في معرضه "خلف الشاشات" الذي تقيمه غاليري آرت أون 56 البيروتية، يعرض الرسام عماد فخري لوحات هي عبارة عن مبدأ واحد يتجوّل ولا يتغيّر، وفيه يكمن تحدّي المعرض الأساسي. مجموعة من الألوان الداكنة في لوحات فخري، ألوان مبنية على طبقات ونساء وشخوص ترشح منها العزلة والسكينة. لوحات تتماوج بين التشكيل واللون الذي هو ميزة أغلب الأعمال.
أعمال المعرض الثاني في مسيرة فخري ليست مجرد موتيفات لونية مبعثرة بعيدة من الارتجال، بل عبارة عن ألوان تبدو أنها خلفيّة لأشكال بسيطة وشخوص شبه غائبة أو مغيّبة. ألوان لرسم الحاجات الداخلية للإنسان وكأنها طريقة حياة. تراكمات في اللون والمواد تخلق هذا الانزياح بين حركة الجسم والفراغات المحيطة، وصولاً إلى المضمون الذي تقدمه اللوحة.
طقوس ولوحات
تحمل اللوحات دعوة مبطنة إلى التواصل والسهر والسمر في هذا الزمن الذي نعيشه. فهؤلاء الأشخاص الذين في اللوحات بوجوههم غير الواضحة، يقولون أنّ الفن ليس بعيد المنال وأن اللون يمشي مع اللون ويدخل فيه ليشكّل هذه الحفاوة السحريّة أو الطقوسية.
تبدأ الأعمال مع فخري من حيّز معين وتستمر في البحث لتصل إلى هذه الدرجة. فيقف المتلقي أمام أعمال تختلف درجات قراءتها من عمل إلى آخر. اللوحات كلها فيها اجتماع وجماعة. تمشي كأنها في رحلة انتقال من التصوير إلى الواقعية وصولاً إلى تخوم التجريد. التمحيص في الوجوه ومعاينتها يقول إنّ الغموض سيّد الموقف وجزء مهم من العمل. على عكس أعماله السابقة التي شكلت الوحدة ثيمة أساسية فيها، الوحدة بعناصرها التي تعبر عن حالة الكائن وتوحده مع حيوان وحيد هو الكلب. هذه الوحدة تنقلب في هذا المعرض إلى اجتماع وتواصل. مساحات لونية محيطة وطبقات تتكدّس بالألوان، بحيث أنّنا نرى خيطاً رفيعاً يجمعها بعيداً من التكرار. رسوم على لوحات، نقل الحالة الموجودة في الذاكرة.
مشاهد أليفة
هذه المشاهد العائلية كان يمكنها أن تكون أليفة لولا هذه اللظخات المتنوعة التي اعترتها وقد تجلت بها بصمة فخري. اللطخة هذه تنحو بالعمل نحو ألففة شبه يومية، فيها جلبة وصخب متأتيان من حشود وشخوص ملتفة بعضاً على بعض وخائفة، وقد تكون متوترة أيضاً تزرع فينا قلقاً وعزلة ووحشة. هكذا لا تبقى اللوحة لوحة ، بل هي لوحة في عزلتها وزوالها وما بقي منها بعد العمل اليومي عليها.
أشخاص اللوحات يطلعون من الذاكرة، يتكئون عليها ويستندون إلى عمليات النبش فيها. رحلة نبش في المكان المتخيّل والنوستالجي. لهذا تبدو هذه المهارة غير محصورة في الرسم ولكنها أيضاً في التذكّر بعيداً من الرسم المباشر. عمليّة تجميع لبقايا موجودة في الذاكرة. اللوحة في داخلها ما يتاخم التجريد وينحو به ويتخطاه باتجاه المحو، لتخطي المشهدية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في اللوحات المعروضة تفاوت في الثيمة العامة أو في التقنية والضربات، بحيث ليس للوحات قوام واحد أو مشترك. إنما تغيب عن جميعها الضحكة والنفحة الإنسانية الموجودة لدى البشر. انبثاق لوني يجعلها تبدو كأنها تردنا إلى أعمال كلاسيكية عريقة. تلخيص للصورة المقدمة بالعبوس والتجهم. شخصيات عديدة بعيدة عن الرمزية، تجتمع ولا تجتمع. الأشخاص في وجودهم لا ينظر أحد منهم إلى أحد. كل واحد منهم في اتجاه. اجتماعات بشرية بروح مفقودة. الوجوه لا نستطيع تمييزها من الحائط الخلفي المرافق.
كيف يمكن أن تتواصل هذه التقنية؟ وإلى أين تتجه؟ هل هذه هي البداية أم النهاية؟ إنها الأسئلة التي تهبنا إياها الأعمال بلا تحفظ. مزيج من ألوان ترابية جسدت الملامح ذاتها بصيغ مختلفة. لوحات كأنها تقول أننا ألِفنا العزلة وتفاصيلها ونسينا البهجة، وربما لم يعد لدينا القدرة الكافية لنكون خارج إطار عزلة هذه الكائنات.