ملخص
عاش أكسندر فون هومبولدت طوال حياته العلمية مدافعاً عن فكرة أساسية كثيراً ما آمن بها، وهي أن كل شؤون الطبيعة لا بد أن تكون مترابطة فيما بينها.
منذ اللحظة التي تناهى فيها إلى نابليون بونابرت أن واحداً من كبار مساعديه شبهه باثنين يدعى كل منهما ألكسندر وتفرق بينهما قرون من الزمن طويلة جداً، استبد به الفضول لمعرفة من يكون ذاك الذي من بينهما يعاصره زمنياً إذ كان واثقاً من أن "شبيهه" الأقدم لا يمكن أن يكون سوى الإسكندر المقدوني.
لقد كان معروفاً مدى إعجاب القائد الكورسيكي الفرنسي بسيد غزاة الأزمنة القدية إلى حد سيره على خطاه خطوة خطوة، ولكن في المقابل لم يكن واضحاً له من هو ذلك الإسكندر الأكثر جدة والذي يمكن أن يضاهيه فضولاً وذكاءً.
وفي النهاية حين استوضح نابليون الأمر تبين له أن المقصود هذه المرة هو العالم والمفكر الألماني ألكسندر فون هومبولدت (1769 - 1859)، ومن هنا ما أن علم أن هذا الأخير لا ينفك يعلن عن إعجابه به وتوقه للقائه والتعرف به من كثب، حتى سارع آمراً باستدعائه للقاء بينهما، ودار مشهد اللقاء الأول، والذي ربما سيكون الأخير بين القائد الفرنسي والعالم الألماني.
فالرجلان اللذان ولدا أصلاً في العام نفسه التقيا في باريس التي كان فون هومبولدت يمر بها في طريق عودته إلى بلاده من جولة طويلة قام بها في عدد من بلدان أميركا اللاتينية، وهناك اكتشف أنه بات يعتبر منذ زمن أشهر رجل في أوروبا، وأن ذلك أثار فضول بونابرت فطلب لقاءه.
وخلال اللقاء سأله هذا الأخير بتبسط "فأنت تهتم إذاً بالنباتات؟!"، فأجابه العالم بتواضع بدا مفتعلاً، أنه يهتم بها بالفعل، فتنحنح القائد قائلاً على الفور، "وزوجتى تهتم بالنباتات أيضاً"، وهنا قبل أن يعلق العالم على كلام محدثه أردف هذا الأخير، موضحاً أن زوجته تسقي نباتات البيت بنفسها، ما كشف عن شعور الغيرة الذي غمره، وهو غير آبهٍ لكون فون هومبولدت عالم نباتات لا مجرد ربة منزل تسقي نباتاتها بنفسها.
مكانة العالم المنسي
قد تكون هذه الحكاية صحيحة، وقد لا تكون، لكنها تكشف بين أمور عديدة أخرى، منها المكانة العلمية والثقافية التي كان يحتلها ذلك العالم الذي لئن بات منسياً تماماً اليوم، فإنه كان في ذلك الحين ثاني أشهر رجل في العالم بعد نابليون.
والحقيقة أننا لكي نقول اليوم إن فون هومبولدت منسياً، يتعين علينا أن نتناسى قبل كل شيء آخر عدداً من الحقائق والوقائع التي من الصعب، بل المستحيل أن تسم أي شخص آخر في تاريخ أصحاب الأسماء الكبرى في المجالات كافة، وفي مقدمها ما تذكره الباحثة أندريا وولف التي أصدرت قبل سنوات كتاباً في سيرة هذا العالم أعادت له فيه اعتباره مذكرة الناس به بعد كل تلك العقود التي نسي فيها، بعنوان "إختراع الطبيعة: مغامرات ألكسندر فون هومبولدت".
في هذا الكتاب تذكر وولف بأن ثمة في العالم ومنذ أكثر من قرنين نحو 100 حيوان تسمى اسم هومبولدت بشكل أو بآخر، ومنها "فقمة هومبولدت"، ونحو 300 نوع من أنواع النباتات، وتيار ماء بحري بارد يسير صعداً بشكل موسمي على طول ساحل الشيلي، وإلى هذا تسمى اسمه متنزهات عديدة وحدائق نباتات وغابات وتلال ثلجية ناهيك بعدة مدن وبلدات في أميركا الشمالية.
هل ننسى بعد هذا كله أن ثمة بحراً على كوكب القمر سمي باسمه؟ فماذا إلى جانب هذا كله عن جامعة "هومبولدت" الشهيرة في مدينة برلين، صدقوا أو لا تصدقوا أن الناس حين يذكرونها يخيل إليهم أنها المؤسسة الضخمة التعليمية الوحيدة المسماة باسمه في أوروبا، وتحديداً في مسقط رأسه، ولكن هذا خطأ فهي في الحقيقة وكما تذكرنا المؤلفة مسماة على اسم أخيه العالم اللامع بدوره فلهلم لا على اسمه!
الرجل الأكبر منذ الطوفان
وكان يمكنها بحسب الملك البروسي فردريخ غيوم الرابع أن تحمل اسمه على اعتبار أنه "أكبر إنسان عاش على وجه الأرض منذ الطوفان"، وفي الأقل بالنسبة إلى إنجازاته العلمية التي تمكن من تحقيقها خلال حياته، ولا سيما في بلدان أميركا اللاتينية التي أقام في عدد منها نحو خمسة أعوام متتالية مكنته من أن "يكتشف" في فنزويلا وكوبا والمكسيك وكولومبيا والبيرو، نحو ألفي نوع غير معروف من النباتات في وقت لم تكن البشرية قد عرفت منذ الخليقة سوى ستة آلاف نوع، كما اكتشف ما سماه هو بـ"خط الاستواء المغناطيسي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان أول أوروبي يكتشف تلك القناة المائية البرية التي تصل بصورة طبيعية بين مجريي الماء العملاقين الأورينوك والأمازون، ولسوف يشتهر بأنه شرب من مياه تلك المجاري المائية المفتقر إلى أدنى الشروط الصحية وخرج من ذلك سالماً معافى، كما أنه سبح بين التماسيح والقاطورات والفهود وتجاوز الإسهال المتواصل الذي كان يصيبه يومياً وعاش في نوع من التآخي مع كل أنواع الحمى وعديد من الأمراض والأوبئة الأمازونية التي عجز عن إيجاد أسماء لها جميعها، فذكرها في أوراقه من دون أن يسميها.
معلومات موثوقة
وهذا كله تنقله مؤلفة الكتاب عن تلك الأوراق ليندر أن تشك في صحة أية معلومة من تلك المعلومات التي يذكرها، هي التي لم يفتها بين فصل وآخر أن تذكر أن الرجل كان من النزاهة والصراحة، بل حتى من التواضع مما جعله غير قادر على المبالغة أو الكذب حتى ولو أراد ذلك.
وولف تنتقل على أية حال لتذكر هنا أن فون هومبولدت عاش طوال حياته العلمية مدافعاً عن فكرة أساسية كثيراً ما آمن بها، وهي أن كل شؤون الطبيعة لا بد أن تكون مترابطة فيما بينها، و"هو انطلاقاً من تلك الفكرة سعى من خلال كل تراكماته المعرفية والفلسفية بالتالي، إلى البرهنة على العلاقات المعقدة التي يمكن بل لا بد في رأيه أن تكون قائمة بين الظواهر"، من ثم كان هو من اخترع مفهوم "الإيزوتيرم" أي الخط الحراري الجامع في سياق واحد بين مناطق عدة على الخريطة الواحدة.
وبحسب وولف فإنه "كان هو من تحدث بوضوح وللمرة الأولى بصورة علمية، عن الطريقة التي ترطب بها الغابات مناخ الأرض عبر بثها كميات من الأوكسجين"، وهنا لا تنسى أندريا وولف أن تخبرنا أن كل واحد من إنجازات ألكسندر فون هومبولدت التي تذكرها هنا، أحياناً باختصار، وحيناً بشيء من التفصيل، إنما تخفي وراءها المئات من المنجزات الأخرى التي ما كان يمكن أن يكون لها وجود من دون تلك الأسس التي حدد هذا العالم الفذ قواعدها، ولكن لماذا الاختصار؟
تلعثم رجل الصالونات
ببساطة لأن حياة فون هومبولدت على رغم شغلها المساحات الزمنية الأطول في مساره العلمي والفكري، اتسعت كذلك لتشمل نشاطات أخرى قد تبدو مفاجئة بالنسبة إلى رجل أنفق عمره كله على العلم، وخصوصاً على الجانب التجريبي منه، فهو كان رجل صالونات وسهرات اجتماعية من طراز رفيع جداً.
فعلى رغم إصابته بنوع من اللعثمة في الكلام، وما يرتبط بذلك من تدفق في الكلام نفسه يجعله غير مفهوم لمستمعيه إلا إذا كان من عارفيه والمدركين لطبيعة عمله، كان بالكاد يمضي أمسية من أمسياته وحيداً، بل إنه حين كان يزور باريس أو بروكسل أو لاهاي، كانت السهرات تقام والصالونات تفتح لاستقباله ويتدافع كبار القوم لمشاركته سهراته والإصغاء إليه، ويندفع هو إلى الكلام غير آبهٍ بأن يتبدى ما يقوله مفهوماً. وبعد هذا تبقى هنا الأعجوبة الأخيرة، أنه في خضم ذلك كله كتب ألكسندر فون هومبولدت في حياته عدة مئات من ألوف الصفحات وهي كتابات قد تكون كنوزاً علمية ومعرفية، لكن المؤسف أن جمعها في مجلدات يبدو اليوم مهمة بالغة الصعوبة وبأكثر من تلك التي عاناها هو نفسه حين حاول وهو في الإكوادور أن يتسلق قمة شيمبورازو التي كانت تعد حينذاك أعلى قمة في العالم، وما إن بلغ ارتفاعاً يصل إلى 6000 متر حتى توقف معلناً عجزه عن الارتفاع أكثر من ذلك.
وربما كان ذلك الفشل الكبير الوحيد في حياته، كما يفيدنا الكاتب ميشال أندريه الذي نقلنا عنه أجزاء من كلامنا هنا، والذي كتبه لمناسبة صدور كتاب زميلته أندريا وولف.