Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل موسكو وراء مقتل محامي الأوليغارشيين الروس في لندن؟

وفاة ستيفن كورتيس عام 2004 أثناء الصراع على السلطة بين بوتين وأغنى رجل أعمال في روسيا تركت عديداً من الأسئلة من دون إجابات

شبكة خطرة: شيئاً فشيئاً، أصبح المحامي الذي ولد في مدينة سندرلاند لاعباً رئيساً في صراع مميت على السلطة (أ ف ب/غيتي/آيستوك/ب أ/رويترز)

ملخص

ستيفن كورتيس كان محامياً للأوليغارشيين الروس في بريطانيا، لذلك تركت وفاته عام 2004 كثيراً من التساؤلات حول يد الكرملين فيها

الساعة 6.56 مساء الأربعاء الموافق الثالث من مارس (آذار) 2004. تهبط طائرة هليكوبتر بيضاء جديدة ذات ستة مقاعد من طراز أغوستا "أي 109 إي" Agusta A109E تبلغ قيمتها 1.5 مليون جنيه استرليني (نحو 1.9 مليون دولار) تحت سماء ملبدة بالغيوم في مهبط طائرات الهليكوبتر في حي باترسي بلندن. وكان محامياً عريض المنكبين له من العمر 45 سنة يدعى ستيفن كورتيس، ينتظر بفارغ الصبر على المدرج وهو يمسك بهاتفيه المحمولين غير المسجلين من شركة "فودافون". لم يكن حينذاك في أفضل حالاته المزاجية. وقبل ثلاث دقائق اتصل برئيس قسم الأمن لديه نايجل براون، في شأن الفواتير المتنازع عليها التي أرسلت إلى عميل روسي. وصرخ "اسمع، يجب أن أذهب الآن".

يصعد كورتيس على متن المروحية وفي الساعة 6.59 مساءً، وتقلع به في سماء لندن القاتمة. كان الجو ضبابياً مع وجود سحب متفرقة على ارتفاع 3800 قدم، إلا أن الظروف مقبولة للطيران، ومدى الرؤية سبعة كيلومترات.

يغلق المحامي كلاً من الهاتفين ويجلس. وبعد يوم مرهق من التعاطي مع العملاء الروس المتطلبين من شقته الفاخرة البالغ ثمنها 4 ملايين جنيه استرليني (نحو 5 ملايين دولار) والمشرفة على نهر التيمز، فإنه يتطلع إلى قضاء أمسية مريحة في بيته الكائن في "قلعة بنسلفانيا"، وهي ملاذه الذي يعود تاريخه إلى القرن الـ18 في بورتلاند، بدورست.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي وقت بدأت المروحية بالاقتراب من مطار بورنماوث، كان مطر خفيف يهطل فيما كان المدرج يحتجب وراء الغيوم. وتمنح طائرته أغوستا إذناً بالهبوط وتبدأ بالنزول فيما تصبح أضواء السيارات على طريق 27 أي مرئية الآن مع حلول الغسق. يقوم الطيار، الكابتن ماكس رادفورد، الذي يقود بانتظام طائرات كورتيس من وإلى لندن، بالاتصال ببرج مراقبة الحركة الجوية للحصول على إذن بالهبوط على المدرج 26.

"إيكو روميو"، تجيب كيرستي هولتان، مراقبة الحركة الجوية. وتتابع "فقط تأكد من أنك ترى الحقل" ويأتي الرد "أي، سلبي. ليس هذه المرة. إيكو روميو".

لا يمكن لمراقبة الحركة الجوية أن ترى المروحية إلا على شاشة الرادار البعيدة الخاصة بها. تشعر بالقلق، ولذا تعمد إلى زيادة إضاءة المدرج إلى أقصى حد. وعلى بعد ميل واحد من المطار، كان الطيار يقول عبر الراديو "لقد أصبح مرئياً هذه المرة".

وترد هولتان بالسؤال "غولف إيكو روميو. هل تحتاج إلى رادار؟".

ويجيب رادفورد بصوت يغلب عليه التوتر" نعم، نعم". يكرر هذا 11 مرة في تتابع سريع.

فجأة، تنحدر المروحية بحدة إلى اليسار. وفي غضون ثوان انخفضت 400 قدم (120 متراً). "غولف إيكو روميو. هل كل شيء على ما يرام؟" تسأل هولتان التي باتت قلقة.

ويجيب رادفورد "لا، لا".

وخلال الـ56 ثانية التالية، أكد الطيار أن طاقة المروحية تعمل، إلا أنه فجأة، يقول باهتياج عبر الراديو "لدينا مشكلة، لدينا مشكلة". وبينما كانت المروحية تفقد الطاقة، يصرخ رادفورد عبر الميكروفون المفتوح "حسناً، أنا في حاجة إلى الارتفاع، أحتاج إلى الارتفاع".

ويصغي رادفورد إلى تحذير مفاده أن سرعة شيفرات الدوارة الرئيسة قد هبطت ويمكن سماعه وهو يكافح من أجل أن يمنع الطائرة من الانحدار، بيد أنه فقد السيطرة وأخذ يصرخ مذعوراً "لا. لا". وتلك هي كلماته الأخيرة.

المروحية، التي صارت الآن في حالة سقوط حر، تنحدر عمودياً في الحقل بسرعة عالية وتنفجر عند الاصطدام، مرسلة كرة نارية على ارتفاع 30 قدماً (10 أمتار) في الهواء. تتذكر سارة برايس، التي تعيش في المنطقة الواقعة تحت مسار الرحلة "بدا أن الحقل بأكمله كان يشتعل. كان الأمر مروعاً".

توفي كورتيس وقائد طائرته على الفور. وفي وقت لاحق، نقلت جثتيهما المتفحمتين إلى المشرحة في بوسكومب، بدورست حيث لم يكن من الممكن التعرف إليهما إلا باستخدام عينات الحمض النووي.

لقد أحدثت أخبار وفاة كورتيس صدمة في عالم الأوليغارشيين الروس. فهو كان منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، الوصي السري على ثرواتهم الهائلة وحماهم من تدقيق الكرملين وسلطات الضرائب الروسية ووكالات إنفاذ القانون.

لقد صنع كورتيس أعداء أقوياء، وأبرزهم فلاديمير بوتين، وذلك لأن عملاءه من الأوليغارشيين، بمن في ذلك بوريس بيريزوفسكي وميخائيل خودوركوفسكي، كانوا معارضين نشطين لنظامه.

وقد كلف كل منهما أشخاصاً بإجراء تحقيقات خاصة من أجل زعزعة استقرار بوتين. وفي عملية أطلق عليها اسم "عملية فاب" Operation Fab، جرى تكليف محققين بإيجاد أدلة دامغة على فساد حلفاء بوتين وإلحاق الضرر بالرئيس نفسه من خلال تسريب النتائج التي توصلوا إليها إلى وسائل الإعلام الغربية. وقال مصدر مشارك في تلك العملية "كنا ننوي خلق حالة من الصخب الإعلامي لا يمكن مقاومتها".

وأحب كورتيس الإثارة التي كان ينطوي عليها العمل لدى الأوليغارشيين، لكنه كان يشعر بتوتر متزايد في شأن انكشافه أمنياً. وكان في حاجة إلى الحماية. وهكذا، أصبح خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من حياته، مخبراً سرياً لدى جهاز الاستخبارات الخارجية البريطانية "أم آي 6"، ووضعه مكتب الاتصالات الحكومية البريطانية [وكالة أمنية بريطانية] Government Communications Headquarters تحت المراقبة.

الرجل الذي عرف أكثر من اللازم

يتمتع ستيفن لانغلاند كورتيس بذكاء رائع وذاكرة مذهلة. وقد أبصر النور في السابع من أغسطس (آب) 1958 في سندرلاند. كانت خلفيته متواضعة، إذ كان والده مهندساً وتخرج بشهادة في القانون في جامعة أبيريستويث.

وانطلق في مسيرته المهنية في ثمانينيات القرن الـ20 كمحامي ضرائب لدى شركة "فوكس أند غيبونز" في لندن. وكان معظم عملاء هذه الشركة من الشرق الأوسط، وقد عمل كورتيس حينذاك لصالح عائلات نافذة في دبي. وفي عام 1990، أسس شركته للمحاماة المتخصصة في المعاملات التجارية والعقارية وأطلق عليها اسم "كورتيس أند كو".

كان كورتيس موهوباً وجذاباً واجتماعياً، وكان أيضاً رجلاً كريماً. خرج من مكتبه في أحد الأيام [وحين رأى] متسولاً يمد يده، أعطاه على الفور 50 جنيهاً استرلينياً (60 دولاراً)، إذ لم يحتفظ في سترته إلا بأوراق نقدية كبيرة.

وكان من الطبيعي أن المتسول عاد من جديد فقدم له المحامي 50 جنيهاً استرلينياً أخرى. وبعد ذلك، عمد الشحاذ إلى تحسين مظهره وأصبح بمثابة البواب غير الرسمي للمكتب الذي يطلب سيارات الأجرة للعملاء والموظفين.

تعرف كورتيس إلى عالم الأوليغارشيين المربح من خلال شخص يتمتع بشبكة علاقات جيدة، وهو كريستوفر صمويلسون رئيس مكتب الثروة العائلية العالمية ومجموعة الائتمان فالميت Valmet التي كانت تدير أصول الأثرياء الروس. ويقول صمويلسون، الذي عمل في روسيا منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي وتشارك في مكتب مع كورتيس "كان ستيفن أذكى محام قابلته على الإطلاق".

لقد ائتمن الأوليغارشيون كورتيس على ثرواتهم. وما أثار دهشة زملائه البالغة أنه اشترى عقارات وأعمالاً فنية ومصوغات نيابة عن عملائه من دون أسئلة أو إزعاجات.

كان محامي الشخصيات العليا من المجتمع يكثر من شرب الخمر، كما كان مخلصاً ومسرفاً، وقد انزلق بصورة طبيعية إلى عالمهم. ونقل أموالهم بين سلسلة محيرة من الحسابات المصرفية كما أسس ملكية معقدة لأصولهم في ملاذات ضريبية غامضة.

وعثر على منازل لهم في لندن حين وصلوا إليها، كما قدمهم إلى المصرفيين، ورفه عنهم حتى وقت متأخر من الليل، وقدم لهم المشورة في شأن المدارس الخاصة التي اختاروها لأولادهم، وزودهم بالنصح حتى حول خياطين في شارع "سافيل رو" [المشهور بهؤلاء الحرفيين] لتفصيل بزاتهم.

كان كورتيس وصياً على أسرار الأوليغارشيين. كما أنه كان الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يحدد ملكية أصولهم ويبدد الغموض المقصود حولها بعد أن خبئت في متاهة مالية بينما كانت الحكومة الروسية تحاول يائسة تعقب الأموال.

واعتقد المحامي أن الكرملين سيستولي على أصول موكليه ما لم يجر حمايتها. وقد ثبت لاحقاً أنه كان على حق عندما استحوذت شركة "روسنفت" المملوكة للدولة على ملكية شركة "يوكوس" النفطية التي تبلغ قيمتها 33 مليار دولار من دون دفع أي تعويضات لمساهميها [يوكوس].

ومن خلال العمل من مكتبه المؤلف من أربعة طوابق في شارع 94 بارك لاين، جمع كورتيس ثروة شخصية مكنته من اقتناء مروحية خاصة، وسيارة فيراري 360 مودينا، وسيارة بنتلي، وطائرة غلف ستريم خاصة، وفيلا في إيبيزا (إسبانيا)، وشقة فاخرة في الطابق العلوي (بنتهاوس) في لندن، ومنزل ريفي في هامبشير وقلعة في دورست.

وفي إحدى عطلات عيد الميلاد، دفع 44 ألف دولار مقابل إقامة لمدة 10 أيام في قلعة في جامايكا. واشترى خواتم ألماسية من دبليو روبرتس في هاتون غاردنز لزوجته التي كانت تجهل طبيعة عمل زوجها.

إلا أن العميل الأوليغارشي الأهم لدى كورتيس من ناحية الربحية كان سيثبت أنه الأشد خطورة عليه. كان هذا ميخائيل خودوركوفسكي، مالك شركة النفط العملاقة "يوكوس" التي تبلغ قيمتها 15 مليار دولار، والتي كانت آنذاك ثاني أكبر شركة منتجة للنفط في روسيا. وبعد أن قدمه إليه صمويلسون، كانت مهمة كورتيس هي حماية أصول خودوركوفسكي من التجميد واستيلاء السلطات القضائية الروسية عليها.

أحب خودوركوفسكي طريقة كورتيس في العمل التي تمثلت في الاحتفاظ بالتفاصيل الحساسة في رأسه والتقليل من المستندات الورقية إلى الحد الأدنى. وفي المناسبات النادرة التي لم يتمكن فيها المحامي من تذكر البيانات، كان يتصل بموظفيه في الساعة الثالثة صباحاً للحصول على الإجابات. وقد جرى تهريب مليارات الدولارات من أرباح النفط الروسية من شركة "يوكوس" عبر شركات أوف شور (خارج الحدود) في جبل طارق وفي جزيرة مان.

أما كم حجم هذه الأصول بالضبط فهذا ما لن يعرفه أحد على الإطلاق. كان كورتيس يعمل بسرية بالغة حتى وصل الأمر بأحد محاميه إلى السفر إلى روسيا في منتصف الليل والتوجه إلى مكان بعيد غامض وذلك من أجل تسليم مستند فقط. لقد سار مباشرة عبر قسم الهجرة في مطار تولماتشيفو [مطار مدينة نوفوسيبيرسك]، وثم قاد السيارة إلى غابة في سيبيريا، وأبرز الوثيقة، ثم انتظر التوقيع عليها قبل أن يعود إلى المملكة المتحدة.

غير أن الثروة المفاجئة جلبت معها ضغوطاً شديدة. بقي كورتيس كريماً إلا أنه أصبح سريع الغضب وعصبياً لجوجاً لا يقدر على الصبر. كان يروح عن [ضيوفه] ببذخ في "نادي تشاينا وايت" Chinawhite Club حيث خصصت واحدة من غرف كبار الشخصيات له. وفي إحدى الليالي الملحمية التي قضاها في نادي "سترينغ فيلوز" الليلي Stringfellows مع بعض العملاء الروس، أنفق 20 ألف جنيه استرليني نقداً كثمن لزجاجة شمبانيا معتقة، وعشاء، وأتعاب خدمة راقصات تعر في غرف خاصة، علاوة على الإكراميات. وكانت هذه الضيافة بالنسبة إلى رجال الأعمال الروس، علامة على قبولهم من جانب المملكة المتحدة.

وبحلول عام 2003، كان كورتيس قد ضرب جذوره بعمق في مصالح خودوركوفسكي التجارية المحفوفة بالأخطار الذي ارتكب بعد ذلك الخطأ الفادح بتحدي بوتين علناً في شأن الفساد الحكومي وتمويل الأحزاب السياسية المعارضة. لقد جعل الأوليغارشي من نفسه هدفاً [لبوتين] وكان محاميه في لندن في خط النار.

شبكة متداخلة

وأصبحت مليارات "يوكوس"، التي أخفيت بعناية شديدة في الخارج، معرضة للخطر. وفي الـ21 من أكتوبر (تشرين الأول) 2003، تلقى صمويلسون، وهو أحد كبار مستشاري خودوركوفسكي، مكالمة هاتفية من أحد كبار مساعدي إيغور سيتشين المقرب من بوتين والذي كان نائباً لرئيس الوزراء آنذاك. وقال المتصل "أريدك أن تنقل رسالة إلى خودوركوفسكي"، مضيفاً "إذا لم يغادر روسيا، فسيجري القبض عليه". لقد كان ذلك بمثابة تحذير واضح، إذ أراد بوتين من الأوليغارشي أن يغادر البلاد حتى لا يحتاج إلى اعتقاله.

وفي اليوم التالي، سافر صمويلسون إلى لندن لإبلاغ التحذير إلى كورتيس وفلاديمير مويسييف، الذي أشرف على "مجموعة ميناتب" Menatep، التي تمتلك شركة "يوكوس أويل". وقال صمويلسون "عليكما أن تخبرا خودوركوفسكي بأنه في حاجة إلى المغادرة الآن"، ثم سأل مويسييف عن أموال يوكوس التي أودعت في حسابات مصرفية سويسرية. وكان المبلغ الأكبر ويفوق ما عداه بكثير هو 4 مليارات دولار المودع في بنك "يو بي أس" UBS في زيورخ. وأوضح صمويلسون "عليك نقل هذه الأموال بسرعة لأنه بمجرد إلقاء القبض على خودوركوفسكي، ستجمد الأموال في سويسرا.

وتابع صمويلسون "البنوك غير مجبرة على دفع فوائد على الحسابات المجمدة. من ثم سيكسب ’يو بي أس‘ مزيداً من الأموال من الحسابات المجمدة، ولذا فمن مصلحتهم الامتثال لطلب تجميد الحسابات". وزاد "أقترح عليك نقل الأموال من سويسرا إلى لندن وتوزيعها بين حسابات عدة".

ووصل بعد ظهر ذلك اليوم فيكتور بروكوفييف، وهو محامي "مجموعة ميناتب"، من موسكو. لقد كانت رحلة محفوفة بالأخطار ومدمرة للأعصاب. فلقد سافر بالقطار لأكثر من ثلاثة أيام لأن حقيبته الجلدية كانت مليئة بالوثائق الحساسة ولا يمكن المجازفة بتفتيشها حال السفر بالطائرة.

وكان كورتيس منغمساً بشكل كلي في وضعية أزمة كاملة ودعا صمويلسون وعملاءه الروس إلى تناول العشاء في "هاريز بار" Harry’s Bar، الكائن في جنوب شارع أودلي. واستأجر غرفة طعام خاصة. وكإجراء احترازي إضافي، أحضر راديو ترانزستور ورفع صوت الموسيقى بهدف ردع جهاز الأمن الفيدرالي الروسي "أف أس بي" (FSB) عن التنصت. وكان الأمن أولوية. وناقش كورتيس وصمويلسون ومويسييف وبروكوفييف الأزمة على مائدة العشاء.

وقال صمويلسون لضيوفه "اسمعوا، الأمر بسيط للغاية". وأضاف "سيكون ميخائيل [خودوركوفسكي] في أحد السجون الروسية قريباً. عليكم أن تحركوا الأموال قبل أن تتعرض للتجميد".

وعادت المجموعة إلى مكتب كورتيس في شارع بارك لاين حيث جرى الاتفاق على الخطة، وفي الساعة 11 مساءً، اتصل كورتيس بالرئيس التنفيذي لبنك "يو بي أس" في لندن الذي كان قد خلد للنوم.

وقال المحامي "أنا آسف لإيقاظك، إلا أن هناك حالة طارئة". وفي غضون دقائق وصل المصرفي إلى مكتب كورتيس حيث منح تصريحاً بنقل مبلغ المليارات الأربعة من الدولارات من سويسرا. عمل موظفوه طوال الليل لكي تكون المستندات الخاصة بالحسابات الجديدة في لندن جاهزة لتلقي الأموال من زيورخ.

وفي الساعة الثامنة صباحاً، وصلت الوثائق المصرفية إلى مكتب كورتيس. لكنهم طلبوا توقيعاً من أحد المسؤولين التنفيذيين في "ميناتب". وتوجه صمويلسون برفقة محام على متن طائرة هليكوبتر إلى بيجين هيل، في منطقة كينت، حيث استقلوا طائرة خاصة إلى قبرص من أجل لقاء مسؤول تنفيذي في "ميناتب" يتمتع بصلاحيات التوقيع على حساب "يو بي أس" زيورخ في غرفة فندق.

وكان توقيعه مطلوباً بغية تحويل الأموال وإنشاء حسابات مصرفية جديدة في لندن. وقد اختيرت قبرص لأن المدير التنفيذي الروسي لم يكن في حاجة إلى تأشيرة للسفر إلى هناك. وبمجرد التوقيع على الوثائق، اتصل صمويلسون بكورتيس الذي أبلغ بنك "يو بي أس" وجرى تحويل مبلغ المليارات الأربعة من زيورخ إلى لندن.

وعاد صمويلسون بعد ذلك إلى المملكة المتحدة التي وصل إليها في الساعة الثالثة صباحاً، وهو حامل وثائق "يو بي أس" الموقعة. وفي اليوم التالي، وصلت 4 مليارات دولار إلى حسابات بنك "يو بي أس" في لندن، وأصبحت بعيدة من براثن الكرملين.

وبعد ثلاثة أيام، أي في الـ25 من أكتوبر 2003، ألقت عناصر أمنية مسلحة القبض على خودوركوفسكي في مطار نوفوسيبيرسك، في سيبيريا، بتهمة التهرب الضريبي والاحتيال. وما إن مر شهر، طلب الكرملين من الحكومة السويسرية تجميد حسابات "ميناتب" المصرفية كافة. كان الوقت قد فات. ووجهت التهم إلى خودوركوفسكي، غير أن أموال "يوكوس" كانت آمنة.

رجل في ورطة

كان اعتقال خودوركوفسكي لحظة محورية بالنسبة إلى كورتيس. قال "بدأنا نواجه كثيراً من المتاعب المفاجئة". وأردف "لا أستطيع العودة لروسيا الآن. سيقبض عليَّ على الفور". لقد ولى زمن المزاح الودي. وأصبحت النقاشات كلها تدور الآن حول الأعمال. وأصبح المحامي غير صبور ومتطلباً.

وتزايدت الضغوط بعد شهر عندما أصبح كورتيس مديراً إدارياً لمجموعة "ميناتب" ومالكاً لشركة "يوكوس أويل"، براتب قدره 15 مليون دولار سنوياً. كانت وظيفته حماية خودوركوفسكي وأصول "يوكوس" وأسرارهم. وتفاقمت الأمور عندما اتهم الكرملين كورتيس في وثائق المحكمة بأنه "العقل المدبر للشركات" الذي يقوم بتنظيم "عدد لا يحصى من هياكل أوف شور غير قانونية" نيابة عن "مجموعة ميناتب" و"يوكوس أويل". أجاب كورتيس أنه [الهيكل] ربما كان معقداً للغاية وصعباً وسرياً، ولكنه قانوني 100 في المئة.

وفجأة، لم يعد كورتيس محامي الشركات والشخصيات الراقية. لقد أصبح الآن رجل أعمال ثرياً عالقاً في قلب صراع على السلطة، ينطوي على مجازفات كبيرة، بين بوتين أقوى رجل في روسيا، وأغنى رجل أعمال فيها خودوركوفسكي.

وفي ديسمبر (كانون الأول) 2003، وجد كورتيس يعيش حياة جديدة كشخص منفي ضريبياً في جبل طارق حيث جرى تسجيل "مجموعة ميناتب". واستقر في الجناح الفاخر العلوي في فندق إليوت بكلفة 5 آلاف جنيه استرليني (نحو 6 آلاف دولار) شهرياً ومنع من قضاء أكثر من ثلاثة أشهر في المملكة المتحدة لأسباب ضريبية.

كان كورتيس أمياً في مجال الكمبيوتر، وأنجز كل أعماله عبر الهاتف. وكانت فواتير "فودافون" الخاصة به تراوح ما بين 15 و30 ألف جنيه استرليني شهرياً. كانت المكالمات مع روسيا تستمر لساعات أو كان يملي رسائل على سكرتيرته في لندن. لقد كان المحامي الذي نشأ في سندرلاند يدير إمبراطورية خودوركوفسكي التجارية العالمية وشركته النفطية التي تبلغ قيمتها 33 مليار دولار وكل ذلك من جناحه الفندقي.

وفجأة أشارت وسائل الإعلام الرسمية الروسية إلى كورتيس على أنه "الرجل الغامض" في جبل طارق الذي كان يسيطر على نفط شركة "يوكوس" الروسية. وكانت مليارات الجنيهات على المحك. كما أن نجاة بوتين سياسياً باتت على المحك، إذ كان من الممكن أن تمول ثروة خودوركوفسكي حزباً معارضاً فعالاً [لبوتين]. ولم يعد محامي النخبوي في الظل، فلقد كان شاهداً رئيساً في القضية المرتقبة ضد الأوليغارشية في موسكو.

شعر كورتيس بصورة متزايدة بأنه مكشوف. وكان يخشى أن تطرق السلطات الروسية بابه بغية طرح أسئلة عليه. وكان يعلم أن مسؤولي الاستخبارات الحكومية الروسية متواطئون في عمليات القتل المأجورة. وقال لأحد زملائه "لقد حفرت لنفسي حفرة وأنا غارق فيها أكثر من اللازم". وأضاف "لست متأكداً من استطاعتي إخراج نفسي منها".

وعزز كورتيس حمايته الشخصية. ولم يكن باستطاعته الاستقالة من "مجموعة ميناتب" لأنه كان أحد المساهمين وأميناً على الأسهم، لكن بإمكانه حماية نفسه وعائلته. كثيراً ما كانت الإجراءات الأمنية مشددة. لكنها الآن أصبحت على أشدها.

واعتقد المحامي النخبوي أنه كان هدفاً للاغتيال. خلال إحدى زياراته إلى لندن، نقل مكتبه بعيداً من النافذة في الطابق الأول المطل على شارع بارك لاين لأنه كان يظن أن شخصاً ما سيطلق النار عليه في مؤخرة رأسه. لقد أنفق 40 ألف جنيه استرليني (50 ألف دولار) على المعدات المضادة للمراقبة ووضعت أجهزة تجسس خاصة في السيارات.

واستخدم كورتيس الهواتف المحمولة لتسجيل الاجتماعات لأن الهواتف المحمولة لها ذاكرة طويلة ويمكن تركها مفتوحة على الطاولة. ولكن على رغم الإجراءات الأمنية المشددة، لجأ محامي الأوليغارشيين في بعض الأحيان إلى أساليب أكثر بدائية لتجنب التنصت، إذ كان يشتري هواتف خلوية عادية burner phones [هاتف محمول غير مكلف مصمم للاستخدام الموقت، لا يحتاج إلى تسجيل اسم المشتري ويمكن التخلص منه بعد الاستخدام]، ويستخدمها لإجراء المحادثات ثم يلقيها في نهر التيمز.

وفي الأسابيع القليلة الأخيرة من حياته، كان كورتيس باستمرار تحت المراقبة، وفقاً لحراسه الشخصيين. وجرى التنصت على هواتفه كما اكتشف مستشاروه الأمنيون أيضاً مغناطيساً صغيراً يستخدم لتأمين جهاز تنصت في قلعته في دورست. وطبقاً لعمه إريك جنكينز، فقد تلقى عديداً من التهديدات المجهولة والمكالمات الهاتفية التي أجريت بغية ترهيبه. ولقد أخذ كل هذه التهديدات على محمل الجد بصورة كافية حملته على توظيف فريق من الحراس الشخصيين وتركيب زر الإنذار Panic button داخل قلعته. وأكد نايجل براون، وهو المسؤول عن الأمن لديه، أنه "بالتأكيد كانت هناك تهديدات بالقتل ضد ستيفن".

ورفض كورتيس بادئ الأمر التهديدات. ولكن عندما أوردت إحدى المكالمات الهاتفية زوجته وابنته، قرر التصرف. ومن قبيل الصدفة، كان جهاز الاستخبارات الخارجية البريطانية "أم آي 6" قد أنشأ أخيراً وحدة الاستخبارات المالية للجرائم الخطرة (تعرف اختصاراً "فيسك") Financial Intelligence Serious Crime Unit التي كان هدفها الأساس هو تعطيل الجريمة المنظمة الدولية وتهريب المخدرات وغسل الأموال التي أثرت في المملكة المتحدة. وكان التركيز على الأقاليم التابعة للتاج ما وراء البحار، وكان أحد الأهداف هو جبل طارق، وهي المنطقة المفضلة لدى الأوليغارشيين بسبب وضعها الضريبي المناسب وانعدام ضريبة القيمة المضافة فيها.

وما إن جاء وقت انتقل فيه كورتيس إلى جبل طارق، حتى كان لدى جهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني ضباط في المكان. وكان أحدهم واسمه ماثيو بورتر، وهو مسؤول في وزارة المالية انتدب إلى "أم آي 6" بسبب خبرته ومعرفته بالمناطق التي توفر حسابات أوف شور. وإذ اتخذ من "أم آي٦" مقراً له، فإن بورتر نسق مع قسم الاستخبارات الجنائية في جبل طارق والتقى كورتيس. وكانت نقطة اتصاله به هي أليكس تشارلز، وهو ضابط استخبارات جمركية ذو خبرة ومتخصص في التحقيق في تهريب المخدرات والاحتيال. في الواقع، كان تشارلز عميلاً لجهاز "أم آي 6" في جبل طارق.

حياة مزدوجة

وقد التقى ضابط الاستخبارات الجمركية كورتيس فيما كانا يلعبان الغولف في نادي سان روكي للغولف. كان تشارلز إيرلندياً ذكياً ولطيفاً، ونشأ رابط بينه وبين كورتيس وأصبحا صديقين. وفي إحدى الأمسيات، أسر كورتيس لصديقه بأنه كان يحاول شراء بنك خاص يدعى "رافائيل أند سونز" في باكنغهامشير حتى يتمكن من تجنب عملية "العناية الواجبة" [هي عملية تقوم بها الشركات، ولا سيما المؤسسات المالية للتحقق من هوية العملاء وتقييم الأخطار قبل إقامة علاقة عمل] من البنوك إذا رفضوا أخذ أموال عملائه.

في ذلك الوقت، كان كورتيس متورطاً في خلاف مع بنك "كليديسدال" Clydesdale الذي أغلق حسابات بيريزوفسكي بسبب مخاوف حول مصدر ثروته. كان كورتيس لا يزال عرضة للملاحقة والاضطهاد من قبل الكرملين، وكان في حاجة إلى حماية حكومة صاحبة الجلالة. ولذلك عندما سأله تشارلز "هل ترغب في التحدث إلى وزارة الخارجية؟"، وافق المحامي بسهولة.

كانت "وزارة الخارجية" بالطبع رمزاً لوحدة "فيسك" التابعة لجهاز الاستخبارات الخارجية "إم آي 6" التي كان المسؤول الرئيس عنها هو ماثيو بورتر نفسه. وبعد شهر، أي في ديسمبر 2003، التقى بورتر كورتيس وليونيد نيفزلين، وهو شريك خودوركوفسكي التجاري، في مكتب المحامي في شارع بارك لاين. كان نيفزلين يتمتع بشخصية كاريزمية، يتحدث بهدوء، لكن ذلك كان يخفي قسوة فولاذية. وكان خودوركوفسكي في السجن في ذلك الوقت في انتظار محاكمته وهو في حاجة إلى مساعدة من الأصدقاء الذين يشغلون مناصب رفيعة. علم نيفزلين ومحاميه أن بورتر يعمل في "وزارة الخارجية" وأدركا ما يعنيه ذلك في الواقع.

وكان كورتيس متوتراً. وفي اللحظة الأخيرة، نقل مكان الاجتماع من قاعة مجلس الإدارة. وقال "علينا أن نتحرك لأنه قد يكون هناك مصورون في الحديقة". لقد كان ودوداً ولطيفاً، ولكنه كان قلقاً.

أما نيفزلين فكان مطمئناً وواثقاً من نفسه. لقد أراد علاقة أكثر شفافية مع المنظمين الماليين. لقد أراد لشركة "يوكوس" أن تكون مثل شركات النفط الأميركية الكبرى المتعددة الجنسيات. وكانت إحدى الطرق هي الاندماج مع المؤسسات البريطانية. ولذلك اقترح نيفزلين وضع أسس [مشتركة] بين الجامعات الروسية والجامعات البريطانية لتشجيع إقامة روابط أقوى بين موسكو ولندن.

وكان الغاية من الاجتماع بالنسبة إلى بورتر، هي تقييم تدفق الأموال الروسية إلى لندن. ورأى ضابط "أم آي 6" أن وظيفته هي فهم استخدام المملكة المتحدة كملاذ للأموال الروسية القذرة وغسل الأموال، ووقف ذلك. ولكن بعد فترة وجيزة من تقديمه تقريراً عن الجريمة المنظمة، تلقى مكالمة هاتفية من رئيس مكتب روسيا في "أم آي 6" آنذاك، الذي أخبره أن "هذا غير مفيد. أنت لا تفهم. نحن نحاول أن نكون أصدقاء مع بوتين".

وعلى رغم لا مبالاة الـ"أم آي 6"، آمن بورتر أن أموال الأوليغارشيين الروس الآتية إلى لندن تمثل مشكلة خطرة. غير أن الحكومة كانت أقل قلقاً منه. وقال مسؤول من لجنة الاستخبارات المشتركة في وزارة مجلس الوزراء لبورتر إن "هذه ليست مشكلة. نحن في حاجة إلى إبقاء الحي المالي لمدينة لندن سعيداً".

بحلول أواخر يناير (كانون الثاني) 2004 بقي كورتيس قلقاً بصورة كبيرة في شأن أمنه. لذلك قام بترتيب لقاء مع بورتر مرة أخرى. وقاد المحامي ضابط "أم آي 6" عبر ممرات عدة حتى انتهى بهما الأمر في مكتب منعزل شعر أنه ليس به أجهزة تنصت.

وكرر كورتيس في ذلك الاجتماع التعبير عن اهتمامه بشراء بنك "رافائيل أند سونز" الخاص، وأعرب عن شعوره بالإحباط في شأن سؤاله عن مصدر ثروة عملائه الأوليغارشيين الروس.

وقال "أريد أن أؤدي قسطي أنا من عملية ’العناية الواجبة‘ وألا أضطر إلى التعامل مع هذه الأسئلة المزعجة". أراد أن يعرف ما إذا كان المنظمون الماليون سيعترضون. لم يرد بورتر سلباً أو إيجاباً، ولكنه قدم توصية سرية لهيئة الخدمات المالية في المملكة المتحدة بعدم السماح لكورتيس بأي حال من الأحوال بشراء البنك.

خلال الشهر التالي، أبلغ كورتيس سراً الـ"أم آي 6" وجهاز الاستخبارات الجنائية الوطنية في اسكوتلاند يارد بجميع الصفقات الكبرى التي عقدتها "مجموعة ميناتب" وعملائه، بما في ذلك تقارير التحويلات المالية المشبوهة. ووفر له ذلك، كمحام، صورة من صور الحماية.

وفي الـ23 من فبراير (شباط) 2004، التقى كورتيس أليكس تشارلز، ضابط الجمارك الذي يعمل في وحدة الاستخبارات المالية التابعة لجهاز "أم آي 6" وسلمه رسالة من صفحتين تتضمن تفاصيل الأموال التي تستخدمها "مجموعة ميناتب" وشركة "يوكوس" النفطية التابعة لها. وأرسلت هذه المستندات أيضاً إلى بورتر في "أم آي 6" وكذلك إلى فرقة مكافحة الاحتيال في الحي المالي للعاصمة لندن. وأضاف كورتيس أنه يريد مناقشة محتوياتها. لكن هذا الاجتماع لم يكتب له الحصول أبداً لأن المحامي لقي مصرعه بعد 10 أيام.

أصيب الجواسيس في "أم آي 6" بالصدمة وفتحوا على الفور تحقيقاً في الأمر. واللافت "مكتب الاتصالات الحكومية البريطانية"، وهو مركز التنصت الحكومي السري للغاية في شلتنهام، كان لديه ثمانية أجهزة تنصت منفصلة على هواتف المحامي المحمولة المتعددة. وعلى رغم أنه كان يتخلص من هواتفه بمعدل هائل، فقد ورثت المكاتب كمية هائلة من "المواد"، أي نصوص محادثات كورتيس، بحسب ما أفاد مصدر أمني الصحافي الاستقصائي أدريان غاتون بعد وقت قصير من وفاة المحامي.

ومن المفهوم أن هذه المواد قد شوركت مع السلطات الروسية لمساعدتها في تحقيقاتها الخاصة في الوفاة. ففي ذلك الوقت، أي 2004، كانت الحكومة البريطانية على علاقة دبلوماسية ودية مع نظام بوتين.

وفي حين لم تحصل أي وكالة أو فرد على دليل يؤكد أن وفاة كورتيس كانت نتيجة عملية قتل مدبرة، فإن جهاز "أم آي 6" "جمع معلومات استخباراتية" تشير إلى احتمال اغتياله، وذلك بحسب ما ذكرت هايدي بليك في كتابها "من روسيا بالدم" From Russia with Blood "لقد طلبوا [أم آي 6] المساعدة من شركائهم في الولايات المتحدة (...) أكدت وكالات التجسس الأميركية أن لديها معلومات مخزنة في قواعد بياناتها السرية تربط بين وفاته وروسيا. وأن المعلومات الاستخباراتية التي تشير إلى تورط روسيا في مقتل كورتيس اعتبرت ’قوية‘ كما قال الجواسيس الأميركيون".

وتابعت بليك "كانت المشكلة هي أن المعلومات جاءت من شبكة المصادر ومراكز التنصت نفسها التي كانت توفر استطلاعاً مهماً لتطوير سم كيماوي وبيولوجي في المختبر خارج موسكو، وكان من المستحيل استخدامها من دون المجازفة بفضح الشبكة بأكملها. وهذا من شأنه أن يلغي أي فرصة متاحة للجواسيس للبقاء على اطلاع على استراتيجية بوتين طويلة المدى، من ثم بقيت المعلومات طي الكتمان".

نهاية اللعبة

اليوم، وبعد مرور 20 عاماً بالضبط على حادثة تحطم المروحية المشؤومة، لا تزال وفاة ستيفن كورتيس لغزاً. وفي حين لم يكشف عن أي دليل موثوق على حصول عمل تخريبي أو قتل، لا يزال بعض العملاء يعتقدون أن الحادثة [ليس عفوية] بل تم التخطيط لها مسبقاً. وقال الأوليغارشي الروسي بوريس بيريزوفسكي الذي حضر جنازته "لقد قتل"، مضيفاً "لقد كانت عملية اغتيال".

واعتبر أحد الموظفين السابقين في مكتب المحاماة الخاص به [أنه اغتيل] "بالتأكيد". وأردف "لقد تم ذلك من طريق جهاز التحكم عن بعد. لقد علموا بخطط رحلته مسبقاً لأنهم كانوا يراقبون هواتفه".

بيد أن صمويلسون لا يشك في أنه كان مجرد حادثة. وقال لي "لم يكن الطيار على خبرة بمروحية ستيفن الجديدة ذات المحركين وكان يعاني مشكلة في [قراءة] بيانات الأجهزة".

إلا أن، دينيس رادفورد، والد الطيار، رأى أن "فرع التحقيق في الحوادث الجوية" لم يحقق بشكل صحيح في احتمال وجود جريمة. وأضاف "إن الافتقار إلى الأمن في مطار بورنماوث بلغ حداً صار معه بإمكان أي شخص يرغب في ارتكاب عمل تخريبي ضد طائرة ما أن يصل إلى هدفه من دون أي اعتراض أو قيود".

وخلال التحقيق، أوضح كبير محققي حوادث الطيران، بول هانانت، أنه "إذا كنت ستسقط طائرة كهذه، فعليك إما أن تدمر نظام الدوار الرئيس أو تعبث بعلبة السرعة الرئيسة"، لافتاً "إن الطريقة الحقيقية الوحيدة الأخرى هي العبث بأجهزة الضبط. إذا فصلت أدوات التحكم، فسيكون ذلك واضحاً على الفور للطيار (...) وإن أية محاولة لاستخدام جهاز تخريبي أو جهاز تحكم من بعد ستكون سهلة للكشف من قبل الكابتن رادفورد".

في نهاية المطاف، ألقي اللوم على الظروف الجوية المتدهورة وقلة خبرة الطيار في الحادثة. وخلص تقرير الحادثة الجوية إلى أن "السبب الأرجح للحادثة هو أن الكابتن رادفورد صار مشوشاً خلال المراحل الأخيرة من الاقتراب من مطار بورنماوث". وتوصل التحقيق إلى حكم بالوفاة العرضية.

ومع ذلك، فقد ادعى والده دينيس لاحقاً أن "ماكس قد طار مرات عديدة في ظروف أسوأ بكثير من ذلك. وإذا أصبح مشوشاً، فلماذا كان يتحدث عبر الراديو إلى برج المراقبة قبل 29 ثانية من وقوع الحادثة؟".

إن مما لا خلاف عليه هو أن الكرملين كان لديه دافع لكي يعطي الإذن للقيام بعملية اغتيال برعاية الدولة كما فعل مع ألكسندر ليتفينينكو وألكسي نافالني. لم يكن كورتيس يعمل فقط لصالح خودوركوفسكي، أقوى أعداء بوتين وأغناهم، بل كان يترأس أهم شركاته. وأزالت وفاته مسؤولاً تنفيذياً كان في الواقع يدير إمبراطورية خودوركوفسكي التجارية بينما كان هذا الأوليغارشي يقبع في سجن بسيبيريا لمدة 10 سنوات. وقد غادر روسيا في أواخر عام 2013 وهو يعيش حالياً في لندن.

ولا شك أن المحامي قد تلقى تهديدات بالقتل وكانت هناك ظروف مشبوهة [تحيط بالحادثة]. وقد أخبر كورتيس صديقاً مقرباً [زاره] في شقته في ووترسايد بوينت قبل أسبوع من الحادثة المميتة بأنه "إذا حصل لي أي شيء في الأسابيع القليلة المقبلة، فلن يكون ذلك حادثة [عرضية]". وضحك، لكنه لم يكن يمزح، ثم استمع إلى الرسائل التي سجلت على هاتفه المحمول [وفي إحداها] سأل صوت بلكنة روسية ثقيلة "كورتيس، أين أنت؟". أضاف "نحن هنا. نحن خلفك. نحن نتبعك."

إذا كانت وفاة كورتيس جريمة قتل، فمن المستبعد أن يظهر دليل قاطع على الإطلاق. لم تصدق زوجته سارة قط أن زوجها قد اغتيل، على رغم أنها تساءلت لماذا كان أول من أبلغها بوفاته هو رجل أعمال روسياً وليس ضابط شرطة.

وخلال الجنازة شعرت بصدمة، بسبب وجود أشخاص روس بدوا وكأنهم ممثلون من فيلم "العراب". وتساءلت في حيرة "من هؤلاء الناس؟". إن زوجها لم يخبرها بشيء عن حياته السرية في لندن وجبل طارق وموسكو. كان ذلك متعمداً. فهو كان، بعد كل شيء، المحامي الذي يعرف الكثير.

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات