Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يتفوق الأدب على الواقع في الصراع الدائم بينهما؟

يان ليانكه يستكشف فنّ الرواية من خلال أبرز التجارب السردية العالمية

عالم القراءة بريشة فيولين أباتوشي (صفحة الرسامة - فيسبوك)

راجت الواقعيّة في الأدب منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع الكتّاب الفرنسيّين الذين اعتنوا بنقل حقيقة الأشياء وطبيعة العلاقات وتفاصيل المجتمع الذي يعيشون فيه بدقّة. فارتمى بلزاك (1799-1850) وهوغو (1802- 1885) وفلوبير (1821- 1880) وكثر غيرهم في حبال الواقعيّة السرديّة بعيداً عن الرومنطيقيّة التي سادت لعقود. ثمّ انتقلت هذه الواقعيّة في الروايات والقصص القصيرة الفرنسيّة إلى الآداب الأخرى كالأدب الروسيّ والأدب الإنكليزيّ وصولاً إلى الأدب الصينيّ، وتوسّعت خصائصها وأنماطها وتوجّهاتها.

وفي مؤلَّفه "استكشافاً لفنّ الرواية" (منشورات تكوين، 2023) ترجمة منال الندلبي، يفصّل الكاتب والمترجم والقاصّ يان ليانكه أصول السرد الواقعيّ وأنواعه وفروعه بدقّة وعلميّة متوجّهاً إلى القارئ المتخصّص أكثر من غيره. وقبل التطرّق إلى أنواع الواقعيّة والحقيقة فيها، يشير ليانكه سريعاً إلى أنّ هناك ركيزتين أساسيّتين للواقعيّة الأدبيّة وهما: التجربة والواقع.

ويان ليانكي الذي بدأ الكتابة سنة 1978 والذي يملك في رصيده حوالى 15 رواية وما يربو على الخمسين قصّة قصيرة يعترف بأنّ الكتابة هي عمل فرديّ يجرّب فيه كلّ كاتب بمفرده ما يناسبه وما يتوافق مع تجربته، وما ينجح مع كاتب بعينه، لا ينجح مع غيره. فيكتب ليانكه: "لا تستطيع أيّ نظريّة أدبيّة أن تحدّد للكاتب الطريقة التي عليه الكتابة بها، ولكن على الكاتب أن يخوض في عمليّة التجربة والخطأ، دافعاً ثمناً باهظاً لاحتماليّة الحصول على مكافأة غير متوقّعة." (ص: 177).

المستويات الواقعية الأربعة 

يمكن أن نقسم كتاب يان ليانكه المؤلّف من 218 صفحة إلى ثلاثة أقسام كبرى بحسب الموضوعات التي يطرقها: أوّلاً أنواع الحقيقة في السرد الواقعيّ، ثانياً أنواع السببيّة في هذا السرد، وثالثاً الواقعيّة الميثولوجيّة التي يختار الكاتب أن يتركها إلى النهاية.

ويبدو أسلوب يان ليانكه في تقديم معلوماته سهلاً واضحاً متماسكاً متدرّجاً مع أمثلة كثيرة ووافية من الأدب العالميّ ومن الأدب الصينيّ. يقدّم يان ليانكه أبعاداً منطقيّة للأدب وللواقعيّة في السرد مدعّماً أقواله بحجج وأمثلة من أهمّ الأعمال العالميّة. تُضاف إلى ذلك المقارنات الأدبيّة والفكريّة والنقديّة الكثيرة والثاقبة التي يقيمها الكاتب نتيجة مراقبته ورصده لحركة الأدب والكتّاب، فيكتب مثلاً مقارنة مفصّلة بين كاتبين اثنين قائلاً: "في القرن التاسع عشر، نستطيع أن نستشفّ الفروق بين أسلوبي بلزاك وفيكتور هوغو، ليس فقط في تناولهما للواقعيّة والرومانسيّة في أعمالهما، ولكن أيضاً في موقفهما من العلاقة بين المجتمع والإنسانيّة. يعامل بلزاك الناس والمجتمع كمزيج فوضويّ يتداخل بعضه في بعض، بينما يراهما هوغو منفصلين ومتناقضين. يمثّل موقف الأوّل الواقعيّة النقديّة، بينما يمثّل الأخير الواقعيّة الرومانسيّة. تملك شخصيّات بلزاك أدواراً في المجتمع أو في العالم الشعبيّ، بينما تتموضع أغلب شخصيّات هوغو في مجتمعات مسرحيّة أو في مسرح دينيّ." (ص: 25).

وفي ما يتعلّق بمستويات الحقيقة في الواقعيّة فهي أربعة بحسب ليانكه، وهي كالتالي:

أوّلاً: الحقيقة المشيّدة: من أنواع النصوص الواقعيّة أن يقوم السرد على الحقيقة المشيّدة كمثل روايات جورج أورويل "1984" و"مزرعة الحيوان". والحقيقة المشيّدة هي الحقيقة التي تشبه الحقيقة الدنيويّة، أي أنّها الحقيقة السرديّة التي تشيّد عالماً بني على غرار العالم الحقيقيّ. فيستخدم الكاتب التجربة للوصول إلى القرّاء بكلّ مصداقيّة وموثوقيّة.

ثانياً: الحقيقة الدنيويّة: يتحدّث يان ليانكه في هذا النوع من الواقعيّة عن عطش للأحداث الدنيويّة والاستقاء من أحداثها، فيكون السرد مبنيّاً على أساس من التجارب المشتركة في نطاق المجتمع كمثل رواية الكاتبة الأميركيّة مارغريت ميتشل "ذهب مع الريح" التي تدور أحداثها في الحرب الأهليّة الأميركيّة (1861-1865) الموجودة في عمق السرد.

ثالثاً: الحقيقة الحيويّة: في هذا النوع من النصوص تتّسق الشخصيّات الخياليّة ضمن الفترة التي تعيش فيها لتخلقها بكاملها للقارئ، فتتماشى الشخصيّات مع الخلفيّة الزمنيّة التي تجري فيها الأحداث من دون أن تكون هذه الأحداث فاعلة فيها. من هذه النصوص يذكر يان ليانكه رواية فلوبير "مدام بوفاري"، ورواية "الأحمر والأسود" لستندال، ورواية الصينيّ لو شون "القصّة الحقيقيّة لأه كيو".

رابعاً: الحقيقة الروحيّة: لا تركّز نصوص هذا النوع من الواقعيّة على الخلفيّات الاجتماعيّة الواسعة كتلك التي نراها لدى تولستوي في "الحرب والسلم" بل نراها نصوصاً تطمح لأن تحلّل النفس البشريّة. ومن روّاد هذا النوع من الحقيقة الروسيّ دوستويفسكي، فيكتب عنه ليانكه قائلاً: "من الصعب أن نجد كاتباً مثل دوستويفسكي أتقن نقل العمق الروحيّ للنفس البشريّة منذ الصفحة الأولى، وحتّى الصفحة الأخيرة في أعماله،" (ص: 42).

السببيّة في السرد الواقعيّ

بعد تطرّقه إلى أنواع الحقيقة في السرد الواقعيّ، يتطرّق ليانكه إلى السببيّة، فيكتب: "إنّ القاعدة الأساسيّة التي يتّفق عليها جميع كتّاب الواقعيّة، ويلتزمون بها، هي أنّ جميع الحبكات والشخصيّات يجب أن توجد لسبب. وهذا مطلب صارم أسّسه الكتّاب والقرّاء على حدٍّ سواء،" (ص: 98).

والسببيّة ثلاثة أنواع. أوّلاً هناك السببيّة الكلّيّة وهي السببيّة التقليديّة التي تركّز على إظهار خلفيّات الشخصيّات إلى جانب إظهار العلاقات التي تربطها ببعضها وبمجتمعها بالتفاصيل. وهنا يذكر ليانكه أعمال تولستوي ودوستويفسكي والكتّاب الواقعيّين الكلاسيكيّين.

أمّا السببيّة المنعدمة فقد أسّسها فرانس كافكا (1883- 1924) وهي تعني "الحصول على نتيجة من دون وجود سبب يسبقها." (ص: 83). يرفض كافكا نهج السببيّة الكلّيّة فأعماله تنتج من الحيرة وعدم إظهار السبب كما في رواية "التحوّل". ففي هذه الرواية يستيقظ البطل غريغور سامسا ذات صباح "بعد أحلام مزعجة" ليجد نفسه قد تحوّل في فراشه إلى حشرة هائلة الحجم. لا يُظهر الكاتب السبب وراء هذا التحوّل ولا يهتمّ حتّى به. هل هو أمر قام به غريغور؟ هل هي الأحلام المزعجة؟ هل هو شيء تناول البطل قبل نومه؟ أسئلة كثيرة لا إجوبة عليها.

يذكر ليانكه في السببيّة المنعدمة كذلك مثال مسرحيّة "في انتظار غودو" لصموئيل بيكيت (1906- 1989). وتأتي السببيّة المنعدمة بجديد آخر هو أنّ الكتّاب التقليديّين كانوا عبيد شخصيّاتهم، إنّما مع مجيء كافكا تغيّر كلّ ذلك، فقد جعل كافكا للكاتب مكانة استبداديّة لا يُعلى عليها. لم يعد يعطي الكاتب شخصيّاته أو قرّاءه فرصة للمساومة أو لاتّخاذ أيّ قرار بل بات يرسل الأحداث على سجيّته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تبقى السببيّة الثالثة وهي السببيّة الجزئيّة وهي موجودة مثلاً في "مئة عام من العزلة" لماركيز (1927-2014) وهي أقلّ من السببيّة الكلّيّة، لكنّها أكبر من السببيّة المنعدمة: "وهي تروح جيئة وذهاباً بين النوعين. وهذه السببيّة الجزئيّة هي بالتحديد السببيّة الجديدة، أو السببيّة المحتملة، التي أورثها ماركيز للعالم." (ص: 117).

يكتب يان ليانكه كذلك عن السببيّة الداخليّة والسببيّة الخارجيّة. فالسببيّة الداخليّة قائمة على حقيقة أرواح البشر وضمائرهم وهي تركّز على دواخل الشخصيّات كطريقة عرض دوستويفسكي لشخصيّة راسكولنكوف في "الجريمة والعقاب". أمّا الحقيقة الخارجيّة فهي حقيقة تصرّفات الشخصيّات وأشيائهم الخارجيّة. وبينما تركّز الحقيقة الداخليّة على صراعات الشخصيّة الداخليّة وشعورها بالظلم أو الحنق أو الاضطهاد أو الحزن، تركّز السببيّة الخارجيّة على سير الأموار.

الواقعيّة الميثولوجيّة

يترك يان ليانكه الواقعيّة الميثولوجيّة لآخر فصل من فصول كتابه. وهذا النوع من الواقعيّة هو عمليّة إبداعيّة تقوم على خيط رفيع ومتّزن بين الخرافة والواقع. ترفض هذه الواقعيّة الميثولوجيّة العلاقات المنطقيّة الموجودة في الحياة الواقعيّة لتستكشف نوعاً من الحقيقة الخفيّة فتعتمد على خرافات وأساطير ورؤى وأحلام وتحوّلات سحريّة. هذا النوع من الواقعيّة موجود مثلاً في رواية تشين رونغ "أصغر بعشر سنوات" ورواية وانغ آني "أحبّ بيل".

يظهر كتاب "استكشافاً لفنّ الرواية" للكاتب يان ليانكه كتاباً مفيداً للمتخصّصين بفضل المعلومات الكثيرة التي يقدّمها، والأمثلة التي يدعّم بها الكاتب أقواله، والتقسيمات المنطقيّة التي يقوم بها للنصوص الروائيّة، بالإضافة إلى الوعي العميق الذي يملكه بفنّ السرد الواقعيّ. ولا تخلو صفحة من صفحات هذا الكتاب من نصيحة أو من فكرة مفيدة للكتّاب عن التجربة الروائيّة. واللافت في هذا الكتاب أيضأ أنّه يتّجه للكتّاب والقرّاء الصينيّين وغير الصينيّين في الوقت نفسه، ويقدّم آراء ونظريّات موثوقة ويمكن تطبيقها على مختلف الآداب. فيقول ليانكه مثلاً في أحد المواضع أنّه كلّما كانت التجربة التي يستند عليها الكتاب جماعيّة ومشتركة، منحت العمل الأدبيّ قوّة وأثراً وهو أمر ينطبق على مختلف الآداب.

وفي نهاية المطاف، يظهر يان ليانكه متمكّنًا من موضوعه ومن فنّ السرد الواقعيّ وقادرًا على الربط بين أعمال النقّاد الغربيّين وأعمال النقّاد الصينيّين في موضوعات شائكة وقضايا فنّيّة طالما أرّقت المجتمع الأدبيّ، فيضيف في موضع من كتابه جملة طالما كانت محطّ اختلاف بين النقّاد الغربيّين، فيظهر وجهة نظر النقّاد الصينيّين فيها عندما يقول: "هنالك قاعدة غالباً ما يتّفق عليها النقّاد والقرّاء الصينيّون بسرّيّة، ألا وهي أنّ على العمل الأدبيّ أن يطمح ليكون "متفوّقاً على الحياة"." (ص: 105). لتبقى هذه الجملة معلّقة ومصدر تفاوت في الآراء في الغرب.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة