Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شخصيات أريج جمال تعاني أعطاب الحياة في المدينة

قصص "الليلة الأولى من دونك" تدور حول الفقدان والشعور بالغربة

شخصيات في لوحة للرسام المصري عمر النجدي (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

قصص "الليلة الأولى من دونك" تدور حول الفقدان والشعور بالغربة

تتناول المجموعة القصصية "الليلة الأولى من دونك" (دار العين) للكاتبة أريج جمال علاقات صداقة مرفوضة، ومن ثم فإن ظهورها للعلن، يعرض أطرافها للنبذ والاحتقار، وربما القتل. تدور أحداث معظم القصص العشر التي تضمها المجموعة في القاهرة، تلك المدينة التي تشعر الشخصيات التي تتولى السرد، وكلها من النساء، بغربة شديدة إزاءها. ويهيمن ضمير المتكلم على السرد، باستثناء قصة واحدة، يتم سردها بضمير الغائب، مما يعكس هيمنة الذاتي على ما عداه. ومن هنا يرجح أن المخاطَب في عنوان المجموعة أنثى، مع العلم أنه لا توجد في المجموعة قصة تحمل ذلك العنوان، لكن القصة الأخيرة وعنوانها "آلين" ترد فيها هذه العبارة ضمن اقتباس من قصة للطيب صالح، يتوجه فيها الخطاب إلى امرأة يعاني الراوي من جراء غيابها.

ويلاحظ أن قصص مجموعة "الليلة الأولى من دونك" تعبر عن حالات فقدان من جراء علاقات صداقة محبطة، في سياق تهيمن عليه قيم ذكورية، وتنشد في الوقت ذاته "قيمة مطلقة للحب بلا تمييز"، بتعبير بطلة قصة "الأخوية"، وهي حركة ترفع لافتة: "لا يمكنك أن تمنع الحب"، لكنها سرعان ما تصطدم بمجتمع يرفض تماماً أن تكون جزءاً منه. وقصص المجموعة هي عن "الصداقة"، خصوصاً عندما يكون طرفاها امرأتين، وتُذكِر من هذه الزاوية بأجواء رواية كاتبتها أريج جمال، الصادرة عام 2019 تحت عنوان "أنا أروى يا مريم". في كل قصة هناك امرأة في مقتبل العمر تتسم بدرجة عالية من الوعي، بقيم احترام خصوصية المرأة وحريتها في اختيار شريكها. وهنا تكمن أزمتها المتمثلة في النظر إليها بوصفها "بطة سوداء"، بما أنها تصر على الاختلاف وتبحث دائماً عن "جانب بريء للعالم"، ربما لا يكون هناك سبيل أصلاً لبلوغه، خصوصاً في ظل طغيان الجوانب المادية على العلاقات الإنسانية، ومن ثم انهزام العواطف الجيّاشة، مع أول مواجهة مع لا مثالية العالَم الواقعي، وحتى الافتراضي.

طابع المونولوغ

القصة الأولى عنوانها "المدينة الداخلية"، وهي عبارة عن مونولوغ طويل، تحكي فيه بطلتها عن اضطرارها للذهاب إلى مركز طبي "يرتاده مَن يعانون الآثار الجانبية للحياة في المدينة"، وبعدما تسلَّمت صورة ضوئية لفحص لعمودها الفقري، قررت وهي تتأملها في "ركن قصي"، أن "المدينة لم تعد أليفة كما عاينتُها من قبل" صـ 21. والمدينة المقصودة هنا هي ليست سوى ذات الساردة التي يشير إليها عنوان القصة باعتبارها "مدينة داخلية". وهي على أية حال مدينة افتراضية لكنها "بدأ يتوافد عليها أناس كنتُ أعرفهم، نساءٌ هجرتُهن في العالم الحقيقي، بلا أعذار ولا شعور بالندم، كما تفعل عادة النساءُ مع النساء". وهنا تستدعي الساردة أسطورة "سنو وايت"، وهي عائدة من المركز الطبي إلى بيتها وترى نفسها في شخصيتيها الطيبة والشريرة، لكن مع ذلك ينتابها شعور عابر بالاطمئنان، "عابر لكنه يكفيني" ص 26. ويغلب طابع المونولوغ أيضاً على قصة "لون المحيط الأزرق"، إذ تتحدث الساردة عن "مفكرة خضراء، تحمل جنين قصتي الأولى، ولذلك هي أثمن ما أملك". وترى نفسها مع أناس لا تعرفهم في باص يقلهم إلى شاطئ، يفترض أن تنتظرهم عنده سفينة لتنقلهم سراً إلى بلد ما.

خلال الرحلة يشد انتباهها كاتبٌ "شهير" معه زوجته وتدرك أنه قرر في تلك الأثناء أن يهجرها؛ غير عابئ بالظروف الصعبة التي يمران بها. ثم تعود للقصة التي ستكتبها في مفكرتها الخضراء وتفكر في أن تبدأها بعبارة تبوح فيها بما أحسَّته ساعتها: "لقد تمنيتُ لو كانت هذه السيدة زوجتي". وهنا يحضر استدعاء لأسطورة "آليس في بلاد العجائب"، إذ تلاحظ الساردة أنها كانت "مسحورة مثل آليس"، "ومثلها كانت عيناي تلمعان" ص 32. وقبل الختام بقليل نعرف أن الساردة ميتة أصلاً، وأنها تحكي من العالم الآخر ما سبق واقعة غرقها مع رفاق هجرة غير شرعية، ملاحظة أنه قد تمّ دفنهم؛ "بين المد والجزر عبر تنظيم دقيق، ما بدا لي عملاً أوركسترالياً كبيراً" ص 34.

أفكار تحررية

في قصة "وسط البلد"، تقول الساردة إنها تراقب وسط القاهرة بلا عداءات ولا انتقادات ولا أمنيات بالتغيير، وتعيش العالَم كما هو ولا تفكر في أن تثور، طالما أنها في الساعات التي تسبق ذهابها إلى بيت صديقتها الفرنسية. الساردة التي تتعلم الفرنسية، شغوفة بالقراءة من شاشة صغيرة تحملها معها أينما ذهبت، فيما صديقتها "سوزانا" معلمة اللغة الفرنسية، "تحب ملمس الأوراق القديمة ورائحتها"، وتحب كتابة قصص الأطفال أو المراهقين؛ على غرار سلسلة "نيكولا الصغير"، التي تصور نسخة مثالية من الطفولة في فرنسا في خمسينيات القرن العشرين. أما البطلة، فسبق لها العمل صحافية، وهي في زمن القصة عاطلة، على طريقة الرسام الفرنسي هنري روسو (1884- 1910)، الذي يتكرر ذكره على لسان "سوزانا"؛ "إلى الحد الذي يدفعني أحيانا للغرام به"، بتعبير الساردة. وهو كان بلا مورد رزق لعدم قدرته على التكيف مع اشتراطات الرأسمالية. تتأذى بطلة القصة كما تقول لنفسها من "عيون الرجال المثبتة على صدور النساء، كأنها تأخذ صورة فوتوغرافية للذكرى". بعد لمسة تلقتها من صديقتها الفرنسية وجدت نفسها تسير في وسط البلد غير عابئة بما تراه: "صرتُ شفافة كأن سيْري بين عوادم سيارات القاهرة واستماعي إلى الشتائم القبيحة شكلٌ من أشكال التأمل البوذي، تمرين على الارتقاء" ص46.

أما بطلة قصة "أطول نظرة ممكنة"، فهي كاتبة منقطعة عن الكتابة، تتردد على بار "في حالة تغري المثقفين من متوسطي الحال بالمجيء إليه وقضاء بعض الأمسيات". تحكي لقارئ ربما يتعاطف مع استيائها من ذكورية المجتمع: "رفاقي الرجال هم الذين دعوني إلى هنا، برغم أني قد حاولتُ أن أتجاهل حقيقة أنهم رجال، كما أحاول دائما تجاهلها في المواقف المشابهة. إذا عدتُ إلى بيتي متأخرة في الليل ومررتُ على المقاهي التي في كل مكان ومحجوزة فقط لجلسات الرجال" ص 56. وهي بسبب ذلك ترى أن القاهرة "مدينة غير ودودة"، حتى أنها كثيراً ما كانت تفضل المكوث في البيت، "وتوفير القلق الذي يصيبني من المرور بين الرجال". ذهبتْ إلى البار هرباً من نهاية قصة حب فاشلة، وهناك تستعيد مقولة الناشطة النسوية أروى صالح: "حين يعجز المرء عن فهم العالم، يحاكمه"، إلا أنها لا تريد أن تفعل ذلك. ثم يرد على بالها وهي جالسة في البار مقولة أنسي الحاج: "وتستحقين أن يضرم حبيبُك النار في جسده"، معتبرة أنه كان يعرف ألا بديل عن الاشتعال لاستمرار الحياة. وهنا تذكرت كذلك قول المناضل فرانز فانون في "المعذبون في الأرض" إن "الحب غير منصف... نحن مضطهدون في الحب معذبون منتهكون"، وبلغت ذروة التألم وهي تتذكر مقولة كاتب ذكوري: "إن النساء لا يجدن الكتابة"، وهنا وقعت عيناها على امرأة في البار، وتبادلت معها "أطول نظرة ممكنة"، لتجد نفسها راغبة في الوقوع في الحب مجدداً، "مهما كان الثمن".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي قصة "زهرة القطن" يعتمد السرد آلية التذكر، بصوت مراهقة في الصف الأول الثانوي، تطلب من والديها أن يشتريا لها زهرة القطن، حتى بعدما أخبرها البائع أنها من الزهور الهشّة؛ "التي تحتاج إلى الرعاية المتواصلة والصبر، فأبسط إهمال سوف يحكم عليها بالموت". أسرة الساردة تعيش في مصر اضطراراً لاضطراب الأوضاع في بلدها الأصلي. تصادق البنت الخاضعة لتربية صارمة، زميلة لها في المدرسة تهوى العزف على البيانو. كانت قد انتبهت إلى قصص الصداقات بين الفتيات في برامج "سبيستون"، قبل أن تتطور الأمور وتقول لزميلتها: "أنا بحبك". تفكر الساردة وهي تستدعي تلك الأحداث من ذاكرتها بعدما تخطت مرحلة المراهقة، وتقول وكأنها تتحدث عن شخص آخر: "ربما كانت تريد أن تفلت من تعلقها المبالغ فيه بالدراسة، ومن خضوعها لقوانين أمها"، لكن هذه التجربة جعلتها تعرف أهمية أن يكون للمرء أصدقاء يتشارك معهم أفكاراً سرية.

ضمير الغائب

وتعتبر قصة "ذكرى التلميذ النجيب" الوحيدة في المجموعة التي يتم سردها بضمير الغائب، وتتولى السرد فيها امرأة تتذكر تلميذاً كان يعاني من التنمر لأن له "رأساً كبيرة"، ولأنه كان يعاني من صعوبة في التحصيل الدراسي، إلى أن ضاقت به معلمته وقالت له: "أنت متخلف عقلياً". الساردة هي ابنة تلك المعلمة وهذا جعلها تحضر تلك الواقعة التي لم تتمكن أبداً من نسيانها ومن ثم فإنها تعاني من الشعور بالندم لأنها لم تبادر إلى تعزية ذلك الصبي الذي غادر المكان ولم يعد إليه ثانية، رداً على إهانة معلمته، وربما وصفته الساردة لذلك بالنجيب.  

في قصة "الأخوية"، يعود السرد بضمير المتكلم، عن شخصٍ "له وجهان"، أحدهما لذكر يدعى "عصام"، والآخر لأنثى باسم "ملَك"، يتقدم للسفارة الأميركية بطلب اللجوء الإنساني، بما أنه يتعرض بسبب طبيعته الملتبسة للتنمر الذي يصل أحيانا إلى درجة تهديده بالقتل. تتعرف عليه الساردة التي تعمل محررة كتب، وتنشأ بينهما صداقة، وتساعده على تجاوز تبعات انهيار صداقته بشخص كان يرفض أن يظهر معه في الأماكن العامة. تساعده على تكوين "أخوية" تقوم على الإيمان بـ "القيمة المطلقة للحب بلا تمييز". فشلت الأخوية وقرأت الساردة بعد ان انقطعت صلتها بعصام كل ما أمكنها قراءته عن نينا سيمون، لتضع سيرتها في كتاب يبرز معاناتها هي وعائلتها من التمييز العنصري. عاد "عصام" ليتواصل معها ولكن بعد أن باتت غير متحمسة لإنقاذ العالم، وبعد أن بات خو حطاماً. وفي الأخير ذهبت إليه لتشهد حادث انتحاره وسط أعضاء "الأخوية" التي لم يقدر لها النجاح، في مجتمع يرفض بشكل مطلق السماح لأفكارها بأن ترى النور.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة