من بين وجوه الفن السورّيالي الكبرى، الفرنسي أندريه ماسون (1896 ــ 1987) هو ربما الأقل شهرةً، لكنه بالتأكيد الأكثر عبقرية. ففي الرسوم التي أنجزها مطلع العشرينات، عثر صديقه أندريه بروتون على التطبيق الأول للكتابة الآلية داخل الفنون التشكيلية. وفي أعماله اللاحقة، تجاوز الرسم الآلي، من دون أن يتخلى عنه، وفتح بالميثولوجيا الشخصية التي ابتكرها وعلاقتها الحميمة بالطبيعة أراضٍ سورّيالية كانت عذراء قبله.
ولكشف هذه الحقيقة وردّ الاعتبار لهذا العملاق المُهمَل، ينظّم متحف الفن الحديث في مدينة سيريه (جنوب فرنسا) معرضاً استعادياً ضخماً له يتألف من عشرات اللوحات الزيتية والمائيات والمحفورات والرسوم والمنحوتات التي تغطّي كافة مختلف المراحل التي عبرها بفنه. وكما يشير عنوانه: "أندريه ماسون ــ ميثولوجيا الكائن والطبيعة"، يتوق المعرض أيضاً إلى كشف مدى تأثير الطبيعة على عمل هذا الفنان ودورها المركزي في انبثاق كائناته الخارقة وبلورة ميثولوجيته الخاصة.
وفعلاً، ذلك الذي نصحه طبيبه باكراً بمغادرة المدن نهائياً، عاش الجزء الأكبر من حياته في أرجاء الطبيعة متأمّلاً حيواناتها ونباتاتها، واتّسمت علاقته بها بجانب "ديّوسي" (dionysiaque) فألهمته بتنوّعها ووفّرت له ذلك الشعور بالطمأنينة التي لطالما سعى خلفه، وفي الوقت نفسه، رأى فيها مسرح قسوة (بين كائناتها) تجاوب بعمقٍ مع تساؤلاته الوجودية ونظرته القاتمة إلى قدر الإنسان الذي تتحكّم به نزعتي الخلق والتدمير.
لكن قبل أن يعانق الطبيعة، عاش ماسون مجموعة أحداث لا يتوقف عندها المعرض وهي التي دفعته في اتجاه فن الرسم وحدّدت المواضيع التي عالجها طوال حياته، وأوّلها اكتشافه وهو طفل في بروكسيل، أعمال الفنانَين بروغِل وروبان ولوحة جايمس أنسور"المسيح في قلب العاصفة"، ثم اختباره أهوال الحرب العالمية الأولى التي شارك فيها مجبراً وجُرح على الجبهة عام 1917، فتصادقه في مدينة سيريه عام 1919 مع شاييم سوتين، الفنان الروسي الثائر الذي أراد "تقيّؤ فن الرسم" فمارسه كطقسٍ "ديّوسي" بأسلوبٍ تعبيري شديد العنف.
لقاء السورياليين
بعد ذلك، كان لقاء ماسون الحاسم بأندريه بروتون عام 1923 الذي أفضى إلى صداقة عميقة وطويلة بينهما، على رغم بعض الخلافات نتيجة تباين نظرتيهما إلى الآلية. فبالنسبة إلى الفنان، شكّلت الآلية أداةً وليس غاية بذاتها. وفي هذا السياق، كتب: "في العمق، وبخلاف بروتون، كنت أعتقد أن القيمة الجوهرية لا تكمن في الآلية، بل في الروح الديّوسية التي تشكّل حالة انتشاء متفجِّرة تسمح بالخروج من الذات وتحرير الغرائز، وتقود بالتالي إلى الآلية". ولذلك، لم تشكّل الرسوم الآلية التي ثابر على إنجازها طوال حياته سوى تعبير عن تشنّجاته الداخلية.
وبين عامَي 1934 و1936، استقرّ ماسون في منطقة توسا دي مار الأسبانية التي فتنته بمشاهدها الطبيعية، فنظر إلى أشجار غاباتها كما لو انها "كائنات حيّة نائمة"، وسبر سرّ الحشرات في أرجائها ورسم أغرب أنواعها، كما أنجز لوحات كثيرة حول رياضة مصارعة الثيران. وفي هذه الأعمال كما في تلك التي حقّقها في الطبيعة الفرنسية، كان الفنان ينطلق من الواقع لخلق أساطير شخصية، كما يشهد على ذلك الجانب الخارق لمخلوقاته المجنّحة أو"المقرّنة". أما عناصر الطبيعة وكائناتها الممثَّلة داخل هذه الأعمال فكان يستخدمها كاستعارات لعنف الإنسان.
لكن فرنسا وأسبانيا ليستا البلدين الوحيدين اللذين لعبت الطبيعة فيهما دوراً مسارّياً في عمل ماسون. فجزر المارتينيك التي توقف فيها مطلع الأربعينات صعقته أيضاً بجمال طبيعتها وألهمته رسوماً ولوحات يتداخل فيها النباتي والبشري بطريقة تستحضر بعض قصائد غوته. محطة محوريّة إذاً في مسيرته أعاد خلالها إنعاش علاقته ببروتون الذي كان حاضراً في هذه الجزر أنذاك، وأنجز معه كتاب "المارتينيك، فاتنة الثعابين" الشهير، كما تعرّف إلى الشاعر السورّيالي إيميه سيزير الذي عزّز لديه ذلك الميل إلى إسقاط داخل المواقع الطبيعية المرسومة أساطير كان يعبّر من خلالها عن حقيقة الوضع البشري وجانبه المأساوي.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى ولاية كونّكتيكس الأميركية التي استقرّ ماسون فيها بين عامَي 1941 و1945، وشهد أسلوبه التشكيلي تحوّلاً جذرياً في أرجاء طبيعتها. فبدلاً من الاكتفاء برسم مناظر هذه الطبيعة، سعى ونجح في تجسيد قواها الباطنة.
باختصار، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، أمضى ماسون معظم وقته في أحضان الطبيعة وأنجز رسوماً ولوحات لا تمكن مقارنة الحشرات والطيور والأحصنة والثيران الماثلة فيها مع تلك التي نعثر عليها في أعمال أي فنانٍ آخر، أو في رسوم أي عالِم طبيعة، أو في قصص أي كاتب أساطير. فحيواناته بشرية الشكل، وإنسانه يتحلى بصفاتٍ حيوانية. وداخل أعماله تتزاوج هذه الكائنات الغريبة أو تتصارع بعنفٍ في بيئةٍ يبدو فيها الحجر والنبتة والحيوان والإنسان في حال تحوّلٍ دائم.
وهنا يكمن مفتاح فنّ ماسون، في بُعده التراجيدي العميق، في كون كل شيء في طبيعته معرّض لتحوّلات لا نهاية لها، وأيضاً في البحث الذي قاده الفنان داخل هذه الطبيعة حول الميثة ومعناها. بحثٌ يتشاركه مع رفاقه السورّياليين الذين اهتموا باكراً بعلم الأساطير وتسلّحوا به لتشريع أبواب الخيال والخارق واجتياح فضاءاتهما. ففي حال توقّفنا عند أعمال ماكس أرنست أو خوان ميرو أو إيف تانغي أو سلفادور دالي، للاحظنا أن كل واحدٍ منهم استخدم الأساطير ومنحها تفسيراً خاصاً. لكن الملاحظ أيضاً هو أن ظهورها في أعمالهم نادراً ما حمل معنى عميقاً كذلك الذي نستنتجه في أعمال ماسون.
ولا عجب في ذلك، فبالنسبة إلى هذا العبقري لم تكن الميثة مجرّد هروبٍ خارج الزمن والواقع. إنها عُمق الحياة نفسها، وهي وحدها قادرة على مساعدة الإنسان خلال لحظات ضعفه أو عجزه، أي طوال حياته. ومع أنه أعاد إحياء شخصيات أسطورية كثيرة خلال مسيرته الفنية الطويلة، إغريقية أو مصرية أو فارسية الأصل، مثل أوزيريس ومِثرا وأكتيون، لكن تلك التي تسلّطت عليه وظهرت في أشكالٍ مختلفة في عددٍ كبير من أعماله هي أسطورة "مينوتور" وما يرتبط بها، أي شخصيتيّ بازيفاييه وديدال، والمتاهة. أسطورة تجاوبت بقوة مع قلقه من الحروب المتتالية التي عاشها، وشكّلت خير ركيزة له للتعبير عن نزعته التهتّكية، المُدمّرة والبنّاءة في آنٍ واحد.
فنّ ماسون الحي والراديكالي هو إذاً مزيجٌ من العفوية والتأمّل، من البربرية والاستهواء، تغذى من الطبيعة التي عاش في أحضانها ومن الميثات التي ساءلها أو ابتكرها، كما تغذّى من علاقاته الوثيقة بشعراء مثل بروتون وجورج باتاي وأنتونان أرتو وميشيل ليريس، ومن فكر كل واحد منهم. وهذه المراجع الأخيرة أهملها المعرض، علماً أنه لا يمكن من دونها تفسير ذلك الاندفاع الواحد نحو الحياة والموت الذي يعبر كائنات ماسون الغريبة، وتلك الشعرية التي تلفّ أعماله ونادراً ما بلغها فنان قبله أو بعده.