم تقديم العلاج المناسب للنساء في أغلب الأحيان- فيما عُرضت عليهن من هذا المنطلق علاجات نفسية بدل العلاج المناسب لتسكين أوجاعهن [وعلاجها].
وتبرز هذه المشكلة بشكل أوضح في مجال المشكلات الطبية النسائية. وجدت ورقة بحثية نُشرت في مجلة "هيلث كوميونكيشن الطبية" Journal of Health Communication في يناير (كانون الثاني) 2024 أنّ النساء يواجهن تحديات كثيرة وعراقيل عند طلب تشخيص إصابتهن بالتهاب بطانة الرحم أو بعد تشخيصهن بهذه الحالة. ويلخّص تعبير "الإيهام الطبي" تجارب كثيرات أصبن بهذه الحالة؛ كما صرّحت 33 مشاركة في الدراسة أنّ تعامل الأطباء معهن أشعرهن "بالاستهانة وتثبيط العزيمة".
وفي ذلك الوقت، قالت لي الدكتورة جازمين هيرن، كبيرة المحاضرين في اختصاص علم النفس والكاتبة الرئيسة للورقة "تبلغ فترة الانتظار قبل الحصول على تشخيص 11 عاماً بالمتوسّط. وتثير تجارب النساء اللواتي استمعنا إليهن الحزن والصدمة وهي تكشف مشكلة التمييز الجنسي البنيوي الذي ما زال موجوداً في القطاع الصحي". كما تضيف بأنّ "الخرافة" التاريخية القائلة بأنّ "الدورة الشهرية مؤلمة وعلى النساء تحمّلها" سبّبت أضراراً جسيمة. وواصلت تشرح أنه "لو كانت (الدورة) تؤثر في حياتك اليومية، فهي غير طبيعية. فكأننا نقول إنّ آلام الشقيقة لا تختلف عن الإصابة بوجع رأس طفيف".
لكن حتى عندما لا يُستخفّ بألمنا، ويُقدّم لنا العلاج الصحيح، قد لا يكون هذا "العلاج" ملائماً لنا أو يلبّي قدر حاجاتنا. وذلك بسبب التركيز البالغ على مشاركة الرجال (والرجال البيض تحديداً) في تجارب الأدوية السريرية والأبحاث الطبية. ظلّت الصورة السائدة عن الرجال طيلة قرون أنهم الجنس الأساسي والمهيمن- الذي يستحق الدراسة- بينما اعتبرت النساء "رجالاً صغاراً". واعتُقد بأنّ الفارق الوحيد بين الجنسين هو الحجم الجسدي والأعضاء التناسلية.
على رغم إصابة أكثر من 3.6 مليون امرأة في المملكة المتحدة بأمراض القلب، لا تزال هذه الحالة تشهد قصوراً في التشخيص والعلاج والتمثيل [في عينات البحث].
"معظم الناس لا يعرفون أنّه حتى في يومنا هذا، يمكن أن يوصف لكم دواء لم يُجرّب على شخص مثلكم [من بني جنسكن]"، كما تقول كاثرين شوبرت، المديرة التنفيذية ورئيسة جمعية أبحاث صحة المرأة، وهي جمعية أميركية تأسست في عام 1990 لتعزيز دراسات اختلافات الجنس البيولوجية والأمراض. "ظلت الفكرة السائدة لفترة طويلة أن النساء بمثابة رجال صغار، بينما اعتُبر إدخال موضوع الهرمونات في الدراسات العلمية تحدياً لم يرد أحد الانشغال به".
وأضافت بأن تأثير هذا الفكر تسبّب "بأضرار جسيمة" على النتائج الصحية لدى النساء. كما أن الدراسات المهمة السابقة التي حدّدت طريقة علاجنا لبعض الأمراض لدى الجنسين اختُبرت مراراً وتكراراً على أبناء جنس واحد فقط. وكما كشف كتاب غابرييل جاكسون الصادر في عام 2019 الألم والأحكام المسبقة Pain and Prejudice فإن الدراسة التي خلُصت إلى أنّ تناول حبة أسبرين يومياً قد يقلّص خطر الإصابة بمرض في القلب مثلاً، استندت إلى نتائج استقتها من 22071 رجلاً وصفر امرأة. أما تجربة التدخّل في ظلّ عوامل خطر متعددة التي أجريت في عام 1982، ونظرت في قدرة الحمية الغذائية وممارسة الرياضة على الوقاية من أمراض القلب من عدمها، فشملت 13 ألف رجل- وغابت عنها النساء كلياً- كي تخلص إلى نتائجها.
والمثير للسخرية أكثر بعد هو أنّ بعض التجارب الطبية المعنية بالمشكلات الصحية النسائية تحديداً أُجريت بمشاركة رجال فقط. ومن بين هذه الدراسات، أول تجربة أُجريت في ستينيات القرن الماضي للتحقق من احتمال مساهمة إعطاء النساء مكمّلات هرمون الأستروجين بعد سن اليأس في تخفيض خطر إصابتهن بأمراض القلب. وأيضاً تلك الدراسة التجريبية التي نظرت في تأثير السمنة المفرطة على سرطان الثدي والرحم.
يمتد هذا التحيّز المخبول أيضاً بشكل أوسع إلى الأبحاث على كل الأجناس. وكما قالت الدكتورة جانين أوستن كلايتون، المديرة المشاركة في أبحاث الصحة النسائية في المعاهد الوطنية الأميركية للصحة لصحيفة "نيويورك تايمز"، "فعلياً، ما نعرفه عن أي جانب من بيولوجيا الأنثى أقل مما نعرفه عن بيولوجيا الذكر".
في عام 1993، وبعد طول انتظار، بدأت المعاهد الوطنيّة للصحّة تشترط مشاركة النساء في التجارب السريرية. لكن قدر الضرر الحاصل بالفعل يوازي ما يحدث خلال آلاف السنين، وما زالت آثار هذه الأبحاث الأحادية الجانب تطاولنا حتى اليوم. في عام 2020، وجدت دراسة أميركية أنّ النساء يعانين من فرط في وصف الأدوية والعلاجات ومن الآثار الجانبية الناجمة عن هذا الوضع، لأنّ جرعات الأدوية تُقدّر قياساً إلى دراسات أجريت على رجال. فبينما تشكّل النساء ثلثي المصابين بمرض ألزهايمر في العالم، ظلّ الاعتقاد السائد بأنّ السبب الوحيد وراء ذلك هو أنهن يعشن مدة أطول من الرجال، ولم يوضع موضع الشك والتساؤل فعلياً سوى خلال العقد الأخير تقريباً. وما أظهرته الدراسات المحدودة التي أجريت منذ ذلك الوقت هو أنّ التغييرات الهرمونية والاختلافات الجنسية في التعبير الجيني قد تلعب أيضاً دوراً مهماً في هذا الصدد.
لذلك، علينا طبعاً أن نكفّ عن التفكير في أن مرض القلب هو "مرض الرجل" ونتصرف على هذا الأساس. إنما علينا أيضاً أن نعترف بوجود التحيّز الجنسي البنيوي المتجذّر ونتصدى له، بعد أن أثّر في النتائج الصحية لدى النساء في كل القطاعات منذ فجر التاريخ. وأي جهد في ما عدا ذلك لا يُسمن ولا يُغني من جوع.
© The Independent