Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

آراغون يستلهم ملحمتي هوميروس ليعالج سوريالية الحرب والسلطة

كتاب فرنسيون ينقلون بتنويعاتهم على الملحمتين اليونانيتين الاهتمام من الأب يوليسيس إلى ابنه تيليماخوس

مشهد يصور تيليماخوس في مساعيه (غيتي)

ملخص

في عام 1932 وفي ذروة انصراف الشاعر والكاتب الفرنسي لويس آراغون إلى خوض مرحلته السوريالية نجده ينصرف إلى "الأوذيسة" لينهل منها ولكن بصورة خاصة من خلال إعادة كتابة نص فنيلون بعنوانه نفسه

هناك في قسم بأكمله من رواية التركي أورهان باموك الكبيرة الأولى "جودت بيك وأبناؤه" شبح يحلق على سلوك الشخصيات وتطلعاتهم يعيش في أذهانهم كمثال أعلى وضمير وازع أتوا به من "الأوذيسة" بخاصة، لكنه لم يكن يوليسيس كما اعتاد كثر أن يفعلوا بشكل وصل ذروته مع الإيرلندي الكبير جيمس جويس حين أعطى روايته الكبرى اسم يوليسيس نفسه، بل من اهتمام خاص بالابن ذلك البطل الأسطوري، تيليماخوس الذي كان دوره الأساس في الملحمة الكبرى أن ينطلق باحثاً عن أبيه حتى يجده في إيثاكا. إذاً لسبب ما تركز اهتمام كثر من الفرنسيين الكبار على الابن، لا على الأب سائرين في ذلك على خطى فنيلون، القسيس الكاتب الذي وجد لدى إيرازموس الهولندي ضالته فيما كان يبحث عن درس في الأدب الإغريقي القديم يعلم من خلاله حفيد الملك الفرنسي لويس الـ14 فنون الحكم ومبادئ السلطة فكتب له نصاً عنونه "مغامرات تيليماخوس". وهو نص لم يفكر فنيلون أول الأمر بنشره ولم يحلم بأن يكون له قراء غير الأمير الفتي. لكنه عاد ونشره في عام 1699 فكان نشره وبالاً عليه إذ قرأه أفراد من الحاشية بوصفه نقداً لحكومة الملك يتخفى تحت قناع نص يستكمل "الأوذيسة" نفسها فاضطهدت الحكومة الكاتب كما تقول لنا سيرة هذا الأخير.

عودة إلى القديم ولكن

في عام 1932 وفي ذروة انصراف الشاعر والكاتب الفرنسي لويس آراغون إلى خوض مرحلته السوريالية متحلقاً وآخرون من حول أندريه بريتون، اشتغل آراغون على مشروع يبدو أول الأمر بسيطاً ولا علاقة له بالسوريالية، ولا حتى بالشيوعية التي سيصبح آراغون من كبار مبدعيها. وكان المشروع إعادة كتابة وعصرنة بلغة مبسطة لبعض أهم نتاجات الأدب الكلاسيكي الفرنسي ولا سيما منه تلك الأعمال التي تنسب إلى الكلاسيكيات الإنسانية والإغريقية. ومن هنا سنجده يقول لاحقاً إنه لم يكن صدفة بالنسبة إليه أن يفعل ما فعل كثر من مجايليه ومواطنيه الكتاب من العودة بخاصة إلى "الأوذيسة" لينهل منها، ولكن بصورة خاصة من خلال إعادة كتابة نص فنيلون بعنوانه نفسه. وهكذا نراه يصدر ذلك الكتاب الذي شاءه أول الأمر تعليمياً فإذا به يطلع بين يديه نصاً سوريالياً "إنما من دون أن يكون عبثياً" كما ينبهنا. وعنوانه لديه أيضاً نفس عنوان نص فنيلون "مغامرات تيليماك". والحقيقة أن آراغون سيشرح بنفسه في صفحات ترد في عام 1959 في كتاب مذكرات أدبية له هو "ألعب لعبتي" الأسباب التي دفعته إلى إعادة كتابات بعض درر الأدب الكلاسيكي الفرنسي، ولا سيما كتاب فنيلون ذاك.

ضد الحرب العالمية الأولى

يقول آراغون في نصه التفسيري إنه وعلى ضوء غوصه في النزوع السوريالي التجديدي وجد في كتاب فنيلون عملاً تربوياً بديعاً، من ناحية لأن الأمر كان بالنسبة إليه "نوعاً من العودة إلى بداياتي بالنظر إلى أن الرواية التي يشكلها النص كانت من أولى قراءاتي في سن طفولتي"، لذا كان قدر كبير من الحنين هو ما أملى عليَّ من سيكون صاحب "أوريليان" و"عيون إلسا" و"ماتيس رواية" لاحقاً، ذلك العمل المبكر الذي قد يبدو مستغرباً اليوم. ومع ذلك فإن الاستغراب سيزول إن نحن تبين لنا أن العمل على المشروع إنما نبع، من ناحية أخرى، من بعض "اهتمامات شديدة المعاصرة" كانت هي ما دفع الشاعر "إلى بذل وقته وجهده للقيام بذلك العمل". لذا لم تكن الاستعانة بالديكور الآتي من "الأوذيسة" سوى قناع لعمل أكثر عمقاً وحداثة. ولعل أول ما قد يتبادر إلى ذهننا هنا إنما هو التفكير في العلاقة شبه المباشرة بين مسعى تيليماخوس والحرب العالمية الأولى، مما يجعل ابن يوليسيس ابناً للقرن الـ20 ونوعاً من أنا/آخر لآراغون نفسه. ولعل ذلك ينطلق بصورة محددة من تفسير آراغون لاسم الفتى الباحث عن أبيه وهو يعني في ترجمته من اليونانية حرفياً، "البعيد من المعارك". وهو معنى ربطه آراغون بانتهاء تلك الحرب الدامية وبتوق الابن للعثور على أبيه وقد بات على ثقة بأن الحرب لم تبتلعه. وكان هذا البعد "السلمي" على أية حال واحداً من الدوافع الرئيسة التي حدت بآراغون لخوض إعادة الكتابة، ولكن قبل أن يكون ذلك من منطلق الموقف السوريالي المناوئ للحرب، من منطلق مواقف حركة "الدادا" التي ولدت في معمعان الحرب العالمية الأولى، معلنة بصورة مبدئية قاطعة رفضها الحرب. فتترجم الأمر لدى آراغون الآتي أصلاً إلى السوريالية من الدادائية، على صورة تفضيله "الابن البعيد من المعارك" على الأب الذي كان القتال خياره الأول والطوعي في حياته.

توضيح التباس دادائي

والحقيقة أن في وسعنا أن نضيف في هذا السياق التفضيلي نفسه كيف أن آراغون إنما نحا هنا أيضاً إلى التعبير بوضوح عن الموقف الدادائي الملتبس أصلاً تجاه مفاهيم السلطة وعلاقة تلك المفاهيم بالحرب، ومن خلال تلك العلاقة بالنص المؤسس لكل ذلك، أي ملحمة هوميروس الثانية التي يكاد الابن يكون بطلها الأول بعدما كان أبوه بطل الملحمة الأولى. وبالنسبة إلى آراغون فإن "الأوذيسة" وعلى عكس الإلياذة التي شهدت تمجيداً للحرب، جاءت لتشهد رفضاً لها وغوصاً في ما ينتج منها. ومن هنا فإن آراغون بتبنيه مبرراً الموقف الدادائي من الحرب والسلطة، إنما شاء أن يحدث نوعاً من الانزياح يقوم على إنقاذ التفسير الدادائي ومن ثم تدميره في آن معاً. ويقيناً أن التركي أورهان باموك في فرضه شبح تيليماخوس على روايته الكبرى الأولى "جودت بك وأبناؤه" إنما أراد التنبيه إلى "تعديلات" آراغون على مساعي فنيلون، متبنياً ما شرحه آراغون وشارحو هذا الأخير من أن الشاعر الفرنسي إنما سعى من خلال اشتغاله على نص مؤدب ابن الملك الفرنسي لويس الـ14، إلى إيجاد تقاطع شديد المعاصرة بين فنيلون ومبادئ الحركة الدادائية. مع العلم أن القارئ المدقق لنص آراغون لا يفوته أن يحد في عدد كبير من حوارات و"مونولوغات" تيليماخوس عدداً لا يستهان به من مبادئ وشعارات الحركة الدادائية ترد بحرفيتها.

مهما يكن من أمر، يمكننا أن نضيف هنا أن المعتادين على لغة آراغون من الذين يطربون لاستخدامه البديع للأفعال والصفات، لن يفوتهم أن يستعيدوا ذلك كله هنا في هذا النص ولا سيما منه ما يتعلق بما يعلنه آراغون نفسه من علاقة لديه بين القراءة والكتابة اللتين ينظر الشاعر إليهما ومن دون لف ودوران بوصفهما متشابكتين إلى حد لا انفصام معه هو الذي كان دائماً ما يقول إنه في حقيقة أمره لا يكتب رواياته وإنما يقرأها. ولا سيما في واحد من أجمل نصوص كتابه الذي أصدره في عام 1969 بعنوان "أنا لم أتعلم الكتابة أبداً".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الابن سر أبيه

وبقي أخيراً أن نعود في هذه العجالة إلى شخصية تيليماخوس التي نزعم أن البطولة لها في "الأوذيسة"، وها هو ذا آراغون على خطى فنيلون يؤكد ذلك البعد مذكراً بكيف أن هوميروس نفسه سبقه في تأكيد ذلك من خلال عنونته الكتب الأربعة الأولى من "الأوذيسة" بـ"تليماخيا"، نعود إلى تلك الشخصية التي كثيراً ما يتم تجاهلها من قبل المتابعين المحترفين، إنما المهرولون، لحساب الأب الذي يبدو كلي الحضور حتى في غيابه، لنذكر بأن الفتى هو ابن يوليسيس من بينيلوبي وأن هذا الابن بعد أن تولى منتور صديق أبيه تربيته انطلق بعد نهاية الحروب الطروادية التي غيبت الأب عن ابنه وعن زوجته، انطلق باحثاً عنه حتى وجده في نهاية الأمر في إيثاكا متخفياً كمتسول. فتمكن الابن ليس فقط من تحقيق مسعاه لاستعادة أبيه، بل سيكون عونه الأول والأهم للتخلص من كل أولئك السادة الذين راحوا يخطبون ود بينيلوبي مشعرينها بأن غيبته الطويلة ستكون غيبة إلى الأبد، فما عليها الآن إلا أن تختار واحداً منهم ليكون بديلاً عنه، كما تقول الحكاية التي نعرفها. الحكاية التي سيقوم المئات من الروائيين والمسرحيين والموسيقيين والرسامين بإبداع أعداد مدهشة من التنويعات عليها، وصولاً إلى آراغون الذي حذا حذوهم ولكن بصورة شديدة الخصوصية كما كان دأبه دائماً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة