Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمود الريماوي قاص الذات القلقة بين الواقع والكابوس

"سحر الحياة" قصص متعددة الحجم ذات حس إنساني وخيال جامح

القاص الأردني محمود الريماوي (دار العائدون)

يقول هوراسيو كيروغا، من أهم كتاب القصة القصيرة والحكاية في الأدب الأميركي اللاتيني بما يعنيه بحكاية "القصة القصيرة"، "إنها ذات خط وحيد، رسمته يد واثقة من البداية إلى النهاية. من دون أي عائق، ولا أي تزويق، ولا أي استطراد يمكن أن يلاشي انشداد وتره. حتى لكأنه القوسُ الذي شُد جيداً فأرسل رمحه بدقة متناهية ليبلغ الدريئة. وعندئذ لن تقوى كل الفراشات، الساعية إليه لتزيين طيرانه، على تثقيله".

ولئن اعتبر كل من جيرار جينيت وفلاديمير بروب القصة على أنها "توسع للفعل الواحد" و"سلسلة من دوائر الأفعال ذات ترتيب زمني متتابع"، فإنهما لم يحسما في شأن وظيفتها أو دلالاتها أو عوالمها أو أساليب كتابتها، حسبهما أنها صنيع المبدع ورهنُ تصوراته وفلسفته وتجاربه في الزمان والمكان الواقعيْن إطاراً للحكاية.

يطرح محمود الريماوي، القاص والروائي (أخيراً) الفلسطيني الأردني (1948) على القراء نماذج من قصصه القصيرة جداً، والقصيرة، والطويلة، في كتاب مختارات صادر عن دار "العائدون" 2021، وهي بعنوان "سحر الحياة"، تصوراته عن ذات قلقة ومأزومة في محيط يكاد يكون غريباً وباعثاً على الجنون، وكائن يخشى الموت، ولا يحسن تدبر أحواله مع المرأة، وتنتابه الهواجس والهلوسات من كل نوع، ولا يطيق إطاراً لتفكيره سوى الحرية والإبداع، على ما صرح به في  إحدى مقابلاته الصحافية. المختارات القصصية استُلت من المجموعات القصصية على توالي صدورها وظهورها في الكتاب وهي، "العري في صحراء ليلية"، و"الجرح الشمالي"، و"ضرب بطيء على طبل صغير"، و"كوكب تفاح وأملاح"، و"القطار"، و"شمل العائلة"، و"فرق التوقيت"، و"عودة عرار"، و"ضيف على العالم" وسواها.  

أنواع قصصية

ولكن قبل المضي إلى حكايات القصص، لا بد من الإشارة الى إحاطة الكاتب الريماوي بأغلب أنواع القصص (الفرعية)، من مثل القصة القصيرة جداً والقصة القصيرة والقصة المتسلسلة. وهذه جميعها وردت في مختاراته، وقد أبدى فيها القاص قدرة عالية على الاختزال والإيحاء والتكثيف، لكأن ريشة حاذقة تفتح باب الإيماءات وتكشف عن القسمات بضربة واحدة وكافية، وتدع للقارىْ أن يؤول الباقي الممكن أو القابل للتصديق، أو ليكمل بناء الفراغات التي لا يتوانى عن توقيعها لدى كل منعطف أو فراغ ناجم من تكثيف الحوادث في كلام قليل.

"في أول النهار، في أول الركض والاصطدام في زقاقنا الذي في جنوب المدينة، أخذ الأولاد المنبوذون يطاردون سيارة البيك الطويلة التي اضطرت... لعبور زقاقنا المشهود، وكان البيك يجلس كالعادة، في الخلف، إلى اليمين، ولأن البيك زعل، كان يجب أن يزعل السائق العزيز. فاستدار هو، "أبو الوفا" إليهم وهرس من بينهم، معهم، لحم ولده الصغير..." من " العري في صحراء ليلية".  

بعد القصة القصيرة جداً هذه "وهي بعنوان "سلام على الفقراء"، يورد الكاتب قصة من النوع نفسه، بعنوان "امرأة في خياله" يؤدي فيها لعبة الازدواج بين ضمير الغائب (الشخص طفلاً) وضمير المتكلم (الشخص كهلاً أو راشداً)، والقاسم بينهما وجه الممرضة الشابة الجميل، وقد لفظت جملة يتيمة تحفيزاً له ليتجاوز مرضه، "أنت رائع، تشجعْ"، وجه بقي مرتسماً في المخيلة، ويسأل عما إذا كانت لا تزال على قيد الحياة أم ارتحلت عنها. 

أما القصة المتسلسلة (خمسة أجزاء متفاوتة الطول، لكل صفحة إلى اثنتين) بعنوان "الليلة تمشي بين الماء والرمل"، فحكايتها والحوار فيها آسران، بين الرجل وطفله في خلال نزهة نادرة لهما إلى النهر، ودعاء الأول من الله بأن تكون له مركبة طويلة تسير في الماء، وادعاء الطفل بقدرته على الغوص نقلاً عما شاهده في التلفزيون. في حين يشكل الحوار الثاني، غير المتوقع، بين الرجل وفتى شريد ويتيم الوالدين، يقضي أيامه ولياليه جوعاناً وباحثًا عن والديه في كل زوجين عابرين في السوق، ثم لا يزال حتى يروي خلاصة عمره، بين طفولة ضائعة، ورفاق وأهل غائبين بفعل إيداعه في مدرسة داخلية، وانتهائه فتى على ضفة النهر تائهاً، لا مكان يؤويه ولا ذراع تطويه. ذروة درامية لا يقف السرد عندها، إلا ليفتح أبواب التأويل على مصاريعها. وإن قلتُ إن الحوار أسلوب فاعل في القصة، فإنه لا يمكن إنكار السرد، ولا الوصف، ولا السيناريو المسرحي المصغر، في إخراج الشخصية النموذجية على هيئتها الداعية إلى التأسي. "هل تسكت وأتكلم أنا؟ بعد أن صار عمري سنتين فقدتُ الوالدين. ولذلك لا أعرفهما...أرى في الشارع رجلاً فأفكر أنه أبي والمرأة أمي. كنتُ التحقت بمدرسة داخلية وبعد سنة فيها، هربت وتخلصت منها ، وبدل أن أتعلم القراءة والكتابة تعلمت أن أظل ساكتاً. اعتدت من ذلك اليوم أن أعيش في الجوع والتشرد..." (ص:10)

هواجس شخصية

في قصة "الفندق"، يبتدع الكاتب الريماوي جوا كافكاويا بارزا، إذ يصور شخصية نهباً للهواجس والمخاوف، من تآمر الموظفين القائمين في الفندق، إلى حيث دعاه زميل له لزيارة المدينة، بحجبهم نور الصباح، وتلاعبهم بالزمن، وبإرسالهم كلباً ضخماً لاستقباله والوقوف على مطالبه، "تصورتُ نفسي بطلاً لفيلم كابوسي أقوم فيه بدوري باندماج كلي حتى أكاد أنسى شخصيتي الأصلية" (ص:19) وأحسب أن قصة "لقاء لم يتم" تندرج في الباب نفسه، من الأجواء الكافكاوية، إذ يجد الراوي نفسه، بعيد الانفجار، ناجياً من الموت مع كائن آخر هو الذئب. غير أن الذئب، وقد استعاد وعيه وحواسه، يؤثر ألا يلتقي بالراوي البشري الوحيد -الناجي- لأنه استشعر فساداً في الجو.

أما قصة "لن يصدقه أحد"، فهي مكرسة للهزء من ادعاءات بعض الشعراء، وتخرصاتهم التي يبنون على أساسها شعراً من دون مرجع حقيقي، وبالطبع، كانت للقاص الريماوي هذه القدرة على ابتداع حكاية ذلك الشاعر من أريحا، الذي وضعه الغجر على موقد وأشعلوا النار تحته، فلم يمت. ولما غادروا المكان، وبقي حياً يرزق، صار يقول إنه "ظل حياً ومقتولاً في آن".

ومن شاء أن يقرأ قصة "رجوع الطائر" تطالعه تجربة شخصية ذات رقة وتعاطف مع الحيوان، إذ يأتي بطير الببغاء إلى أولاده الصبيان والبنات، من أجل أن يتآلفوا معه ويعلموه النطق، ويستأنسوا بحضوره، فيتضح له، بعد حين، أن طير الببغاء هذا لم يكن من نوع المتكلم، وأن جائحة أصابت الطيور، واقتضى التخلص منها على وجه السرعة. ثم إن أول المطالبين بالتخلص من الطير كانوا أولاده. ثم إنها المصادفات الغريبة، وغير المبررة في حينه، ما يشكل لب القصة العاشرة في السلسلة، ذات العنوان "سحر الحياة"، التي يكتشف فيها الراوي رقم 1948 (وهو تاريخ ميلاده) محفوراً على باب غرفة الفندق، حيث نزل يوماً، ولم يلبث أن رأى الرقم نفسه لمنزل كان في زيارته في قرية المحمودية:1948.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ثلاث وعشرون قصة، بلغة ذات بيان لا يعرف هبوطاً إلى عامية، أو كلام عادي، يحبك القاص والروائي محمود الريماوي، بخيط خياله الواسع وحسه الإنساني العميق، أنواعاً شتى من اللوحات الواقعية والنفسية والسيرية والانفعالية، ما لا يقوى على جمعه كتاب عديدون.

لن يتاح لي الخوض في القصص الأربع عشرة الباقية (فهي من نصيب القراء) إلا أن فيها من التشخيص الدرامي، والغوص إلى قرارة الكائن، والضرب على أوتاره الأثيرة، كالحب، والحرية، والغريزة، والحلم، ومحاولة التقاط اللحظات الماضية، الكثير مما يؤنس ويُطرب ويطيل أثر جماله في النفس.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة