ملخص
جاء تحرك القاهرة لدعم دعوى جنوب أفريقيا في "العدل الدولية" بعد أقل من أسبوع من اقتحام القوات الإسرائيلية لمدينة رفح، وهو التحرك الذي لطالما رفضته القاهرة وحذرت من تداعياته الإنسانية والأمنية وحتى على علاقات البلدين، وهو ما عده البعض بمثابة "رسالة احتجاج وغضب" تجاه سياسات تل أبيب، ومؤشر على مزيد من التدهور في علاقات البلدين.
بعد أكثر من أربعة أشهر من تقديم جنوب أفريقيا دعوى لمحكمة العدل الدولية، اتهمت فيها إسرائيل بـ"ارتكاب جرائم إبادة جماعية" في قطاع غزة، وانتهاك الاتفاق ذي الصلة الذي أبرم بعد "المحرقة" عام 1948، أعلنت مصر الأحد الـ12 من مايو (آيار) عزمها "التدخل دعماً لدعوى بريتوريا"، رفضاً لما اعتبرته "تفاقم حدة ونطاق الاعتداءات الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، والإمعان في اقتراف ممارسات ممنهجة ضد أبناء الشعب الفلسطيني من استهداف مباشر للمدنيين وتدمير البنية التحتية في القطاع".
وجاءت الخطوة المصرية بعد أقل من أسبوع من اقتحام القوات الإسرائيلية لمدينة رفح، آخر نقاط القطاع التي لجأ إليها المدنيون هرباً من ويلات الحرب التي دخلت شهرها الثامن، وسيطرة الجانب الإسرائيلي على معبر رفح الرابط بين غزة ومصر منذ السابع من مايو (آيار) الجاري، وهو التحرك الذي لطالما رفضته القاهرة وحذرت من تداعياته الإنسانية والأمنية وحتى على علاقات البلدين، مما جعل بعضهم يعد انضمام القاهرة لدعوى جنوب أفريقيا بمثابة "رسالة احتجاج وغضب" تجاه سياسات تل أبيب، ومؤشر على مزيد من التدهور في علاقات البلدين.
لكن وأياً كان التحرك المصري "رمزياً" في رسائله ومضمونه أكثر من كونه "إضافة لها ما بعدها في مسار الدعوى"، لا سيما مع قرب إصدار المحكمة لقرارها، إلا أنه فتح الباب أمام دلالات التوقيت وتبعاته على علاقات القاهرة وتل أبيب، التي لم تتأثر كثيراً طوال عمر الحرب، فضلاً عن دور الوساطة الذي تلعبه مصر بين إسرائيل وفصائل المقاومة في القطاع، وما إذا كان ذلك يؤشر على "وصولها إلى طريق مسدود في الوقت الراهن" وفق ما أوضح مراقبون لـ"اندبندنت عربية".
"رسالة احتجاج ورفض"
بحسب ما أفادت وزارة الخارجية المصرية في بيان انضمامها لدعوى جنوب أفريقيا، فإن خطوتها جاءت في ظل "تفاقم حدة ونطاق الاعتداءات الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، والإمعان في اقتراف ممارسات ممنهجة ضد أبناء الشعب الفلسطيني من استهداف مباشر للمدنيين وتدمير البنية التحتية في القطاع، ودفع الفلسطينيين للنزوح والتهجير خارج أرضهم، مما أدى إلى أزمة إنسانية غير مسبوقة أدت إلى خلق ظروف غير قابلة للحياة في قطاع غزة، في انتهاك صارخ لأحكام القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، واتفاق جنيف الرابع لعام 1949 في شأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب".
وبجانب مطالبة القاهرة لتل أبيب "الامتثال لالتزاماتها باعتبارها القوة القائمة بالاحتلال، وتنفيذها للتدابير الموقتة الصادرة عن محكمة العدل الدولية التي تطالب بضمان نفاذ المساعدات الإنسانية والإغاثية على نحو كاف يلبي احتياجات الفلسطينيين في قطاع غزة، وعدم اقتراف القوات الإسرائيلية لأي انتهاكات ضد الشعب الفلسطيني باعتباره شعباً يتمتع بالحماية وفقاً لاتفاق منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية"، جددت دعوتها لمجلس الأمن والأطراف الدولية المؤثرة، بضرورة التحرك الفوري لوقف إطلاق النار في قطاع غزة والعمليات العسكرية في مدينة رفح الفلسطينية، وتوفير الحماية اللازمة للمدنيين الفلسطينيين.
بتوقيت الانضمام ودلالاته، يجمع مراقبون ممن تحدثوا لـ"اندبندنت عربية"، على أن الخطوة "تحمل في طياتها رسائل مباشرة لتل أبيب وواشنطن أكثر من كونها تحركاً له ما بعده على صعيد الدعوى ذاتها التي تقدمت بها جنوب أفريقيا في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ولا تزال تنظر أمام محكمة العدل الدولية".
ويقول مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق السفير حسين هريدي "إعلان القاهرة الانضمام لدعوى جنوب أفريقيا، هي بالأساس رسالة واضحة لإسرائيل والولايات المتحدة، فحواها أنه ومن وجهة النظر المصرية أن تل أبيب تجاوزت الخطوط الحمراء بالنسبة إلى مصر، وعليها إعادة النظر في قرارها العسكري باقتحام مدينة رفح والسيطرة الكاملة على معبر رفح من الجانب الفلسطيني".
الرسالة ذاتها اتفق فيها الباحث في مركز ويلسون للدراسات جو معكرون، قائلاً في حديثه معنا، "لا اعتقد أن انضمام مصر إلى دعوى جنوب أفريقيا له تأثير في المسار القانوني في لاهاي، لكن التوقيت لافت في ظل التأزم في العلاقات المصرية - الإسرائيلية"، مضيفاً أن "القاهرة أكدت أكثر من مرة رفضها قيام إسرائيل بأية عملية تؤدي إلى أزمة لاجئين في معبر رفح، وبالتالي هذا رد مصري مباشر".
وبحسب معكرون فإن الخطوة المصرية "ليس واضحاً بعد إذا ما كانت ضمن سياق تحول في المقاربة المصرية، أو رسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تتفادى المواجهة المباشرة".
لكن في المقابل ومع إقراره برمزية الخطوة ومضمون الرسالة التي تسعى إلى إيصالها إلى المسؤولين في تل أبيب، يقول نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية عماد جاد، "إجمالاً لا نستطيع أن نقول إن هناك أزمة كبيرة في العلاقات بين القاهرة وتل أبيب، فعلى رغم أشهر الحرب الثمانية لم نصل بعد إلى تدهور ملموس يؤثر بشكل واضح استراتيجية السلام بالنسبة إلى البلدين". إلا أنه عاد وأوضح لـ"اندبندنت عربية" قائلاً إن "الانضمام إلى دعوى جنوب أفريقيا، التي قاربت على البت فيها، يعكس بالأساس رسالة سلبية إلى إسرائيل، وأن الوساطة التي تقوم بها مصر بالتعاون مع قطر والولايات المتحدة، أصبحت في أزمة بسبب التحرك الإسرائيلي الأخير في رفح وضرورة إعادة النظر فيه".
وتابع جاد "ما يؤشر إلى عدم تعرض العلاقات بين البلدين (القاهرة وتل أبيب) إلى تدن غير مسبوق، هو تصريح وزير الخارجية المصري سامح شكري قبل يومين، وبعد اقتحام القوات الإسرائيلية رفح والسيطرة على معبرها، حين قال إنه إذا وجدت مخالفات أو انتهاكات لاتفاق السلام من الجانب الإسرائيلي سيحال الأمر إلى لجنة التنسيق المشتركة"، موضحاً "استخدم الوزير كلمة إذا، ما يعني أن القاهرة لم تر بعد انتهاكات كبيرة لاتفاق السلام من وجهة نظرها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واعتبر جاد أن توقيت الانضمام في ضوء التطورات الأخيرة في رفح "هو حد أدنى من الرسالة السلبية، إذ لم تصل العلاقات بعد إلى استدعاء السفراء أو اتهام إسرائيل المباشر بارتكاب مجازر، أو إعادة النظر في اتفاق السلام الموقع بين البلدين منذ 1979، فضلاً عن عدم التطرق إلى العلاقات التجارية بين البلدين التي لم تتوقف إلى الآن، بعكس ما أقدمت عليه دول أخرى بالمنطقة"، مما يعني وفق جاد أنه "تصعيد محسوب ودقيق وفي الاتجاه القانوني، وفي جزء منه إشارة إلى أنه قد يكون البداية على أن يتبعه خطوات أخرى في المستقبل القريب".
وقبل يومين قال شكري خلال مؤتمر صحافي في القاهرة مع نظيرته السلوفانية تانيا فايون، "اتفاق السلام مع إسرائيل له آلياته الخاصة التي تفعل لبحث أية مخالفات والتعامل معها إن وجدت"، مضيفاً أن "اتفاق السلام مع إسرائيل هو خيار مصر الاستراتيجي منذ 40 عاماً وركيزة السلام الرئيسة في المنطقة"، وذلك في معرض رده على آليات مصرية للرد على أي انتهاكات لاتفاق السلام مع إسرائيل، وذلك بعد وصول المدرعات الإسرائيلية إلى معبر رفح الحدودي مع قطاع غزة.
ماذا عن الوساطة المصرية؟
فيما لم ترد إسرائيلياً رسمياً بعد على الخطوة المصرية، بينما رحبت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، تباينت آراء المراقبون ممن تحدثوا إلينا حول تبعات الانضمام المصري لدعوى جنوب أفريقيا على الدور الذي تلعبه القاهرة في الوساطة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية التي "تأزمت" الأسبوع الماضي، بعد جولات ماراثونية في العاصمة المصرية، استضافت خلالها وفداً من "حماس" وإسرائيل وبحضور مدير الاستخبارات المركزية الأميركية وليام بيرنز والجانب القطري، من دون التوصل إلى "اتفاق هدنة" نهائي.
وبينما اعتبر عماد جاد أن التحرك المصري يعكس أن "الوساطة برمتها في أزمة، وتأزم المسار التفاوضي في الوقت الراهن على وقع الخطوات الإسرائيلية العسكرية الأخيرة في غزة"، قال السفير حسين هريدي إنه "لا يعتقد أن تؤثر خطوة القاهرة في وساطتها، إذ ترتبط الوساطة بحسابات وعناصر أخرى هي من تفضي في النهاية إلى نجاح أو فشل الجهد التفاوضي".
وذكر هريدي، "تتوقف المفاوضات الآن بشكل كبير على حسابات الأطراف المنخرطة في التفاوض، وهى ’حماس‘ وإسرائيل"، مشيراً إلى أنه في حال "الضغط على نتنياهو من الولايات المتحدة من الممكن هنا الحديث عن جدية العملية التفاوضية واحتمالات أن تقود إلى حل".
من جانبه اعتبر جو معكرون أنه "حتى الآن ليس هناك تأثير مباشر ولم يتغير شيء في طبيعة الوساطة المصرية"، مشيراً إلى أن "الأمر يعتمد على التطورات في المرحلة المقبلة".
في الأثناء وأمام عدم رد إسرائيل رسمياً إلى الآن على الخطوة المصرية، بدت قراءات الصحف العبرية أكثر تفاعلاً مع الإعلان المصري، لا سيما بعد أن تزامنت مع نقلهم أن "مسؤولين عسكريين مصريين يلغون بشكل مفاجئ اجتماعاً مع نظرائهم الإسرائيليين في إشارة إلى تفاقم الأزمة الدبلوماسية بين البلدين".
وفيما رأت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية إن "إعلان القاهرة جاء رداً على تصعيد الهجمات الإسرائيلية ضد المدنيين في غزة، ويعكس أن التوتر بين البلدين وصل إلى مستوى جديد وسط الاعتراضات العلنية الأخيرة من القاهرة على العملية في العسكرية الأخيرة في رفح"، ذكر موقع "أي 24" أنه "أثار دهشة المسؤولين الإسرائيليين الذين وصفوه بأنه طعنة في الظهر".
ولم تكن القاهرة البلد الأول الذي انضم لدعوى جنوب أفريقيا أمام أعلى محكمة في الأمم المتحدة، إذ أعلنت أكثر من دولة خلال الأشهر الأخيرة انضمامها للدعوى أمام محكمة العدل الدولة، أبرزهم البرازيل وكولومبيا وبوليفيا وماليزيا وتركيا وبنغلاديش وجيبوتي وجزر القمر وبلجيكا وليبيا.
وفي يناير (كانون الثاني) دعت محكمة العدل الدولية إسرائيل إلى تجنب أي عمل يؤدي إلى "إبادة"، وإلى تسهيل وصول المساعدة الإنسانية إلى غزة. وبعد بضعة أسابيع طلبت جنوب أفريقيا اتخاذ إجراءات جديدة لافتة إلى إعلان إسرائيل عزمها على شن هجوم على رفح، لكن المحكمة رفضت هذا الطلب.