Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"دون جوان" موليير يفرط في لعبة الإغراء وينال عقابه

صيغة مسرحية جديدة أنجزتها المخرجة ماشا ماكييف قي مسرح الأوديون الباريسي

من أجواء مسرحية "دون جوان" على مسرح أوديون الباريسي (خدمة المسرح)

ملخص

المخرجة الروسية الفرنسية ماشا ماكييف تعود إلى مسرحية "دون جوان" للكاتب الكبير موليير في عرض مختلف في أسلوبه وإخراجه وفي أداء الممثلين أيضاً. عطفاً على أنها أسقطت على عرضها المسرحي تأويلات فلسفية ونفسية وحتى أسطورية جعلت دون جوان شخصية تعيش صراعاً عميقاً بين الشر والخير.

تعد شخصية دون جوان (أو دون خوان بالإسبانية) شخصية مسرحية أسطورية خالدة كثر العمل عليها وتقديمها أدبياً ومسرحياً عبر العصور، بأشكال مختلفة وأنماط كتابية متنوعة. وطالما شكلت شخصية هذا الرجل الأرستقراطي الوسيم الثائر الذي يغوي النساء، بعذب كلماته وسلطته ومكانته، معضلة أخلاقية ومصدر إلهام أدبي للكتاب. فدون جوان بقدرته الهائلة على الإيقاع بالجميلات، بشخصيته المثيرة والشيقة والمحفزة، تحول بالنسبة إلى الكتاب والشعراء والمسرحيين نموذجاً محبباً لزير نساء ثائر، يعيدون كتابته كل بحسب ثقافته وعصره وبيئته. فتقول الأسطورة إن دون جوان كان شابا ثرياً مشهوراً وسيماً ذا مكانة مرموقة في المجتمع، لكنه كان كذلك رجلاً لعوباً عاشقاً للجميلات يغويهن من دون رادع ديني أو أخلاقي أو اجتماعي. وبعد إشارات وتحذيرات عدة من الأعلى لم يستمع إليها ولم يعبأ بها، ينال دون جوان عقابه بنزوله إلى الجحيم كالخطأة.

ومن الجدير ذكره أن دون جوان ظهر للمرة الأولى في القرن الـ17 في إسبانيا، قبل أن يذيع صيته لاحقاً في أوروبا ثم في العالم أجمع. وتنسب كتابة هذه الشخصية للشاعر الباروكي الإسباني تيرسو دي مولينا، في روايته "ماجن إشبيليا" التي نشرت عام 1620، (El burlador de Sevilla y convidado de Piedra,Tirso de Molina)  ليعود إليها لاحقاً عدد هائل من الكتاب والمسرحيين، أبرزهم الفرنسي موليير (توفي سنة 1673)، والنمسوي موزارت (توفي سنة 1791)، والبريطاني اللورد بايرون (توفي عام 1824)، والإيرلندي جورج برنارد شو (توفي عام 1950).صراع دون جوان في المسحرية (خدمة المسحر)

تقدم المخرجة المسرحية ومصممة الديكور والأزياء، الروسية الأصل، ماشا ماكييف حالياً مسرحية "دون جوان" بحسب نص موليير على مسرح "أوديون" الباريسي العريق. وليست هذه التجربة الأولى لماكييف مع أعمال موليير، إذ قدمت مديرة مسرح La Criée، وهو المسرح الوطني في مرسيليا، أعمالاً متعددة له، منها "النساء العالمات" (Les femmes savants) عام 2015، وطرطوف (Tartuffe) عام 2020.

تقدم ماشا ماكييف عملاً تاريخياً كلاسيكياً عبر رمزية الألوان والأخيلة وخلال عناصر مسرحية متعددة حذقة، تختار أن تنقل عبرها معضلة أخلاقية دينية أزلية وهي علاقة الإنسان بخالقه. والمتعارف عليه في الميثولوجيا والأديان السماوية الثلاث أن الإنسان الفاني الذي يعصى الوصايا ويتجرأ على النهل من منابع السعادة واللذة من دون رادع، إنما ينزل به الإله شر عقاب، وهو ما يحدث تماماً مع دون جوان. فكيف يبدو دون جوان موليير وماشا ماكييف؟ هل هو بطل مغو متهور يتحدى الآلهة أم هو رجل حزين ملعون؟ وكيف تمكنت ماكييف من تقديم معضلتها الأخلاقية من خلال عناصر الديكور وألوانه؟

أحمر الحب والغضب

تستند ماكييف في مسرحيتها "دون جوان" إلى ثلاثة ألوان حاضرة بقوة تجسد مراحل حياة دون جوان وتسلط الضوء على طبعه ومصيره القاتم. فيقع المتفرج أولاً على حضور قوي وواضح للون الأحمر الذي تتغير معانيه ورمزياته بتقدم أحداث العرض الذي يمتد إلى ساعتين ونصف ساعة.

يرمز الأحمر في بداية المسرحية إلى لعبة الشغف واللذة والإروتيكية المتفلتة التي يعيشها دون جوان. فيرمز الأحمر الموجود في غرفة نوم دون جوان، وفي مرحلة أولى، إلى ألاعيبه الشبقة وانصياعه لغريزته وتحديه الممنوعات الأخلاقية والدينية والاجتماعية. يرمز الأحمر في هذه المرحلة إلى الخطيئة وإلى الرغبة ليصطبغ دون جوان بلون الراكض خلف المحرمات والملذات الجسدية.

في مرحلة تالية يتحول اللون الأحمر الذي يطغى على خلفية المسرح إلى لون التهديد والوعيد، لون الغضب السماوي الذي يدعو دون جوان إلى التراجع عن أخطائه وزلاته وتحدياته. ويترافق هذا اللون الأحمر مع مجيء والد دون جوان ثم حبيبته الدونا إلفيرا ومن بعدهما رجل فقير مدقع، يكونون بمثابة ثلاث إشارات مرسلة إلى دون جوان ليثني عن التصرفات التي يقوم بها والتجاوزات التي لا يتراجع عنها ولا ينفك يمعن فيها.

أما المرحلة الثالثة والأخيرة لرمزية اللون الأحمر فهي عندما يظهر هذا اللون في النار التي تشتعل على خشبة المسرح في نهاية العرض التي تعكس مسيرة دون جوان الهابطة إلى الجحيم. يتحول اللون الأحمر في نهاية العمل إلى نيران الجحيم ونيران العقوبة التي تنزل بدون جوان. يتجسد باللون الأحمر الغضب الإلهي الذي لا يرحم ولا يسامح.

أسود الشر والعقاب

تدور أحداث هذه المسرحية في قصر دون جوان، فيجد الجمهور نفسه أمام ديكور أرستقراطي باذخ تنتقل فيه الشخصيات من غرفة النوم إلى قاعة الطعام فقاعة الجلوس: غرف قصر يبدو الثراء والجاه والنبل فيها منذ اللحظة الأولى. لكنها كذلك قاعات وغرف تحمل بتفاصيلها إشارات إلى الموت وإلى المصير القاتم الذي يسير إليه دون جوان الذي يبدو أنه لا مفر منه.

يظهر اللون الأسود في مواضع متعددة ورمزية في اللعبة المسرحية التي تقدمها ماكييف، فيظهر أولاً في الغراب الأسود الموجود طوال العرض في قاعة الطعام. غراب أسود قاتم يتم تحريكه في نهاية العرض من مكانه كدليل على الموت ومجيء النهاية ونزول العقاب الإلهي الأسود القاتل الذي لا عود من بعده.

إن الأسود عموماً، هو لون غياب الألوان وغياب الحياة وغياب النور، وهو ما يتجسد في لباس دون جوان الذي يأتي بعكس ملابس خادمه الرصين الرزين الذي لا ينفك يحذر سيده من عاقبة تصرفاته طوال العرض. إن سغاناريل، خادم دون جوان، يرتدي الأبيض طوال العرض كدليل على أخلاقه العالية وتمسكه بالدين وخوفه من الغضب الإلهي. لكن دون جوان يرتدي الأسود، وهو لون غياب النور والإيمان والنقاء. وكأن ملابس دون جوان تعكس متاهات روحه الحزينة المعذبة التي تتحدى الإله عن يأس وغضب وثورة.

يبقى العنصر الرمزي الثالث للون الأسود، وهو الخاتم الذي يضعه دون جوان في يده. يضع دون جوان خاتماً أسود يعرضه عموماً على الفتيات ليغريهن بالزواج منه. وكأن هذا الخاتم الأسود يدل على الشر الموجود في داخل دون جوان وفي الحيل التي يلعبها على الجميلات. وطالما دل اللون الأسود في الميثولوجيا على الشر، وكأن دون جوان يعمل بيديه ما يسيء للإله لأن يداه تعكسان ما في روحه من عتمة وفراغ وشر. وكأن الأسود الموجود في الخاتم يعكس الشر الذي يلف شخصية دون جوان ويشير إلى الأعمال التي تصنعها بيدها التي ستودي بها إلى الجحيم.

الذهبي لون الجاه والثراء

بعد الأحمر المتقلب المعاني والأسود الجنائزي القاتم، تختار ماكييف أن تظهر جبروت دون جوان وثروته وسلطته الاجتماعية من خلال اللون الذهبي. فهذا اللون الذي يرادف القوة والمجد والثراء الذي يرمز إلى الرفاهية والأنفة منذ العصور القديمة، موجود في ملابس دون جوان وعلى أثاث بيته. يتداخل هذا اللون في كل ما له علاقة بدون جوان عمداً لأن الذهب مرتبط بالثروة وبالتالي بالنبل والسلطة والمكانة المرموقة. وفي الميثولوجيا الإغريقية يرادف اللون الذهبي معنى الألوهة القديمة لأنه يشبه الشمس / الرمز التي لا يمكن للإنسان الفاني أن يقترب منها ولا حتى أن ينظر إليها. وبالتالي فاندماج الذهبي مع ملابس دون جوان لا يعني سوى رغبته الدفينة في تحدي الرمز والاقتراب منه والتشبه به ومنازلته والانتصار عليه حتى. ولا يمكن ألا نذكر في هذا الإطار، إيكار، البطل الإغريقي الذي احترق بنيران الإله/ الشمس لمجرد أنه ظن أنه يمكنه أن يقترب من الشمس وبالتالي أن يقترب من الإله. وكأن مصير الاحتراق أصبح مشتركاً بين البطلين الاثنين اللذين تمردا وحاولا أن يتشبها بالإله.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واللون الذهبي عند المسيحيين الكاثوليك إنما يتوافق مع لون النور والحقيقة والنقاء، فعندما يخرج الغراب الأسود من مكانه الذهبي تصبح الرمزية مضاعفة، وكأن جبروت دون جوان وماله ومكانته لم تستطع إنقاذه من مصيره القاتم ومن غضب الإله النازل عليه حتماً، ليخرج الغراب الأسود بكل رمزيته الجنائزية ويغدر بالقفص الذهبي الذي لم يستطع ردعه طويلاً.

ويبدو العنصر الذهبي الذي يرمز إلى الرفاهية والخصوبة ، ضعيف الوجود في العرض المسرحي مع انعدامه في النهاية واختفائه لمصلحة اللونين الأحمر والأسود، لوني الغضب والعقاب النهائي وكأن الجاه والثراء لم يبعدا عن دون جوان ما كان مكتوباً عليه من عقاب وموت.

"دون جوان" لماشا ماكييف عمل جميل ثري بالرموز والإشارات، عرض فيه عمق الميثولوجيا ومطعم بكوميديا مرهفة ثاقبة رزينة لا تقلل من قيمة النص، لكنها تمنح الشخصية التراجيدية شيئاً من الإنسانية والواقعية وتقربها من الجمهور الذي لا يستطيع الامتناع عن التعاطف معها والقلق عليها والحزن لمصيرها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة