Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ميشال ليريس يهجر المساجلات العلمية ليهتم بأفريقيا

"السوريالي" الفرنسي يهتم بمصير القارة بعد رحلة إلى بلاد "دوغون"

من الفنون الأفريقية التي قلبت حياة المفكر الفرنسي تماماً (غيتي)

لم يكن الفرنسي ميشال ليريس عالم إناسة أو عالم أعراق، ومع هذا جرب، اليوم، أن تراجع أية لائحة مصادر حول الشؤون الأفريقية، لا سيما العائدة إلى أواسط القرن الـ20، فتجد اسمه وارداً بين أسماء أبرز الباحثين الغربيين الذين زاروا أفريقيا طوال النصف الأول من القرن الماضي أو عاشوا فيها وكتبوا عنها. وما نتحدث عنه هنا ليس كتابة ذاتية أو تسجيلاً ليوميات كما فعل مثلاً أندريه جيد، حين سجل مذكراته عن رحلات قام بها إلى الكونغو أو تشاد أو حتى مصر، بل نتحدث عن كتابة علمية حقيقية يضمها واحد من كتب ليريس الأساسية "أفريقيا شبحاً" صار عالماً متبحراً في الشؤون الأنثروبولوجية يوقع كتاباً سرعان ما يصبح مرجعاً؟

 

الصدفة… الصدفة وحدها إلى جانب الصداقة، هي التي قادت خطوات ليريس إلى القارة. حدث ذلك، في عام 1930، حين كان ليريس يعمل في مجلة "وثائق" العلمية إذ ارتبط بزميله في العمل العالم مارسيل غريول الذي ارتبط معه بصداقة عميقة. ومن هنا، حين كلف غريول بمهمة ميدانية أنثروبولوجية في أفريقيا تستغرق، سنتين، اقترح على ليريس أن يرافقه في المهمة كواحد من الفريق المكلف البحث والاستقصاء في تلك المجاهل التي كانت الكولونيالية تسيطر عليها تماماً وتعتبر شعوبها مجرد "فئران اختبار" كما سيقول ليريس لاحقاً. والحقيقة أن هذا ما سيلاحظه ميشال ليريس هناك ما إن وصل وبدأ يدون ما يبدو أول الأمر على صورة يوميات سفر مكتوبة بلغة حميمية تصف حقاً حياة السكان الأصليين، وما يعانونه ونظرة الغريب إليهم بكونهم "لا يوجدون"، ومن هنا عنوان الكتاب، بكونهم أشباحاً. ما إن بدأ يفعل ذلك حتى تحول النص بين يديه إلى شيء آخر تماماً، إلى نص يجمع الهم الأفريقي العام بالهم الإنساني الأكثر عمومية بالهم الخاص لكاتب حساس، راح يلاحظ كيف أن المستعمر يدمر حياة محلية وبرية من دون أن يكون معنياً ببناء مستقبل لإنسان هذه المناطق، إلا وفقاً لشروط استعباد دائم.

مناقشات وتناحر

وكانت النتيجة كتاباً ضخماً لا يتوقف عن الصدور والصدور من جديد مرة كل بضع سنوات. وجرت العادة، منذ ذلك الحين، على أن ينظر إليه وفي الوقت نفسه إما على أنه كتاب كلاسيكي في مجال علمي الأعراق والإناسة وإما بوصفه يوميات حميمية. واستقر الأمر في النهاية على اعتباره مزيجاً من النوعين معاً. وأكثر من هذا: مزيجاً متفوقاً، وذلك بالتحديد لأن المؤلف، إذ كان منذ البداية منعتقاً من أي بعد أكاديمي، ومن ثم من أية رغبة في أن ينتهي الأمر بكتابه لأن يصنف ويدرس في الجامعات، أخذ حريته في أن يصف ما يراه ويعايشه، كما هو تماماً، ولكن، لأنه كان يعايش خلال كل تلك الأشهر فريقاً علمياً، لا يتوقف أعضاؤه عن التناقش والتناحر في شأن كثير مما يرونه ويعايشونه، عرف كيف يعكس كل ذلك في ثنايا صفحاته ونصوصه جاعلاً حتى من الصفحات الأكثر حميمية سطوراً رائعة في قدرتها على المزج الخلاق بين ما هو خاص وما هو عام، حتى كأنه انتهى إلى الاندماج كلياً في موضوعه، ولسوف يلاحظ قراء ميشال ليريس في كتبه التالية تأثراً مدهشاً في ذلك المزج لديه بين الذاتي والموضوعي. ومن هنا جمال هذا الكتاب الذي يقرأ دائماً على مستويات عديدة ليصبح كلاسيكياً في مفهوم الكتابة نفسه.

الكاتب بين قارتين

لاحقاً في حديثه عن ذكرياته مع "أفريقيا شبحاً" قال ليريس: "في أفريقيا لم أكن على الدوام سوى مستوطن (أوروبي) يقف، قليلاً أو كثيراً، إلى جانب الزنوج، وفي أوروبا اليوم، لست أكثر من بورجوازي يقف، قليلاً أو كثيراً، إلى جانب العمال". لعل هذه العبارة التي قالها ليريس أواخر عام 1947 كافية، أكثر من أي عبارة أخرى، لرسم صورة مريرة وصادقة لشخصيته القلقة المشاكسة، تلك الشخصية التي لم تكف عن التغير والتبدل على مدى القرن الـ20 الذي عاشه ليريس طولاً وعرضاً، وكان، في نهاية الأمر، صورة له، حتى وإن كانت صورة "مشوهة" على شاكلة ذلك التشويه الخلاق الذي عرف كيف يطبع لوحات فرانسيس بيكون الرسام الإنجليزي، صديق ليريس، الذي كان واحداً من الذين رسموه. والحال أن اللوحات العديدة التي رسمها كبار فناني القرن الـ20 لميشال ليريس، من دون أن يكون ثمة أي سبب في خلقته العادية وفي سماته البلاملامح، يدفعهم إلى خصه بكل تلك اللوحات في ظاهر الأمور، والحال أن تلك اللوحات بكشفها عن ملامح ليريس، سوريالياً وتكعيبياً وتجريدياً وعلى طريقة خوان ميرو، كافية لأن ترسم لنا تبدلات ذلك الكاتب - الفنان، وضروب مشاكساته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عالم أشباح!

ومهما يكن من أمر، فإننا لئن كنا قد قدمنا في نص سابق في هذه الزاوية شيئاً عن خلفيات ليريس الذاتية، ثم قدمنا بعد ذلك مفاتيح لدخول تلك الشخصية من خلال علاقته الشهيرة مع الرسام فرانسيس بيكون والتي أنتجت، بألوان هذا الأخير وريشه، لوحات عديدة يمكن للمرء أن يدرك من خلالها ما الذي فتن ليريس بفن بيكون وما الذي اجتذبه ناحية أفريقيا، لا بد هنا من التوقف عند كتاب "أفريقيا شبحاً" الذي يبقى على رغم "افتقاره إلى النزعة العلمية"، كما حال معظم نتاج ليريس الكتابي، من أشهر ما كتب في حياته، بل حتى من أشهر الكتب التي أعلن جان مالوري مؤسس سلسلة "أرض البشر" التي أصدرت عشرات الكتب المماثلة، أنه يكاد يكون الكتاب الوحيد الذي يأسف أن طبعته الأولى لم تصدر عن تلك السلسلة! ولا شك أن أسف مالوري يتأتى من كون الكتاب نفسه يكاد يكون انطباقاً حرفياً للغاية الأساسية التي توخاها من تأسيس سلسلته من الكتب التي أثارت حماسة منشورات "بلون" الباريسية التي تكاد تكون تصويراً بالغ الأمانة للغايات العلمية - الإنسانية - السياسية حتى، التي وسمت كتب السلسلة. ومن هنا لا بد من وقفة عند هذا الكتاب بالتحديد.

رغبة حارقة

فـ "أفريقيا شبحاً" كنا أشرنا إلى نتاج تلك الرغبة الحارقة التي استبدت بليريس الشاب، وهو يدون يوميات مشاهداته الخاصة في تلك المناطق الأفريقية خلال إقامته ما يقارب السنتين، ولا سيما في بلاد "دوغون" في الغرب الأفريقي جنوب الصحراء الكبرى، وامتداداً منها من مالي إلى جيبوتي، أي خلال تلك المناطق التي كان التجوال فيها عملاً رائداً في مسار البحوث الفرنسية في الحضارة الأفريقية خلال القرن الـ20.

والحقيقة أن ليريس كان، منذ مستهل الرحلة، سكرتيراً للعالم مارسيل غريول، وهو بهذا كان لديه الوقت، بالنظر إلى عدم تعمقه في تلك الأنواع من البحوث، لرصد الحياة العامة من حوله: الحياة التي يعامل بها سكان المناطق الأصليين، وكأنهم كميات لا كيان لها من بشر، لا يتمكنون حتى من أن يفكروا بالتاريخ القديم لتلك الحضارات التي كانت حضاراتهم ولا سيما منهم شعب "الدوغون"، أو في الأقل كان ذلك ما يبدو عليه أولئك السكان. أما ليريس فرأى الأمور من زاوية أخرى بفعل نضوجه خلال تلك المرحلة من حياته قاطعاً والعاملين معه تلك الهضاب الفسيحة المنتشرة على طول أفريقيا المستعمرة، ومنها، بخاصة، القبائل المنتمية إلى "الدوغون" التي يقودها، روحياً كهنة. وأخذ الكاتب الشاب يكتشف أكثر وأكثر أنهم في حقيقتهم حراس الحضارات المحلية القديمة الحافلة بالأسرار والقيم التي كان الكولونياليون لا يتوقفون عن طمسها. وكان ذلك ما أغضبه وحرك قلمه لكتابة ما تحول لديه إلى صرخة أولى بالكاد سبقها ما يشبهها، وربما استكمالاً لجهود كانت من ناحية ما، أدبية غاضبة، بدورها، ولكن يمكن للإبداع الأدبي فيها أن يمتص الغضب النضالي، وذلك ما كان عليه نص ليريس الذي سيفتح الأبواب واسعة، من بعده، لتحول الكتابة إلى فعل تحرير حقيقي. ومن هنا كان التضافر الخلاق لدى هذا الكاتب الاستثنائي بين المبدع فيه والراصد الاجتماعي، حدثاً فريداً في تاريخ الفكر الأنثروبولوجي الفرنسي.

المزيد من ثقافة