Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أميركا كما رسمها الفنانون الواقعيون الجدد على اختلاف أهوائهم؟

معرض جماعي في قصر باربيريني يبيّن حيوية التصوير وسطوة الخطاب التشكيلي المختلف

زاوية من معرض الرسامين الأميركيين الواقعيين الجدد (خدمة المعرض) 

ملخص

الواقعية الجديدة ليست فقط حركة فنية فرنسية ظهرت في الستينيات، بل أيضاً حركة أميركية مزامِنة أخرجت الفن من سطوة التجريد الذي كان سائداً في الولايات المتحدة، وأعادت تأهيل الرسم التصويري بمختلف أساليبه، تماماً كما حصل في فرنسا. هذا ما يتجلى بقوة في المعرض الضخم الذي يستضيفه حالياً "قصر باربيريني" في روما تحت عنوان "النهار لليل: الواقعية الأميركية الجديدة"، ويتضمن أكثر من 150 عملاً فنياً تتراوح بين لوحات ومنحوتات وتجهيزات، وتبيّن، بتنوع أساليبها وموضوعاتها، حيوية هذه "العودة إلى النظام".

عنوان معرض "النهار لليل: الواقعية الأميركية الجديدة"، day for night، هو عنوان لوحة معروضة داخله تعود إلى الفنانة الأميركية لورنا سيمسون. وفي الوقت نفسه، إنه مصطلح سينماتوغرافي يشير إلى تقنية تسمح بتصوير مشاهد ليلية في وضح النهار. من هنا اختياره، الموَفَّق، لوصف الرؤى المعتمة ــ المنيرة لأولئك الفنانين الذين سعوا، خلال العقود الأخيرة، إلى تصوير واقع الولايات المتحدة في كل تعقيده. فنانون هجسوا في عملهم بسؤال الواقعية وتمثيل الحقيقة، وينتمون إلى جيلَين: جيل ناشئ يختبر مقاربات جديدة للفن التصويري، وجيل سابق ومكرّس مهّد الطريق لمناقشات ساخنة حول مدى إمكان تمثيل الواقع.

المعرض الذي يحتل الطوابق الثلاثة من "قصر باربيريني"، ينطلق في الطابق الأرضي مع أعمال تستحضر العالم الحضري لمدينة أميركية، وتتراوح بين صناديق قمامة تسحبها كلارا ليدن من الشوارع وتعرضها كقطع فنية جاهزة سلفاً (ready-made)، وعلب بيبسي تعيد كاري أوبسون تصنيعها بشكلٍ مطابق بمادة الألومينيوم، ومنحوتات لغلين ليجون على شكل لافتات نيون مطلية بلون أسود. أعمال تعرّي وتشكك بالأساطير الملازمة لتاريخ أميركا الحديث.

في الصالة الثانية، تتحاور أعمال لنيكول إيزنمان ودانا شاتز وسلمان تور، وهم فنانون من أجيال وآفاق مختلفة، لكنهم يتشاركون افتتاناً في جمالية الغرائبي والمثير للضحك والإشمئزاز. ففي منحوتات ولوحات إيزنمان، تمتزج تلميحات إلى أسلوبي التعبيرية والموضوعية الجديدة الألمانيين مع أصداء للرسوم المتحرّكة. وعلى وجوه شخصيات شاتز، ترتسم ملامح وحشية تعزّز جانبها الكرنفالي الذي يتجلى خصوصاً في بورتريه توأمين جامدين ومقلقين مثل دميتيّ مسرح. أما لوحات تور فهي نوع من الخرافة الذاتية التي تختلط داخلها المراجع الأدبية والسيرذاتية والخيالية.

الصالة الثالثة تستضيف أعمالاً لكارن كيليمنيك ونيكولاس بارتي تعيد النظر في مناخات فن البورتريه في القرن الثامن عشر بطريقتين مختلفتين: بارتي من خلال استخدامه البارع لألوان الباستيل، وكيليمنيك عن طريق لوحات حلمية ذات ألوان "روكوكو"، تتحوّل نجمات هوليود فيها إلى شخصيات أوبِريت. وفي منتصف الصالة، تتلوى مخلوقات لويز بونيه الغرائبية تحت النظرة المتلصصة لشخصيات جوديت إيسلر الأنثوية. وفي جميع أعمال هذه الصالة، يتحول الجسد إلى أشكال مركبة تلغي الجمود وتراتبيات الذوق، وتبتكر بشرية جديدة، ملائكية ووحشية في آنٍ واحد.

رسامات العزلة المنزلية

الصالة الرابعة تقدّم أعمالاً لفنانات يستكشفن ديناميكية الأسرة والزوجين، العزلة المنزلية وتجليات من حياة الشوارع. أعمال تنبذ موضوعات الفن الأكاديمي "النبيلة" وتلقي نظرة حسية حميمة على الحياة اليومية، بدءاً بلوحات جوان براون التي يستحضر أسلوبها الفن الشعبي والشرائط المصوّرة وحروفاً هيروغليفية منمّقة، ومروراً بلوحات جيل ماليدي السوريالية، ورؤى جانيت مانت لنساء أحرِقن في الماضي بتهمة الشعوذة، وبورتريه كاتيا سيب للفنان كامرأة شابة.

في الصالة الخامسة تنتظرنا تمثّلات الجسد في الفن الأميركي خلال العقود الأخيرة، مع لوحات لجوان سيميل التي أعادت ابتكار العري في الستينيات ضمن منظور نسوي جديد، محوِّلة الجسد في بورتريهاتها الذاتية إلى خرائط ومشاهد شاسعة بقدر ما هي حميمة؛ ولوحات لجانيفا إيليس تقطنها كائنات آلية هي عبارة عن خليط ميكانيكي وعضوي غريب، أو عن رسوم كاريكاتورية غامضة تحضر ضمن دراما ناتجة عن توتر عرقي؛ ولوحات لسانيا كنتاروفسكي تقطنها مخلوقات خيالية مضطربة تبدو وكأنها خرجت تواً من رواية قوطية جديدة. وفي منتصف الصالة، توحي تماثيل أندرا أورسوتا النصفية بترابطات مدهشة بين حضارات قديمة واستيهامات مستقبلية، بينما توجّه أعمال ريتشارد برينس الهجينة في وسائطها (رسم، تصوير فوتوغرافي وكولاج)، نقداً حاداً لمفهوم الأصالة، عبر تملّكها صوراً من الثقافة الجماهرية، أو عبر إعادتها النظر في العري التعبيري التجريدي لمواطنه ويليم دو كونينغ.

في الصالة السادسة، نرى كيف جدد نايت لومان وشارا هيوس وستيرلينغ روبي وجوش سميث وماتيو وونغ تقليد فن رسم المنظر الطبيعي، إما عبر استثمار موضوع الأعاصير الذي يتسلط منذ سنوات على الخيال الثقافي الأميركي، مثل لومان، أو عبر خلق مشاهد داخلية تجمع بين التأمل المباشر للواقع واستكشاف الأعماق المقلقة للنفس البشرية، مثل هيوس وروبي وسميث، لكن كل واحد على طريقته. والنتيجة هي نوع جديد من الواقعية السحرية يتراوح بين نقد اجتماعي وفرار حنيني.

وفي الصالتين السابعة والثامنة، تحضر أعمال لفنانين تناولوا فيها بشكل مباشر النقاش المفتوح في وطنهم حول التوترات العرقية، تتبعها أعمال لنينا أبناي وريجي بوروس هودج وجوناثان ليندون تشايز وكارا وولكر الذي استخدموا التصوير للتشكيك في الصور النمطية للعرق والهوية، وأخرى لمارك برادفورد وريك لووي وجولي ميريتو الذين جعلوا من التجريد لغة جديدة لمقاربة موضوعات اجتماعية وسياسية، من دون السقوط في مشهدية العنف السائدة في وسائل الإعلام.

وفي فضاءٍ خاص، تحضر لوحات منيرة للفنانة اللبنانية إيتيل عدنان تشكّل بمناظرها الطبيعية الساكنة نقيضاً للوحات سيليست دوبوي سبينسر وجوش كليني وريمون بوتيبون التي تتّسم بواقعية هستيرية تختلط فيها البارانويا بمحاكاة ساخرة وإثارة مفرطة غريبة. أعمال مشبعة بشعور التباس شديد، تعكس حمى استقطاب الآراء التي تميز المجتمع الأميركي.

الفن الرقمي

وفي الصالة الأخيرة من الطابق الأرضي، نشاهد لوحات لوايد غيتون ولورا أوينس وسيت برايس وكريستوفر وول تنتمي إلى ذلك النوع الجديد من فن الرسم الذي يسعى، في زمن التكنولوجيا الرقمية، خلف توازن بين تعبيرية وتمثيل بارد. أعمال تشهد على تلك الجاذبية الجديدة لما هو غير عضوي، حيث تتحول رغباتنا اللاوعية إلى خوارزميات ومنتجات تتوارى فيها الحدود بين واقعي وافتراضي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن بين الأعمال الأخرى الحاضرة في هذا الطابق، تستوقفنا منحوتة لأورس فيشر يعيد فيها النظر، مثل هانسون وراي، بتاريخ الفن، وخصوصاً بموضوع الفروسية التقليدي. فحصانه لا يحمل على ظهره بطلاً أو محارباً، بل هو عبارة عن كائن متحوِّل يتكوّن من عناصر عضوية وأخرى غير عضوية، ويبدو بسطحه اللماع وكأنه ينتمي إلى خرافة علمية.

وفي الطابق الثاني، تتوزّع أعمال تجريدية في معظمها تعود إلى فنانين سود استخدموا التجريد انطلاقاً من الستينيات كوسيلة لانتزاع حريتهم، ورفضوا تركيز عملهم على موضوعات سياسية راهنة، مثل بيتر برادلي، فرانك بولينغ، ملفين إدواردس، سام غيليان وجاك ويتن. تحضر أيضاً أعمال لفنانين سود شبّان استلهموا هذا المنهج وعثروا على طرق جديدة ومبتكرة لمقاربة الأسئلة المتعلّقة بالهوية، مثل ثيستر غايتس وراشيد جونسون ولورنا سيمسون.

وفي السياق نفسه، تقترح منحوتات أرثور سيمس وكاميرون رولاند مقاربات أخرى لاستثمار التجريد ومقاربة موضوعات سياسية. فبينما يجمع سيمس في تشييداته الهشّة بين فنون منطقة الكاريبي الشعبية وما حفظه من وجوه فن التركيب الكبرى، مثل دايفيد هامونز ونووا بوريفوي، يقود رولاند استكشافاً دقيقاً لتاريخ أميركا، مقدّماً قطعاً جاهزة سلفاً تستحضر علاقات سلطة معقّدة. أما عمل جاكلين هامفريز التجريدي فيندرج ضمن منهج تحقيقي مشابه لعمل فنانين مثل وول، غيتون وأوينس الذين ينشطون عند تقاطع التكنولوجيا والتعبيرية.

ومن بين الأعمال الأخرى الحاضرة في هذا الطابق، لا يسعنا عدم ملاحظة تلك التي تعود إلى ثلاثة فنانين لبنانيين استقرّوا خلال فترة من حياتهم في أميركا: سيمون فتّال التي تقولب تماثيل ملكات ومحاربات تمتزج فيها الأساطير القديمة بمراجع حديثة؛ ريّان تابت الذي يُحِلّ مناخات غسقية على فضاءات داخلية بتغطيته النوافذ بقماش أزرق رقيق وشفّاف، مستحضراً بذلك استراتيجيات تنويص الأضواء التي استخدمها اللبنانيون أثناء الحرب؛ وزياد عنتر الذي يلتقط أو يتلاعب بصور فوتوغرافية، يعلوها غبش متعمَّد، مسائلاً من خلالها وسيطه الفوتوغرافي، إكراهاته ومحدوديته، ومقارباً فيها تارةً موضوعيّ الذاكرة والحرب، وطوراً البنيات الاجتماعية والسياسية التي تؤثّر على الحياة اليومية.

نشير أخيراً إلى أن جميع الأعمال المعروضة حالياً في "قصر باربيريني" تنتمي إلى مجموعة اللبنانيين طوني وإلهام سلامة الفنية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة