Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الأوليغارشية" الروسية ماكينة ثروات تفرم العقوبات

وصلت الفجوة بين الفقراء والأغنياء في بلاد القيصر إلى أبعاد هائلة لكن معظم الناس العاديين يعتبرونها هيكلا طبيعيا لحياة الدولة

الرابح الأكبر في قائمة أغنى أغنياء روسيا هو أندريه ميلنيشينكو (أرشيفية - أ ب)

ملخص

رجال الأوليغارشية في السياق الروسي هم نخبة رجال أعمال فاحشي الثراء اغتنوا من عمليات الخصخصة غير الشرعية في البلاد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991.

تستهدف العقوبات الأميركية والأوروبية واليابانية والأسترالية رجال النخبة المالية الروسية (أوليغارشية) في محاولة لإيجاد سبل جديدة لمعاقبة الرئيس فلاديمير بوتين، وأولئك الذين مكنوه واستفادوا من حكمه لشن الحرب في أوكرانيا، لكن هذه الـ "أوليغارشية" تزداد ثراء وغنى وتُراكم وتكدس الأموال يوماً بعد يوم في روسيا التي يعيش فيها نحو 19 مليون شخص تحت خط الفقر.

وخص الرئيس الأميركي جو بايدن بالذكر قلة من الأثرياء الروس في خطاباته مرات عدة، وتعهد بالاستيلاء على يخوتهم وشققهم الفاخرة وطائراتهم الخاصة قائلاً "دعونا نلاحق مكاسبهم غير الشريفة".

وفي المملكة المتحدة انضم اثنان من الأثرياء الروس الآخرين إلى الـ "أوليغارشيين" التسعة الآخرين الذين فرضت عليهم عقوبات شخصية بسبب الحرب الأوكرانية، وعلى رغم كل العقوبات الغربية والأميركية ومصادرة اليخوت والشقق والمنازل الفاخرة والطائرات العملاقة، ارتفع إجمال ثروة أغنى رجال الأعمال من روسيا بمقدار 11.084 مليار دولار خلال الشهرين الأولين من عام 2024، على رغم الحرب الدائرة بين بلادهم وأوكرانيا.

أكثر الرابحين

وكان الرابح الأكبر في القائمة هو أندريه ميلنيشينكو الذي انسحب من مجموعة من الشركات بعد خضوعه لعقوبات الاتحاد الأوروبي في التاسع من مارس (آذار) 2022، إذ صعد إلى المركز السادس في تصنيف أغنى أغنياء روسيا وزادت ثروته بمقدار 3.86 مليار دولار لتصل إلى 22.7 مليار، بحسب مؤشر "بلومبيرغ" للمليارديرات.

ويحسب المؤشر على أساس سعر أسهم الشركات التي يمتلك فيها المليارديرات أسهماً، أما بالنسبة لبعض الشركات فيعتمد الحساب على نسبة رسملتها إلى الأرباح قبل الفوائد والضرائب والإهلاك والاستهلاك، أو سعر السهم إلى ربحية السهم.

وفي المجمل يشمل تصنيف "بلومبيرغ" أغنى 500 شخص في العالم، ويضم حالياً 26 مواطناً روسياً يبلغ إجمال ثروتهم حتى الأول من مارس الجاري 345.11 مليار دولار.

ويظل أغنى هؤلاء الأثرياء أحد المالكين الرئيسين لشركة "نوريلسك نيكل" فلاديمير بوتانين، المقرب من الكرملين، على رغم انخفاض ثروته 37.1 مليون دولار منذ بداية العام إلى 31 مليار دولار.

ويحتل المركز الثاني المالك المشارك لشركة "نوفاتيك" ليونيد ميخيلسون الذي انخفض رأسماله أيضاً بمقدار 710 ملايين دولار إلى 26.8 مليار دولار، فيما احتفظ بالمركز الثالث المالك المشارك لشركة "لوك أويل" النفطية وحيد ألكبيروف الذي زادت ثروته 1.51 مليار دولار لتصل إلى 26.2 مليار دولار.

وفي المركز الرابع يبقى رجل الأعمال المقرب من بوتين، فلاديمير ليسين، الذي زادت ثروته 1.49 مليار دولار لتصل إلى 25.4 مليار، بينما يحتل المركز الخامس المستفيد الرئيس من شركة "سيفيرستال" أليكسي مورداشوف الذي زادت ثروته 2.08 مليار دولار لتصبح 23 مليار دولار.

وانتقل ميلنيتشينكو إلى المركز السادس  من السابع قبل شهر، بفضل الزيادة القوية في ثروته وتراجع مالك شركة "ميغافون" للاتصالات الخلوية أليشر عثمانوف إلى المركز السابع هذا الشهر، إذ انخفض رأسماله منذ بداية العام 875 مليون دولار إلى 20.2 مليار دولار.

ولا يزال مالك مجموعة "أونيكسيم" ميخائيل بروخوروف يحتل المركز الثامن في القائمة، إذ زادت ثروته 692 مليون دولار لتصل إلى 16.4 مليار دولار.

ويحتل المركز التاسع الشريك في ملكية شركة "نوفاتيك" للغاز غينادي تيمشينكو الذي انخفضت ثروته مرة أخرى أكثر من أي شخص آخر في القائمة بمليار دولار وأصبحت 13.2 مليار دولار فقط، وأغلقت المراكز العشرة الأولى مرة أخرى من قبل مؤسس مجموعة "ألفا" المصرفية ميخائيل فريدمان الذي زادت ثروته 844 مليون دولار لتصل إلى 13.2 مليار دولار.

رجال الـ "أوليغارشية" الروس

ولكن من هم هؤلاء القلة؟ وما هي علاقتهم ببوتين؟ والأهم من ذلك، من أي رحم ولدوا؟

رجال الـ "أوليغارشية" في السياق الروسي هم نخبة رجال أعمال فاحشي الثراء اغتنوا من عمليات الخصخصة غير الشرعية في البلاد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، واستولوا بطرق غير قانونية والتفافية على الأموال العامة والمصانع والمناجم والثروات الحكومية من نفط وغاز وذهب وألماس ونيكل وغير ذلك، وبفضل هذه الملكيات التي هبطت عليهم بين ليلة وضحاها أصبحوا يتمتعون بسلطة سياسية غير متناسبة مع وعيهم السياسي وقدراتهم العلمية وكفاءاتهم الشخصية، وهم ولدوا في مخاضين مختلفتين لكنهم رضعوا من ثدي الأملاك العامة للوطن والأم روسيا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وظهرت المجموعة الأولى من عمليات الخصخصة خلال التسعينيات، ولا سيما المبيعات النقدية لأكبر الشركات المملوكة للدولة بعد عام 1995، وشاب هذه العملية فساد كبير بلغ ذروته في المخطط الاحتيالي المعروف باسم "إقراض الأسهم" سيئ السمعة، إذ نقلت أسهم 12 شركة تعدين كبرى من الحكومة إلى كبار رجال الأعمال الأفراد في مقابل قروض تهدف إلى تمويل الموازنة الفيدرالية، وتعمدت الحكومة الروسية في عهد الرئيس الأسبق بوريس يلتسين التخلف عن سداد القروض مما سمح لدائنيها، أنصار حكم القلة في المستقبل، ببيع أسهم شركات عملاقة مثل" يوكوس" و"لوك أويل" و"نوريلسك نيكل" في المزاد العلني لمصلحة أنفسهم في الواقع، وبدت إدارة يلتسين آنذاك كما لو أنها تثري مجموعة صغيرة من كبار رجال الأعمال من خلال بيع الأجزاء الأكثر قيمة من الاقتصاد السوفياتي بسعر بخس للغاية، لا يتناسب أبداً مع السعر الحقيقي لهذه الشركات والمؤسسات الحكومية.

وبعد وصول بوتين إلى السلطة عام 2000 طارد جزءاً منهم مثل بوريس بيريزوفسكي الذي انتحر في لندن بعد ذلك، وفلاديمير غوسينسكي مالك قناة "أن تي في" التلفزيونية الذي هاجر إلى إسرائيل واستقر فيها، لكن الرئيس الروسي الآتي من عالم الاستخبارات عمل على تسهيل ظهور موجة ثانية من رجال الـ "أوليغارشية" عبر العقود الحكومية، فعلاوة على عفوه عن الذين استولوا على المال العام في عهد ولي نعمته يلتسين، سمح لموردي القطاع الخاص في كثير من القطاعات، مثل البنية التحتية والدفاع والرعاية الصحية، بفرض أسعار أعلى بكثير من أسعار السوق على الحكومة عبر تقديم رشى للمسؤولين الحكوميين المعنيين، وبهذه الطريقة نجح بوتين في إثراء حشد جديد من أنصاره الـ "أوليغارشيين" الذين يدينون له بثروات هائلة.

وخلال التسعينيات اكتسبت رجال الـ "أوليغارشية" اليد العليا في الكرملين، وكانوا في بعض الأحيان قادرين على إملاء سياسة وتوجهات دولة نووية مثل روسيا، ومع يلتسين تولى كثير من أفراد رجال الـ "أوليغارشية" مناصب رسمية في الحكومة، وكانت هناك كثير من الحكايات التي تصف جبالاً من الأموال تتدفق إلى الكرملين في مقابل خدمات سياسية.

ولكن منذ العقد الأول من القرن الـ21 أصبح بوتين في المقدمة والقائد الذي يدير الدفة في الحقيقة، واقترح ضابط الاستخبارات السابق صفقة تقضي ببقاء حكومة رجال الـ "أوليغارشية" خارج السياسة في مقابل أن يمنحها الكرملين الحرية الكاملة في أسواق البلاد وثرواتها ويترك لرجالها أرباحهم غير المشروعة وشأنها.

 

 

وإضافة إلى ذلك أسهمت خيبة الأمل والنقمة العامة من الخصخصة خلال التسعينيات في تراجعها الجزئي خلال العقد الأول من القرن الـ21، فاضطر الكرملين في عهد بوتين إلى أن يمارس ضغوطاً سياسية على حكومة "الظل" المشكّلة من رجال الـ "أوليغارشية" لاستعادة ولو النزر اليسير من القطاعات الإستراتيجية المهمة، مثل الإعلام والموارد الطبيعية، وأجبر هذه الحكومة غير المرئية للمواطن العادي على إعادة بيع الأسهم المسيطرة للدولة.

وفي ما بعد أصدر بوتين قوانين تمنح معاملة تفضيلية لما يسمى بالشركات الحكومية، وضمنت هذه الإجراءات سيطرة الكرملين على الاقتصاد وعلى "حكومة الظل" الـ "أوليغارشية" إلى حد ما.

3 أنواع من الـ "أوليغارشية" المقربة من السلطة

بداية فهؤلاء هم أصدقاء بوتين الذين يرتبطون شخصياً بالرئيس، وشهد كثير من أصدقاء بوتين المقربين، وبخاصة أولئك الذين عاشوا خلال الفترة التي قضاها في سانت بطرسبورغ والاستخبارات السوفياتية، صعوداً سريعاً نحو الثروة الهائلة، وبعض أصدقاء القيصر المقربين من سانت بطرسبورغ هم يوري كوفالتشوك الذي يوصف غالباً بأنه "المصرفي الشخصي" لبوتين، وغينادي تيمشينكو وأصوله الرئيسة هي الشركة التجارية "غونفور"، والأخوان أركادي وبوريس روتنبرغ اللذين يمتلكان أصولاً في قطاعات البناء والكهرباء وخطوط أنابيب النفط، وكل هؤلاء الأشخاص تعرضوا للعقوبات لكن ثرواتهم زادت وتزيد على الدوام.

أما المجموعة الثانية فتضم رؤساء الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والشرطية والعسكرية الروسية المعروفين باسم "سيلوفيكي" والذين يستخدمون شبكاتهم أيضاً لجمع ثروات شخصية هائلة، وبعض هؤلاء الذين يطلق عليهم اسم "سيلوفارش" هم ضباط استخبارات سابقون في وكالة الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي) والآن في وريثها جهاز الأمن الفيدرالي "في أس بي"، والذين راقبوا بغيرة سلطة وثروات رجال الـ "أوليغارشية" وحكومة الأقلية في عهد يلتسين وانتزعوها تحت حكم بوتين، أما الشخص الذي يعتبر القائد غير الرسمي لهذه المجموعة الشرسة والمتحكمة فهو رئيس شركة النفط العملاقة "روس نفط" إيغور سيتشين الذي يعتبره كثيرون ثاني أقوى رجل في روسيا.

وأخيراً فإن المجموعة الثالثة تتكون من العدد الأكبر من الـ "أوليغارشيين" الروس الغرباء الذين ليست لديهم علاقات شخصية مع بوتين أو الجيش أو جهاز الأمن الفيدرالي، والواقع أن بعض الغرباء اليوم هم من أنصار حكم القلة النخبوية من حقبة التسعينيات.

وعلى رغم أن بوتين سحق بصورة انتقائية حكومة القلة غير الملائمة سياسياً أو المتمردة منذ توليه السلطة، فإنه لم يسع إلى القضاء على طبقة القلة النخبوية بصورة منهجية كما وعد خلال حملته الانتخابية الأولى، وعلى سبيل المثال يظهر أفراد حكومة القلة، مثل فلاديمير بوتانين وأوليغ ديريباسكا، الذين جمعوا ثرواتهم خلال التسعينيات بانتظام على قوائم أغنى الروس في عصرنا.

وسطاء بوتين

وبغض النظر عن تصريحات الرئيس الروسي ضد تدخل رجال الـ "أوليغارشية" في السياسة والحكم، وبصرف النظر عن نوع هؤلاء الأخيرين والفئة التي ينتمون إليها، فقد ساعد أفراد القلة المالية النخبوية بوتين على البقاء في السلطة من خلال طواعيتهم السياسية ودعمهم المالي لمبادرات الكرملين المحلية، فالـ "أوليغارشيون" الروس يبحثون دائماً عن مصالحهم ومنافعهم المالية والشخصية، ولا تهمهم على الإطلاق الأيديولوجيات والتوجهات السياسية والمبادئ والعقائد والتحرر، وإضافة إلى ذلك يستخدم رجال القلة المالية ثرواتهم في شكل وظائف أو قروض أو منح للتأثير في السياسيين داخل بلدان أخرى، وعلى سبيل المثال ففي عام 2014 أقرض بنك روسي تابع لأحد رجال الـ "أوليغارشية" مبلغ 9.4 مليون يورو (10.3 مليون دولار) لحزب "مارين لوبن" الشعبوي في فرنسا مما أدى إلى خلق دين سياسي لروسيا على حزب فاعل في عاصمة الأنوار، وفي عام 2016 دفعت شركة "لوك أويل"، ثاني أكبر شركة نفط في روسيا، غرامة حكومية بقيمة 1.4 مليون دولار لمستشار الرئيس التشيكي مارتن نجدلي، مما سمح له بالحفاظ على منصبه القوي، وبفضل هذا أصبح الرئيس التشيكي ميلوس زيما "أحد أشد المؤيدين المتحمسين للكرملين بين الزعماء الأوروبيين" على رغم أن الشارع التشيكي على خلاف ذلك تماماً.

ويبدو أن بعض أنصار حكم القلة يبادرون طوعاً إلى هذه الصفقات الحساسة من الناحية الجيوسياسية لتحسين العلاقات مع الكرملين، وفي حين أنه من الصعب إقامة علاقة سببية مباشرة بين التطوع الجيوسياسي لأقلية القلة والسياسات المؤيدة للكرملين للمستفيدين منها، إلا أن هناك أدلة قوية غير مؤكدة على أن تمويل القلة يساعد في تعزيز المواقف المؤيدة لبوتين في روسيا ودول خارج روسيا أيضاً.

وإضافة إلى ذلك فإن إخفاء النشاط السياسي للنشاطات الاستخباراتية من خلال استخدام وسطاء غير سياسيين مثل الشركات الخاصة يشكل إستراتيجية رئيسة للكرملين، يمكن من خلالها لمنظمات غير ربحية أو حتى إنسانية إخفاء أنشطتها السياسية.

رهائن القيصر

وهذا يقودنا إلى السؤال الأهم الذي يدور في أذهان كثير من الناس وهو: هل يمكن لفرض العقوبات الغربية على ثروات رجال الـ "أوليغارشية" وأملاكهم ويخوتهم ومنازلهم الفاخرة وطائراتهم الخاصة أنديتهم الرياضية أن يشجعهم على التخلي عن بوتين أو تغيير مسار الحرب في أوكرانيا؟

تحدث بعض رجال الـ "أوليغارشية" بالفعل ضد الحرب مثل رئيس مجموعة "ألفا" ميخائيل فريدمان، وقطب المعادن أوليغ ديريباسكا، والمصرفي الكبير أوليغ تينكوف، وكلهم فرض عليهم الغرب عقوبات، كما دعت شركة "لوك أويل" النفطية العملاقة إلى إنهاء الحرب، وعلى رغم أن شركة "لوك أويل" لا تخضع حالياً لعقوبات مباشرة إلا أن تجار النفط يتجنبون بالفعل منتجاتها تحسباً، والمفارقة أن رجال الـ "أوليغارشية" لا يعارضون الحرب لأسباب إنسانية أو سياسية أو مبدئية، وهم سيعارضون الحرب بصورة متزايدة لأنها تؤثر في مصالحهم ومنافعهم وممتلكاتهم وأسفارهم وتحركاتهم، لذلك وعلى أقل تقدير فإن استعدادهم للقيام بعمليات سياسية مشبوهة لمصلحة الكرملين من خلال محاولة التأثير في الساسة الغربيين مرجح أن يتراجع بصورة كبيرة.

ولكن هناك حدين حاسمين لنفوذهم وقدرتهم على التأثير في سلوك بوتين، فمن ناحية لا يعمل أفراد حكومة القلة الـ "أوليغارشية" بصورة تضامنية جيدة معاً، وفي "رأسمالية سمكة البيرانا" الروسية سعى هؤلاء المليارديرات في المقام الأول إلى التنافس مع أقرانهم للحصول على القطعة الأكبر من كعكة الحكومة حتى خلال الحرب، وكان الدفاع الفردي من منظور الكرملين، بدلاً من الدفاع عن المصالح المشتركة مثل رفع العقوبات، هو أسلوب عمل حكومة القلة الـ "أوليغارشية".

 

 

وفي مقابل ذلك وعد الكرملين بتقديم الدعم الحكومي للشركات الخاضعة للعقوبات، وبخاصة في القطاع المصرفي، والأمر الأكثر أهمية هو أن أعلى المسؤولين في الكرملين يتحدثون اليوم عن الأسلحة وليس عن المال، وما دام بوتين محتفظاً بالسيطرة على قوات الأمن من ضباط الجيش والاستخبارات الحاليين والسابقين المقربين منه بحكم موقعه وعمله الاستخباراتي السابق، فإن بقية أفراد حكومة القلة، في اعتقادي، سيظلون رهائن في أيدي نظامه، ومن المرجح في الوقت الراهن أن يؤثر الجنرالات في بوتين، مثل سكرتير مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف، ووزير الدفاع سيرغي شويغو، أكثر من رجال الـ "أوليغارشية".

خلاصة

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وعندما أصبحت الـ "أوليغارشية" غنية بشكل لا يصدق، ثم خلال طفرة أسعار النفط والغاز، كانت لندن الوجهة المفضلة لرجال الـ "أوليغارشية" بالفعل كمكان لاستثمار تلك الثروة المنهوبة من الوطن الأم، ولم تطرح السلطات البريطانية المستفيدة من هذه التدفقات الاستثمارية الهائلة كثيراً من الأسئلة حول مصدر الأموال، لكنها بدأت ذلك بخجل بعد انطلاق شرارة الحرب في أوكرانيا، والآن فقط بدأت الدول الغربية التي استقبلت بترحاب الأموال الروسية المختلسة التفكير في الأمر حقاً، واكتشفت منظمة الشفافية الدولية في المملكة المتحدة العام الماضي، باستخدام وثائق المحكمة والتسريبات الكبرى مثل أوراق بنما وغيرها من التحقيقات، أن أكثر من 2.5 مليار جنيه إسترليني من الممتلكات إما لروس مرتبطين بالكرملين أو لمواطنين روس أصبحت ثروتهم محل شك، ويبدو هذا مبلغاً كبيراً جداً لكننا نعتبر أنه مجرد غيض من فيض.

وفي التحقيق المشترك لهذه المنظمة مع صحيفة "التايمز"، فقد وجدت أيضاً أن ممتلكات الروس الأثرياء الذين تربطهم علاقات بالكرملين غالباً ما كانت مملوكة لأفراد عائلاتهم وليست ملكاً لهم وغير مسجلة بأسمائهم، لذلك لا تزال هناك طرق لإخفاء المالكين الحقيقيين للأصول الموجودة في المملكة المتحدة وقبرص وعشرات الدول الغربية من خلال استخدام الصناديق الاستئمانية، أو تحويل الأصول إلى أشخاص آخرين من الأقرباء والحاشية، أو استخدام طرق احتيالية أكثر دهاء لإخفاء الثروات والأصول، ولذلك فإن العقوبات الغربية على رجال الـ "أوليغارشية" الروسية غير ذات جدوى حتى ولو كان صداها الإعلامي كبير كصوت الطبل الفارغ من الداخل، والدليل الفعلي الملموس على ذلك أن هؤلاء يزدادون ثراء وتتراكم ثرواتهم أكثر فأكثر رغم أنف العقوبات والحروب وقعقعة السلاح بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، فرأس المال لا دين ولا وطن ولا مبادئ ولا أيديولوجية ولا حدود جغرافية له، وكذلك أصحابه الذين يطلق عليهم المواطنون الروس البسطاء اسم "الروس الجدد".

وفي كثير من الأحيان ترتبط الثروة في روسيا حالياً بالمشاركة في سلسلة التحايل على العقوبات وبخاصة في إعادة بيع النفط، وبينما يصل النفط مثلاً إلى الهند بأسعار مرتفعة إلى حد ما، فإن كثيراً من الناس يحصلون على أرباح جيدة من عمليات السمسرة، وهذه مجرد واحدة من المخططات، كما أن أصحاب أسطول الظل وشركات التأمين لا يخسرون، وعلاوة على ذلك فإن الشركات التي تمتلك الناقلات هي في الغالب شركات واجهة مرتبطة إما بمسؤولين فاسدين أو مع نوع من رجال الأعمال المشبوهين، وهي تجارة مربحة للغاية اليوم، لذا فإن العقوبات ساعدت جزئياً في إثراء المليارديرات الروس، والحقيقة هي أنه نتيجة للعقبات التي نشأت أمام سحب الأموال من روسيا بسبب "سويفت" فقد ظلوا في البلاد، فالعقوبات غير مدروسة جيداً وتضمن الحرية الكاملة لسحب رأس المال من روسيا، لذلك لا تأثير لها على قدرة نظام بوتين على تمويل الحرب.

الفجوة تتزايد باستمرار بين الأغنياء والفقراء في الاتحاد الروسي، فروسيا كانت دائماً دولة تعاني تفاوتاً اجتماعياً كبيراً في العهود القيصرية، وهي عادت لعاداتها الموروثة التي لم يستطع 70 عاماً من الحكم السوفياتي أن يغير فيها حرفاً واحداً أو قضية مقضية.

في روسيا كل شيء يسير بروح المثل القديم "الحرب هي الحرب، لكن الثروة عزيزة مثل الأم"، وقد وصلت الفجوة بين الفقراء والأغنياء في روسيا إلى أبعاد هائلة، وكذلك التناقضات بين النخبة الحاكمة التي تزداد ثراء باستمرار والطبقات الدنيا تتفاقم، ولكن في أذهان معظم الناس العاديين، ولسوء الحظ، ينظر إلى هذا على أنه هيكل طبيعي تماماً لحياة الدولة.

المزيد من تقارير