Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حداثة السرد الفلسطيني كما تتجلى في 4 روايات جديدة

القدس وحكاياتها وشخصيات من التاريخ  تلتقي مع أشخاص يعيشون اللحظة الحرجة

لوحة للرسام الفلسطيني نبيل عناني (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

القدس وحكاياتها وشخصيات من التاريخ  تلتقي مع أشخاص يعيشون اللحظة الحرجة

إذا كانت الرواية العربية قد أخذت تتجاوز مرحلة الرواد في خمسينيات القرن الماضي، فقد جاءت الرواية في فلسطين في صلب هذا التجاوز، ابتداءاً برواية "صراخ في ليل طويل"، والتي كتبها جبرا إبراهيم جبرا في القدس عام 1946، لكنها نشرت عام 1955. ولما أخذ جيل الستينيات من القرن العشرين، ينعطف بالرواية العربية ، كان في صدارة هذا الجيل من فلسطين غسان كنفاني (1936 – 1972) ابتداءاً بروايته "رجال في الشمس" – 1963، وإميل حبيبي (1921 – 1996)، ومعهما بالطبع جبرا. وسوف يتوالى حضور الروائيين والروائيات من فلسطين في خضمّ المشهد الروائي العربي منذ سبعينيات القرن الماضي: سحر خليفة ويحيى يخلف ورشاد أبو شاور وليانة بدر وحسن حميد وإبراهيم نصر الله، من دون أن ننسى التماعات توفيق فياض (المشوهون 1963) وسميح القاسم (إلى الجحيم أيها الليلك – 1978)... وبالوصول إلى ما مضى من هذا القرن، ازدان المشهد الروائي العربي بروايات فلسطينية جديدة لعاطف أبو سيف وأسامة العيسة وعلاء حليحل وحزامة حبايب وربعي المدهون ومحمود شقير وباسم خندقجي وسامية عيسى.... وفيما يلي إضاءة لبعض هذه الروايات.

"سماء القدس السابعة"

إذا كان لرواية أن توصف بالموسوعة السردية أو بالرواية الملحمية فلعل رواية أسامة العيسة "سماء القدس السابعة" – 2023، أن تكون الأَوْلَى بهذا الوصف، أو من الروايات الأَوْلَى به. وإذا كان حجمها الكبير (680 صفحة) يبعث الجفلة من الورم الروائي، فالمفارقة أن لهذه الرواية من الغواية ما لعله يجعل القراءة مشوقة وسلسة، بينما يأخذها طوفان الحكايات من التاريخ القديم والمعاصر لمدينة القدس بخاصة، ولفلسطين بعامة. وتندغم في التاريخ المرويات الشفهية واليوميات في الحاضر. وقد شيد الكاتب البناء الروائي لكل ذلك في ثلاثة أسفار/ أبواب. فالباب الأول هو "سفر الحياة" والثاني هو "سفر للحزن والحياة") والثالث هو "سفر للبقاء والحزن والحياة".

تتولى الشخصيات المحورية السرد، وفي مقدمتها الفتى ذو الكفل، وصديقته لور، ووالده يوسف سائق سيارة النقل الذي يتكشّف عن مثقف فدائي شيوعي، ومعه مريم التشادية الفدائية. ويفتتح الرواية السبع المطربل – أي العنّين – فتبدأ السردية الفلسطينية في صراعها مع السردية اليهودية المتلفعة بالصهيونية، وأنّى للمرء أن يلتقط أنفاسه: نساء مسلمات ومسيحيات يعتصمن صائمات ضد الاحتلال، الشيخ عبد رب النبي، العم سليم يمارس الوظيفة المتوارثة التي استنّها عمر بن الخطاب، فيفتح هذا المسلم باب الكنيسة للمسيحيين، حكايات الرحالة والحجّاج والعملاء والشيوخ والصوفيين والمغاربة والأفغان والروس والألمان والإنجليز و... وتصدح الرواية : "لكل محتل روايته عن القدس". إنها المدينة القدرية التي رام دوستويفسكي الرحيل إليها، وكانت قدس كزانتزاكيس ومارك توين وتلك السويدية سلمى لاغرلوف، أول روائية تحصل على نوبل، تأتي إلى القدس، وتعود بملحمة روائية في جزأين: ترى هل يضمر أسامة العيسة أن تستأنس روايته بهذه الرواية في حجمها الكبير؟

يمور عالم الرواية بالرهبان والكهّان والآثاريين والفنانين والفلاحين والأغنياء والساسة والسفهاء والفقهاء والمقاومين والتجار والعشاق والعاشقات و... وكل ذلك في الفضاء المقدسي والفلسطيني: الأديرة والكنائس والمساجد والأضرحة والأسواق والسراديب والقباب، وسور يعزل القدس القديمة عن القدس الجديدة، وسور دون بيت لحم، وأفق يترامى حتى البحر الميت. وتمد الرواية لسانها الجارح إلى ما تراه من سوءات اتفاقيات أوسلو والفساد في السلطة والفصائل.

"قناع بلون السماء"

هذه الرواية التي صدرت أيضاً في هذه السنة هي للشاعر والباحث الأسير باسم خندقجي. ويذهب فيها التجريب بعيداً، إذ بنيت على هيئة بطاقات صوتية مرقمة ومؤرخة، عنوانها هو "في سبيل الرواية". وهذا العنوان يؤشر إلى أن البطاقات، أي كل ما تتضمنه التسجيلات على الموبايل هو أفكار وملاحظات ومادة خام من الحكايات، فضلاً عن التصور الأولي للرواية، ولنقد هذا التصور، وبالتالي وضع تصور آخر. وعقب كل تصور كما في نهاية كل بطاقة، تأتي ملاحظة تتعلق بشخصية مراد الذي اختطف صيف 2011، وهو صنو الراوي نور الدين الشهدي الباحث في التاريخ والآثار، والمهتم بثورة باركوخبا التي وقعت بعد المسيح بمائة عام.

في هذا البناء الروائي كرواية داخل رواية، تكابد الشخصيات المحورية، بالإضافة إلى نور ومراد: والد نور الأسير المحرر والشيخ مرسي الغرناطي المتجذر في حارة السلسلة من القدس العتيقة. وثمة أيضاً سماء إسماعيل من حيفا، التي تشارك نور في التنقيب مع البلجيكيتين المثليتين إيميلي ونيكول. وقد عمل نور – ابن اللد – مرشداً سياحياً في القدس، ونادلاً مسائياً، ومع مراد في ورشة بناء في مستوطنة ريشون لتسيون. ومن حيفا اشترى معطفاً مستعملاً من البالة، فعثر فيه على بطاقة الإسرائيلي أور شابيرا. وسوف يفتح ذلك الرواية على مسألتها الروحية الفكرية الكبرى: العلاقة بين الفلسطيني والإسرائيلي، وهكذا نقرأ مخاطبة نور لأور: "أنا أنت.. أنا مرآتك". ونقرأ قول نور: "أنا الباطن وهو الظاهر"، وقوله: "أنا ولدت فيك من رحم صهيونيتك ومن النكبة التي ألحقتها أنت بي، وبالتالي أنا جزء منك وأنت جزء مني". والنكبة لنور هي النصب التذكاري للمحرقة.

يبحث نور في العلاقة بين المجدلية وبطرس – لنتذكّرْ هنا قولة ناتالي ساروت: الرواية بحث – فينفي أن يتصدى نصه لنقاش تاريخية المجدلية، بل إلى معالجة بيانات تاريخية ودينية خاصة بها، وإحالتها إلى نص روائي شيق ومثير. ويتساءل نور عما إن كانت المجدلية هي التلميذ المحبوب، وليس لعازر أو يوحنا بن زبدى، وهي التي تبعت المسيح من الجليل إلى القدس، وأخت لعازر التي سكبت طيب الناردين على قدمي يسوع، ومسح شعرها في بيت عنيا. ويتألق تسريد البحث في القسم الثالث والأخير من الرواية، مع الانتقال إلى كيوبتس مشمار هعيميق الاشتراكي، على أنقاض قرية أبو شوشة. وفي التنقيب يكتشف نور بئر مسك العطار، وهو بئر المجدلية. وتنتهي الرواية بمصارحة نور لسماء الباحثة الحيفاوية بأمره مع بطاقة أور، ومغادرتهما معسكر التنقيب، بالأحرى: نجاة نور من انكشاف أمره من جهة، وانكشاف أمر نور وسماء على أفق فلسطين.

"سبع رسائل إلى أم كلثوم"

يمضي علاء حليحل في روايته "سبع رسائل إلى أم كلثوم"  2023، بعائلة الحجّار مصطفى والمعلمة هاجر و ابناهما نور ويزن، إلى القرية التي يتردد عليها ثابت (شقيق هاجر) حاملاً إليها المجلات وكتاباً عن أم كلثوم، كما سيحمل إليها مصطفى ألبوماً بأغاني أم كلثوم، في محاولة لجبر ما تكسّر من علاقتهما، لكنها تجأر به: "مفكر تشتريني بأكم كاسيت؟" والحوار يأتي في الرواية بالعامية الفلسطينية.

هاجر المتقاعدة الخانعة التي ستنتفض أخيراً، مولعة بأغاني أمثولتها أم كلثوم. ولهاجر دفتر تكتب فيه يومياتها بلغة رفيعة. وتتألق الرواية في رسم يوميات الأسرة القروية وفي التأثيث الرهيف للبيت والقرية والمستوطنة المقابلة لها "كرميئيل" ولأغلب المشاهد. كما تتألق بتصوير مشاعر الطفل يزن نحو البيت والقرية. ويشكل ضرب المعلمة روز المبرح للتلميذ نور، وثأر هاجر لابنها من المعلمة، واحداً من المفاصل الحاسمة في الرواية، مثل مفصل عودة جمال من المهجر، وهو من تخلى عن هاجر وأورثها الجرح الذي لا يندمل. أما المفصل الثالث فيتعلق بالعامل في محجر مصطفى، وبمصطفى نفسه، حيث كان وجدي ينقل الحجر المكسّر سراً إلى شباب الانتفاضة (1987) في جنين. وسوف يلوي هذا الفعل بمصطفى عن سلبيته تجاه الانتفاضة، وهي السلبية التي تخرب أيضاً ما بينه وبين هاجر. لكن مصطفى سوف يشارك في تكسير الحجر والتسلل به ليلاً إلى جنين، بينما يعتقل الشاباك وجدي. وإذا كان مصطفى يضمر أن يستعيد هاجر بهذا الفعل، كما يستعيد نفسه فهاجر التي كانت قد بدأت تكتب الرسائل إلى أم كلثوم، وكانت قد برئت من الحب القديم لجمال، مضت قدماً إلى التحرر من مصطفى أيضاً فطلبت الطلاق، وعادت إلى التدريس. غير أن هاجر بدت أحياناً في الرواية تنوء بما تحمل من أعباء فكرية.

"الجنة المقفلة"

صدرت هذه الرواية لعاطف أبو سيف عام 2021. وترمح بين زمن النكبة في نصفها الأول وزمن سلطة أوسلو في نصفها الثاني، عبر أسرة مهجرة من يافا إلى غزة، ستتبدد لتبقى الأم والابن الأصغر عبد العزيز الملقب بكابوتشي تيمناً بالمطران كابوتشي، السوري الفلسطيني الشهير. وللأم حلمها الذي تعدّ فيه لاجتماع الأسرة مرة كل سنة، في الموعد الذي اجتمعت فيه آخر مرة: إنه "اللمة" باللسان الشعبي. وسوف يحافظ كابوتشي على هذه السُّنّة بعد موت أمه، فيفرش شرشف الطاولة الذي اشترته الأم من الجارة المصرية المتزوجة من فلسطيني، وينتظر أبناؤه ظهور أعمامهم، وتتكرر الخيبة. وقد توازى رمز "اللمة" الموجعة بمثيل له هو ذلك البحار الذي يجلس كل سنة في ذكرى خروجه من يافا، على الكرسي قبالة البحر في غزة، من الشروق إلى الغروب. ولم يبدل عادته خمسين سنة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ببلوغ الرواية زمن أوسلو ترمي السلطة برمياتها، مثلما تفعل الروايات السابقة، وهو ما عدّه فيصل دراج بلا معنى، وتراكماً كلامياً، وتجمّلاً أيديولوجيا، مثلما عدّ انعطافة الرواية في نصفها الثاني استطالة زائدة أربكت العمل الجميل.

كالعهد بالكاتب في رواياته تقوم يافا فردوساً مفقوداً بينما تقوم غزة فضاء حميماً، لكنه فضاء العذاب. وفي الخلاصة أن يافا كغزة وغزة كيافا، أي: فلسطين هي الجنة المقفلة، المغلقة، الممنوعة. وقد انتهت الرواية. بالقول: "كل له جنته المقفلة".

 تلك روايات أربع من أحدث ما صدر من الرواية الفلسطينية، وفي الجعبة سواها، مما يؤكد ما لهذه الرواية في المشهد الروائي العربي الثري الفوّار، بجمالياتها ونبضها الإنساني الحار المقاوم للوحش المسمّى: إسرائيل.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة