أمران على الأقل اشتهر بهما الكاتب الفرنسي ميشال ليريس في الأوساط النخبوية في بلاده: اهتمامه الكبير بالقارة الأفريقية التي وضع عنها كتابات عديدة لعل أبرزها نصه الاتهامي (للكولونيالية) "أفريقيا الشبح" من ناحية، وصداقته مع الرسام البريطاني فرانسيس بيكون التي دفعته إلى وضع أكثر من دراسة عنه كما دفعت بيكون إلى "تخليده" في لوحة مُدهشة، لكنَّ هناك بالطبع أموراً عديدة أخرى في مسار ليريس وحياته قد تكون جديرة بشُهرة لا تقل عما أمنته له أفريقيا وأمنها له بيكون. ومن هذا كونه من مؤسسي السوريالية، وأيضاً كتاباته الذاتية التي لم تتوقف أبداً، علماً بأنه حتى كتابه "الأنثروبولوجي" "أفريقيا الشبح" يمكن اعتباره أيضاً من نوع الكتابة الذاتية.
تحطيم الذات
لقد كانت لميشال ليريس كتابات ذاتية رافقت كل مرحلة من مراحل حياته، ومع هذا يبقى نصه المعنون "سن الرجولة" أشهر تلك النصوص لأنه كان من أوائل كتاباته التي نشرها في وقت بالكاد يعرف عنه أحد شيئاً. بمعنى أن الرجل عمل عكس ما يفعل الآخرون: عرَّف بنفسه ثم بكتاباته الشعرية وغير الشعرية. غير أن ما يشفع له هو أن ذلك "التعريف" كان في حدِّ ذاته عملاً أدبياً كبيراً، علماً بأن الكاتب وقبل أن يشرع في كتابة هذا النص كان قد تلقى علاجاً نفسياً صارماً من جرَّاء جملة عوارض راحت تبدو عليه وتقضُّ مضاجع المحيطين به. كان ليريس حينها في أواسط الثلاثينيات من عمره. ولئن كانت جلسات العلاج التي تواصلت لمدة عام كامل قد عجزت يومها عن شفائه فإنها تمكنت من أن تجعله شديد الصراحة في اعترافاته الذاتية التي راح يدونها دون هوادة هو الذي لم يفته أن يؤكد، كتابة في ذلك الحين، أن الكتابة إنما هي نوع من مصارعة الثيران!
ولكن ما علاقة مصارعة الثيران بذلك النص الذي لم يتوقف فيه ليريس عن وصف نفسه، جسدياً وخلقياً، بأبشع صورة، متحدثاً مثلاً عن رقبته المستقيمة و"كأنها جدار أو مفازة كواحدة من علامات برج الثور" وجبهته "المحدودبة بشرايينها البارزة الدبقة دائماً، كواحدة هذه المرة من علامات برج الحمل"؟ وعن عينيه يقول ليريس إنهما بُنيتان، ولكن بجفون دائمة الالتهاب، كما يعلن خجله ببشرته الملساء المحمرَّة دائماً ويديه الهزيلتين، و"رأسي الذي يبدو كبيراً على جسمي" و"ساقيَّ القصيرتين"، و"مشيتي في انحناء إلى الأمام...". والحقيقة أننا ما أوردنا هنا هذه المقاطع إلا بوصفها نموذجاً على صفحات إنما كتبها ليريس ليصف لنا تحولاته الشخصية منذ لحظات طفولته التي أمضاها جميعاً وهو تواق إلى بلوغ سن الرجولة، لكنه يروي لنا هنا كيف أنه لم يبلغ تلك السن أبداً، وليس لأن الحق على المجتمع أو على الآخرين، بل لأنها سنٌ لا يمكن لامرئ من نوعيته أن يبلغها أبداً. فهل في ذلك من بأس؟
أبداً، يجيبنا ليريس الذي يرى أنه لئن كان على الأدب أن يحمينا من البلوغ بإبقائنا على الدوام في وهدة الطفولة ونحن تواقون إلى تجاوزها، فإنه هو حقق ذلك، حقق الطفولة الدائمة رغماً عنه بفضل تلك المواصفات الغريبة التي قدمها لنا في لحظة صراحة غريبة ملأت ذلك الكتاب وميَّزته. وكشفت كم أن هذا الكاتب الغريب والاستثنائي عرف دائماً كيف يخوض الصراع الأقصى الذي يخوضه كل واحد منا وينتصر: الصراع مع الذات وضدها.
شخصية صادقة ومريرة
من هنا نجده يكتب مرة: "في أفريقيا لم أكن على الدوام سوى مستوطن (أوروبي) يقف، قليلاً أو كثيراً، إلى جانب الزنوج، وفي أوروبا اليوم، لست أكثر من بورجوازي يقف، قليلاً أو كثيراً، إلى جانب العمال". لعل هذه العبارة التي كتبها ميشال ليريس أواخر عام 1947 كافية، أكثر من أي عبارة أخرى، لرسم صورة مريرة وصادقة لشخصيته القلقة المشاكسة، تلك الشخصية التي لم تكف عن التغير والتبدل على مدار القرن العشرين الذي عاشه طولاً وعرضاً، وكان، في نهاية الأمر، صورة له، حتى وإن كانت صورة "مشوَّهة" على شاكلة ذلك التشويه الخلاق الذي عرف كيف يطبع لوحات فرانسيس بيكون الرسام الإنجليزي، صديقه، الذي كان واحداً من الذين رسموه. والحال أن اللوحات العديدة التي رسمها كبار فناني القرن العشرين لميشال ليريس، من دون أن يكون ثمة أي سبب في خلقته العادية وفي سماته التي بلا ملامح، يدفعهم إلى خصه بكل تلك اللوحات في ظاهر الأمور، الحال أن تلك اللوحات بكشفها عن ملامح ليريس، سوريالياً وتكعيبياً وتجريدياً وعلى طريقة خوان ميرو، كافية لأن ترسم لنا تبدلات ذلك الكاتب - الفنان، وضروب مشاكساته.
ولكن على رغم شُهرة ليريس في أوساط الحركة الثقافية الفرنسية، فإنه لم يكن أبداً من أشهر أقطاب تلك الحركة، كما أنه على رغم اهتمامه الفائق بأفريقيا السوداء وبالشعوب المستضعفة، معبراً عن ذلك بواحد من أشهر كتبه "أفريقيا الشبح"، لم يعتبر أبداً من علماء الإناسة المرموقين. أما سورياليته التي لم تدم سوى خمسة أعوام، فإنها كانت القشرة التي رافقته ولم يفلت منها أبداً على رغم تركه السورياليين باكراً، أي منذ تعرف عليهم ليدرك أن ما يفرقه عنهم، أكثر مما يجمعهم به. وفي المقابل فإن أحداً لم يلتفت جدياً إلى شيوعيته الدائمة مع أنه حمل بطاقة الحزب منذ ريعان شبابه، وكان واحداً من أوائل المثقفين الفرنسيين الذين زاروا الصين الشعبية ليؤيدوها باكراً، واختاروا الوقوف الدائم إلى جانب كوبا كاسترو. هل هذا لأن ميشال ليريس لم يعرف كيف يكون في الصف الأول أبداً؟ ربما. المهم إن الرجل عاش حياته كما شاء وحضر في الحياة الثقافية الفرنسية، وحقق ما كان يصبو إليه منذ صباه: أن يصبح مثقفاً، وأن تساعده ثقافته على التمرد والمشاكسة الدائمين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مصر التي غيَّرته
ميشال ليريس الذي وُلد في العام الأول من القرن العشرين وتوفي عام 1990، كان حالة استثنائية في الثقافة الفرنسية. ولعل حالته الاستثنائية أتت من لقاءاته وانبهاره دائماً بمن وما يلتقي، أكثر مما أتت من إبداعه الشخصي. ومن هنا، فإن انخراطه في السوريالية أتى عبر لقائه ماكس جاكوب، أما اهتمامه بالإثنولوجيا فأتى عبر لقائه جورج باتاي. كانت سفرته إلى مصر أواسط عام 1927 هي التي جعلته يلتقي للمرة الأولى مع الوضـع الاستعماري الذي سيثير حفيظته منذ تلك اللحظة، فتجده في رسالة يبعث بها إلى زوجته يوم 9 أيار (مايو) 1927، يعبر عن كراهيته العميقة للذهنية الكولونيالية، الكراهية التي تولدت لديه منذ رأى "الأوروبيين الكولانياليين مثل أغبياء كئيبين وضوارٍ معيبة، لهم جميعاً، وإن بأشكال مختلفة، ذهنيات ضباط صف".
بعد تلك الرحلة قطع ليريس مع السورياليين، ثم كانت رحلاته المتعاقبة إلى أفريقيا السوداء، أحياناً من تلقائه، وأحياناً مكلفاً مهمات إثنولوجية. والحال أن غرامه بأفريقيا يعود إلى تلك المرحلة التي أنتجت لديه كتابه "أفريقيا الشبح" والعديد من النصوص الأخرى، وفتحت سلسلة معاركه مع المؤسسات الرسمية الفرنسية. وستتواصل تلك المعارك على الدوام، وصولاً إلى توقيع ميشال ليريس، أواخر سنوات الستين على بيان المثقفين الفرنسيين الذي يؤيد الجنود الراغبين في عدم التوجه إلى القتال في الجزائر ضد ثورة الشعب الجزائري.
على مدى كل تلك السنين لم يتوقف ميشال ليريس عن الكتابة، هو الذي كان محركه الدائم سؤالاً لم يكف عن طرحه على نفسه: "كيف يمكننا أن ندرك الواقع، ونزعم امتلاك الحقيقة ونحن نواجه الشكل الذي تفرضه الفلسفة والعلم والتاريخ". للإجابة عن هذا السؤال مزج ميشال ليريس الفن بالحياة في مغامرة دائمة أنتجت عشرات الكتب والدراسات ومن أبرزها إلى "سن الرجولة"، و"أندريه ماسون وعالمه" و"العرق والحضارة" و"هروب الثلج الكبير" و"خمس دراسات حول الإثنولوجيا" و"كلمات ضد الذاكرة" و"فرانسيس بيكون والحقيقة الصارخة" و"قاعدة اللعبة"، وفي النهاية كتاب مذكراته الذي صدر بعد رحيله بعامين ليكشف عن مغامرة عقلية كانت واحدة من أجمل مغامرات العقل في القرن العشرين.