Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أسماؤهم على أياديهم... أطفال غزة في اختبار الموت والهوية

يخشى الأهالي ألا يتعرف عليهم أحد إذا قتلوا والأطباء: أحياناً تغيب الملامح أو تطير الرؤوس وتصل الأجساد أشلاء

بدأت ظاهرة كتابة الأسماء على الأجساد من مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا شمال غزة (اندبندنت عربية - مريم أبو دقة)

بين أصابعها أمسكت أميرة قلم حبر أزرق، ونادت بصوت عالٍ على ابنها البكر زين، وما إن دخل خيمة الإيواء التي تعيش فيها الأسرة حتى شمرت عن ذراعه اليسرى، وكتبت "الاسم: زين راشد مسعود، اسم الأم: أميرة، العمر: تسع سنوات، فصيلة الدم: o+، مكان السكن الأصلي: غزة".

دهش الطفل زين كثيراً، وحاول الاستفسار عن سبب ما فعلته أمه، لكنها رفضت أن توضح له أي شيء، وطلبت منه مغادرة الخيمة، ثم نادت على ابنتها هبة، وكتبت على ذراعها اليسرى البيانات نفسها، سوى أن الطفلة أصغر من أخيها بأربع سنوات.

دموع المصارحة

كررت الأم أميرة ذلك مع أصغر أطفالها فؤاد، الذي لم يبلغ السنوات الثلاث، ثم جمعت الأطفال وأخذت في مصارحتهم قائلة، "الموت في غزة لا يرحم أحداً، وبات قريباً منا جميعاً، كل يوم أقرأ أخباراً عن عدم تمكن العاملين الصحيين من معرفة أصحاب الجثامين التي تصل إليهم، وأخشى أن يحدث ذلك معنا".

تنهدت الأم أمام أطفالها مواصلة، "أطال الله في أعماركم، وأتمنى أن ننجو جميعاً من هذه الحرب، أرجو لكم حياة أفضل من هذه، لكن الحيطة واجبة. أرجوكم، لا أريد لأحد منكم أن يفهمني بصورة خاطئة، هذا إجراء احترازي فقط"، لم تستطع أميرة مواصلة حديثها، إذ سقطت دموعها وتحشرج الصوت.

وبعد أن تمالكت السيدة نفسها أكملت، "سأظل أحتضن فؤاد طوال الوقت حتى لا يضيع عنا، لا تخافوا، فأنا كتبت على جسدي البيانات نفسها، أم زين وهبة وفؤاد، وزوجة الضحية فارس، حتى يجمعونا مع بعضنا بعضاً، ولو كنا أشلاء".

كان حديث أميرة صادماً جداً لأطفال لم يتجاوز أكبرهم تسع سنوات. بكى الجميع حتى احتضنتهم الأم، وكررت، "أتمنى لكم النجاة، أتمنى لكم حياة أفضل".

ثم تماسكت وهي الضعيفة الحزينة، ومسحت دموعها بيديها، وأخذت تبحث عن قلمها الأزرق كأن شيئاً لم يحدث وخبأته في ملابسها، "هذا القلم كان زوجي يحبه كثيراً، وهو ما تبقى من أثره. لو عدت إلى بيتي بسلام سأحتفظ به في خزانة للأبد". وتضيف "رفضت أن يكتب أي أحد على أجساد أطفالي بياناتهم، وآثرت أن أفعل ذلك بنفسي، كان موقفاً صعباً للغاية، لكنه الوسيلة الوحيدة أمامي، إذا متنا جميعاً لن يعرفنا أحد في الجنوب، نحن نازحون وغرباء هنا".

أزرق كلون الخوف

هذا الحبر الأزرق هو بمثابة علامة صغيرة على الخوف الذي يشعر به الآباء من الغارات الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ 75 يوماً، والتي أودت بحياة قرابة 19 ألف ضحية، وصل عدد كبير منهم إلى المستشفيات أشلاء أو جثثاً متفحمة مجهولة الهوية.

ما فعلته أميرة تحول إلى ظاهرة مفزعة في قطاع غزة، وبات هو حال غالب الآباء والأمهات، ولم يقتصر على منطقة معينة، إذ لوحظ في شمال القطاع أيضاً أن عدداً من الآباء قرروا كتابة أسمائهم وأسماء أطفالهم على أياديهم حتى يسهل التعرف عليهم إذا سقطوا ضحايا.

يقول أكرم السبع، "كتبت مئات الأسماء على أجساد أطفال وكبار في مدينة غزة حتى يتسنى التعرف على جثثنا إذا قصفتنا طائرات إسرائيل، هناك حالات يصعب الوصول إلى ذويهم، ووجدنا هذا حلاً، لكنه صعب للغاية في تطبيقه".

ويسأل أكرم سؤاله المؤلم، "هل تخيلت يوماً أن يكون أكثر ما تخشاه هو أن لا يتم التعرف عليك في حال قتلت مع جميع أفراد أسرتك في قصف عنيف ضمن حرب مدمرة؟".

وبينما ينهمك في كتابة اسم الطفلة نهاد عبدالهادي على يدها الصغيرة يضيف، "لم يجد سكان غزة الذين ينتظرون الموت بين لحظة وأخرى سوى هذه الحيلة لمساعدة فرق الإنقاذ للتعرف على هوياتهم، وبخاصة الأطفال".

وبالفعل وصل عدد من الضحايا إلى مستشفى "الأقصى" في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة وهم يحملون أسماءهم مكتوبة باللغة العربية على أذرعهم، ومكن ذلك الأطباء من التعرف على جثامينهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نقش الهوية

يقول رئيس قسم الطوارئ بالمستشفى عبدالرحمن المصري، "تلقينا خلال الأيام الماضية بعض الحالات والجثامين، وكان مكتوباً عليها أسماء أصحابها على منطقة الساقين والبطن والذراعين". ويضيف، "شعرت بالصدمة عندما شاهدت أول حالة، ما يجري دليل واضح على أن سكان غزة يشعرون باحتمال حدوث مكروه لهم، وقد لا يتمكن أحد من التعرف عليهم، أعتقد أن هذا التصرف يوحي بأن الجميع يشعر بأنه في مرمى النيران".

ويوضح المصري، "ربما يكون حلاً، حيث يصل إلى المرافق الصحية أطفال ونساء غابت ملامحهم، ومنهم من وصلوا بلا رؤوس وبعضهم عبارة عن أشلاء ممزقة ومن المستحيل التعرف عليهم، فقط من خلال تلك الكتابة يمكننا معرفتهم".

بداية ظاهرة كتابة الأسماء على الأجساد كانت في مستشفى "كمال عدوان" في بيت لاهيا بشمال غزة. يقول مديره أحمد الكحلوت، "لعدم وجود أكفان نلف بها الجثامين، كنا نكتب اسم الضحية على ورقة ونلصقها على جسده، ثم وجدنا أن الورق يضيع، فأصبحنا نكتب أسماء الضحايا على أجسادهم، وشاهد بعض الأهالي الأطباء وهم يفعلون ذلك، ثم انتشرت الفكرة".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير