Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أهل غزة يتمسكون بالأمل في قصص "عباءة البحر"

نيروز قرموط تسرد مشاهد المدينة وناسها قبل الحرب وخلالها

بحر غزة أشبه بعباءة (صفحة غزة - فيسبوك)

ملخص

صدرت مجموعة قصصية جديدة للكاتبة الفلسطينية الغزاوية نيروز قرموط بعنوان "عباءة البحر". وفي بعض القصص تستعيد مشاهد من ماضيها في قلب غزة خلال حكم حركة حماس، وفي بعض آخر تسرد مآسي الناس  المستمرة حتى الحرب الإسرائلية المدمرة.

تقدم الكاتبة الفلسطينية نيروز قرموط إلى القراء العرب صوراً زاخرة ومعبّرة عن المأساة الفلسطينية المتمادية. وفي مجموعتها القصصية الصادرة حديثاً عن دار ميريت- راية، تحكي عن مسقط رأسها غزّة، وعن بشر ومشاعر دفّاقة، وآراء في مقاومة العدوّ الماثل أبداً في المشهد، وفي الاختلاف، وفي حرية المرأة، والأهمّ في البراءة الناسجة ديمومتها من الصبر على الآلام اليومية وسط حصار يكاد يكون أبدياً، لولا الإيمان بالخالق والعمل الدؤوب.

في 16 قصة قصيرة متفاوتة الطول، تعاود الكاتبة قرموط بناء تجارب سكّان غزّة، من أجل أن تضيء على المعاني العميقة التي تنطوي عليها تجاربهم المريرة، تاركةً فسحةً لا بأس بها للقرّاء من التأمّل والاعتبار، من دون تعمّد الوعظ والتحليل.

بحر غزّة

في القصة الأولى، بعنوان "عباءة البحر" – وقد اختارته عنواناً لمجموعتها القصصية- تنقل الكاتبة مشاهد مستعادة، ربما، من سيرتها الطفولية، هي لحظات حميمة، بل مسرّات مروية بعيون أطفال، وصلتهم ببحر غزّة وشاطئه، تحكيها فتاة بلسانها، وهي في طور اكتشاف أنوثتها، وتفتّح أحلامها على الدنيا، وعلى الآخر. وقد وشّحتها الكاتبة بلمسات شعرية رقيقة، تعبيراً عن قيمتها المعنوية عندها، وتدليلاً على خطّها الوجداني الذي يرى إلى الكتابة على أنها "رقصٌ على الروح والحياة وأنين الموت" (ص5) كما تقول في توطئة الكتاب. "تعودُ إلى ذكرياتها مرّة أخرى في مخيّم كبير يعجّ بالأطفال، يلعبون بالقلول، ويهود وعرب. ترى نفسها في العاشرة تنطّ الحبلة مع صديقاتها، ترتدي فستاناً قصيراً، في زقاقٍ رمليّ خلف ألواح الزينغو" (ص9).

كلّ ذلك في خلال سرد نزهة إلى البحر، وصبينات وألعاب وتشجيع من الأهل، ولا سيّما كبار السنّ منهم، وتسجيل مشاهد لفتيان ينغمسون في البحر، فتنزع الموجات عنهم لباسهم. في حين يشتري البعض الآخر الترمس، والبرد (البوظة)، ويتدبّر بعضهم الآخر المشي على رمال الشاطئ، تشيّعه عيون الأهل أو تغفل عنه لبرهة وتحدث المغامرة مع البحر. إذا المهمّ هو تلك العلاقة التي راحت تنسجها هذه الفتاة الراوية والعليمة مع موج البحر، وما تستثيره من تهويمات وأحلام وأحاسيس بدئية بلغة الأسطورة من دون أن تقولها. "تشيح عينيها بنظرة تلتفّ السماء، لترى بياضاً مشرقاً يحملها كملاكِ بحر. تلامسها نسماتُ بحر باردة، تلسعها أكثر مما لسعتها ذرات الرمل. تغمض عينيها، تكتم أنفاسها لتغطس تحت الموجة. وما إن أكملت الموجة سيرها حتّى شعرت بحاجة للتنفّس من هواء الحياة مرة أخرى..." (ص20).

على أن هذه المغامرة كادت أن تنتهي بغرق الفتاة وموتها، لولا يدُ امتدّت لنجدتها، هي يد شابّ كان يهمّ بالانتحار، فأعاده تخبّطها في المياه إلى رشده، ونخوته، فأنجدها وخلّص نفسه من الموت، وأعادها إلى ذويها شاكراً لها تدخّلها.

مقاومة قديمة وجديدة

في قصة "حليبنا" الثانية تستحضر الكاتبة زمن قبيل النكبة (1946)، وتضع لها إطاراً مكانياً هو فندق الملك داوود المشهور، يوم الثاني والعشرين من  يونيو (حزيران). والقصّة كناية عن سرد لوقائع عملية فدائية قام بها أحد الشبان الفلسطينيين في حقّ الجنود الإنكليز المتمركزين في ذاك الفندق بداعي احتلالهم المقنّع بالانتداب. وكان هذا الشاب قد تزيّا بزيّ نادلٍ مهمّته نقل الحليب الطازج من الريف المجاور إلى الفندق. وفي النص وصفٌ دقيق للمبنى وروّاده، وللحركة فيه، وصفاً يكاد ينمّ عن رؤية سينمائية وحسّية، تحاول الكاتبة أن تحاكي به الواقع التاريخي المستعاد من طريق الفلاش باك، مع أبعاده السياسية في حينه. "العصافير تقبّلُ الشبابيك العُلويّة، وتنفضُ بأجنحتها غبارَ الليل عن زجاجها. وكلّما ارتطمت بها أكثر أحدثت صوتاً هشّاً صغيراً... وما إن أزفت الطبيعة ببدء معزوفتها، حتّى تزقزق للعاشقين تلك الزقزقات لتوقظ الغافين على رائحة بخّور آسيوي… ينتظر دقّ أجراس كنيسة دور ميتسون، بترانيم صباحية تؤنس الوسادات الغافية. أذان مسجد الأقصى يمتزج وترانيم الكنيسة..." (ص27).

وفي لحظة واحدة "يتهدّم كل شيء ليحوم في زوبعة السباغيتي والحجارة... تتطاير الطاولات، ينهار السقف، يعجّ الغبار لينتشل من الأشلاء قطرة دم ممزوجة برائحة عظم حيّ...". ويحصد الانفجار فلسطينيين وإسرائيليين وأميركيين وعرباً، ممن كانوا روّاد الفندق المذكور، وأصحابهم الإنجليز.

فقر وعلم

في قصة "قلم ودفتر" البديعة تتجلّى براعة الكاتبة نيروز قرموط، ذات الأسلوب في القصّ الذي يلامس إيقاعَ النفس، ويشيع طراوة ونداوة تمتاز بهما فئة من الكتّاب الذين يجهدون في نقل معاناة شخصياتهم، المستمدّة من واقعهم المعيش، من دون أن يغفلوا البعد الإنساني والوجداني صانع التسامي المغني عن الخطاب السياسي والأخلاقي. وإذ تحاكي الكاتبة بلغتها السالف وصفها، سرداً، وتصويراً، ووصفاً، وحواراً، وتعليقاً، حال من تتكلّم عليهم، فإنها تفلح في صورة عن أطفال غزة، يوم كان بمقدورهم الذهاب إلى المدرسة- ويوم كان ثمة بناء للمدرسة ولم يُهدّمه الإسرائيلي- وتلقّي العلم، وإن بأدواتهم القليلة من دون أن يتخلّوا عن أحلامهم وبراءتهم الأولى، وعن أقلامهم ودفاترهم، على رغم آلامهم. "أقدامهما الصغيرة، وخطواتهما تكبران كلّما شعرا أنّ الطريق أصبح أطول. يركضان، يسرعان، يلهثان، يلتقطان أنفاسَ الطفولة، أحذيتهما متّسخة لا تفوح من خصلات شعرهما القصيرة رائحة الصابون يرتديان ملابس المدرسة بينما تهتزّ حقيبتاهما المدرسيتان القديمتان خلف ظهريهما. على جانبي الطريق ركامٌ لأبنية هُدّمت في حربٍ على مدينتهم" (ص51).

ويتّضح من السياق أنّ هذين الفتيين كانا يعملان بجدّ في نقل الحجارة من المقلع (المحجر) إلى ورشة البناء لينال كلّ منهما مبلغاً من الشيكلات تقارب الثلاثين. وبعد هذا التعب المضني، وتحميل الحجارة على متن عربة يجرّها البغل، وسط طريق مخصص للسيارات، يبادر كبيرهم إلى تقسيم الشيكلات بين والدته وبين الفتيين الباقيين، قائلاً لهما: "كما أخبرتكما، ليشترِ كلّ منكما دفتراً وقلماً، كي لا ينسى كيف يكتب، كما نسيتُ" (ص62).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا تساوم الكاتبة نيروز قرموط على مبدأ، ولا ترضى بالقمع، ولا تتخلّى عن قناعاتها، على حدّ ما تنطق به شخصياتها الأنثوية، في قصة "الضفيرة الطويلة"، على سبيل المثال؛ إذ تجعل بطلة القصّة، وهي المواطنة في غزّة، وفي ما بين العامين (1997-2017)، تنشد الأغاني الوطنية بمناسبة عيد الأرض (في 30 مارس / آذار من كلّ عام) وتصدح بها، في باحة المدرسة، على ما كان مألوفاً. إلا أن أستاذ الرياضيات، وهو المتزمّت، في المدرسة يبدي اعتراضه على غنائها، داعياً إياها إلى التخلّي عن هذه الترّهات: "أنتِ تهدرينَ تفوّقكِ في الترّهات التي تقومين بها، لا توجد أغنية وطنية وغير وطنية. ولاؤكِ لله فقط…". وبالمقابل، راحت مدرّبتها الفرنسية تشجّعها على تنمية موهبتها قائلة لها: "دعي شعرَكِ مسترسلاً على هواه. اتركيه يطير حرّاً مثلكِ. تذكّريني يا ابنتي يا قمر. ابتسمي دائماً ولا تتخلّي عن ابتسامتك يا ابنتي!" (ص72-73).

قتال الإخوة

وفي قصّة أخرى، عنوانها "حزيران غزة"، تلملم الكاتبة شظايا ذكرياتها الأليمة في مسقط رأسها عما أصاب القطاع من انقسامات حادّة بين الإخوة، تحوّلت إلى صراعات عنيفة لم ينجُ كلّ السكّان من مراراتها. إذا تروي الكاتبة فيها فصولاً من الوقائع التي عاينت بعضها، من اشتباكات ضارية بين الإخوة الأعداء، وما رافقها من نهبٍ للمقارّ الرسمية في البلاد، وأعمال قتل ظالمة طاولت الأبرياء. "ذلك الرجل. وهو يُرمى أمام أعينهما في البرج المقابل... بعدَ أن اعتقد من يحمله أنه عدوّ له، وما إن سقط حتّى بدأ رجلٌ بالصراخ من الأسفل: "ماذا فعلت؟ إنه منّا" (ص92).

لا تكتفي الكاتبة قرموط بأن تدلي برأيها الصريح في حرّية المرأة، ولزوم الانفتاح الفكري، وفي رؤيتها لصلاح الإنسان، ووجوب المحافظة على بعض من براءة هي ضامنة لقيمته ومعناه في الوجود، إلى جانب الدفاع عن شعبها المظلوم من ظالمه الأكبر، المحتلّ الإسرائيلي، ومن ظالميه الأصغر. بل تعمد أيضاً إلى أسلبة لغتها القصصية، والتلاعب قدر الإمكان، حيناً بلعب العود بالزمن، وحيناً آخر بلعب التمرئي المزدوج (كما في قصة "المرآة" حيث تدخل الراوية وعي الطفلة كاتي، فتشاهد حلقة تلفزيونية عن فتاة تدعى لارا يتحرّش بها فتيان/ فتعود إلى البيت مذعورة)، وحيناً آخر بأسلوب الحوار الغالب (كما في قصة "قمر السمرلاند"، حيث يتحاور شاب وصبية، وهما مخطوبان، يستدل منه أنهما من تفكيرين متعارضين: هي متمرّدة على التقاليد، وهو محافظ دينياً. وفيما كانا يتحادثان، إذا بمسيّرة تقذفهما بصاروخ، فيتجنّباه باللحظة الأخيرة، وتنفجر السيارة. وعندئذ، يتعانقان على رغم خلافاتهما: "- أتعلمين أنتِ كالربيع/ - لكنّ الخدوش تغطّي وجهي بكثير من الدماء/ - أنتِ جميلة/ - زياد دعنا لا نغادر/ - لن نغادر/ ويحتضنها وتتعانق الدماء" (ص132).

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة