Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المدينة والعنف وسياسة المعنى

 مطلوب من الذات المدركة أن تتدرب على أن تطور الأدوات أو الأشكال التي يتم بها التعبير عن الغضب

اعتبر مراقبون أن أعمال العنف التي شهدتها فرنسا هذا الأسبوع يجب النظر إليها من منظور الانتفاضة وليس أعمال الشغب (أ ف ب)

ملخص

تشير رؤى علماء الاجتماع إلى أن أسلوب العنف والتدمير نوع من أنواع التعبير التي تقول الكثير أو تشي به في الأقل

تطرح قضايا الشغب والعنف داخل الإطار الحضري للمدن تساؤلات حول جدوى مشاريع ما بعد الحداثة، تلك المتعلقة بنسيج المدينة ودورها على مستويات تحقيق فرص العيش المتكافئ وإزالة المسافات الفاصلة بين البشر بناءً على أي أطر تمييزية كالعرق واللون والدين، إذ يمكننا أيضاً أن نفكر في المدن ليس كبنى قائمة على التوصيفات التي تحدد بالبنايات أو الشوارع من حيث أبعادها العمرانية، أو حتى تقنيات الذكاء الاصطناعي الجديدة، فالموضوع أكثر تعقيداً، ساعة يقودنا إلى المساحة النفسية الضرورية والملهمة التي ترتبط بما وراء فكر التسييس في المدينة، بوصفها فضاءً فاعلاً للتعايش والتثاقف الإنساني وجدارة فكر العيش في حد ذاتها.
إذا كان الناس في قديم الزمان يعيشون في أماكن ذات إطار ثقافي وتقاليد واحدة ومتصلة عبر السنين الطويلة، بل القرون، فإن بنية المكان الحديث باتت معقدة، ممثلة بالحواضر والمدن الكوزموبوليتية كباريس ولندن ونيويورك، وغيرها، تلك تتقاطع فيها حضارات وثقافات وأعراق، مستندة إلى فكرة التنوع البنائي والهيكلي في رفد مشروعات الثقافة والفنون والتطور التقني، وتحريك الحياة الإنسانية نحو دافعية البقاء في حد ذاتها.
هذا التنوع الثري والإيجابي قد يقود إلى إشكاليات في بعده الآخر عندما ينتج الخلل السياسي للمدينة، أي إدارة الفرص والموارد والعقد الاجتماعي داخل هذا الفضاء المعقد، ليكون ثمة تساؤل حول ما الذي يمكن أن يفسر بشكل منضبط ومنهجي أدوار البشر ويحركها باتجاه الإنتاجية والفاعلية على المستويات كافة، أي يصبح الإنسان الحر مرجعية في العطاء والحرية والنمو المجتمعي المثمر، بدلاً من أن يكون أداة للهدم والإزالة، والجريمة بشكل عام، وهو ما يحول الفعل الإنساني إلى اللاإنسانية، بالتالي سنكون أمام الشرخ الذي يتطلب التأويل والتفكر في أسبابه ومقتضياته بوعي جديد يستحضر معطيات عالم جديد يقوم على قيم مختلفة عن الأمس في إدراك دور الإنسان في العالم.


سياسة المعنى

بالتالي، فإن سياسة المدينة قد تعني بشكل مباشر سياسة المعنى داخل هذا الفراغ أو المكان الذي من المفترض أن يشكل مساحة للحضور الحقيقي للكائن، وخلق التشابكات التي تقود إلى التفاعلية وتوليد السياقات التي تصنع الحضور وتبدع ماهية الذات.
اهتمت أفكار ما بعد الحداثة بالمعنى بطريقة عملت على تشظية القيم الحداثية، بحيث لم يعد ثمة مركز للأفكار أو القيم أو الأشياء، بالتالي فإن البحث داخل فضاء المدينة، بناءً على هذا الوعي، لن يكون قائماً على الوعي الخطي، المتوارث، لأنه ليس في المدن الآن من مراكز ولا نقاط قوة مطلقة، فالمركز متحرك، وليس بالضرورة محكوماً بالثروة أو السلطة أو يصنف بناءً على الإطار الطبقي التقليدي كالعرق و"الكاست" الاجتماعي، هذا يعني اختلال معنى المدينة الحداثي، بل تفكيكه، بحيث يتم الحديث عن غياب مستوى وعي الذات القديم، حيث يكون للألفة والسكون أن تقترن بذاكرة روتينية حول المكان أو الإحساس به كما في الأرياف أو الحواضر في صورها الأولية.
كما أنه من المبالغة في قراءة العنف أو أي من صور التشرد الذاتي أو الرغبة في استخدام الوسائل الطاردة للإحساس بالأمان أن يتم ربطها فقط بمجرد القراءة التي تفيد بأن المدينة هي تركيب اقتصادي، تحديداً ذات علاقة متصلة خطياً بالليبرالية والرأسمالية الحديثة، وهو ما يتم التحذير منه في الفكر الـ"ما بعد حداثي"، أن يتم تفسير المشكلات الكبرى داخل المدن أو إدارتها بناءً على المعطى الاقتصادي أو المادي فحسب.

بنية بأكثر من اتجاه

إن التقسيم الذي يحيل المدن إلى أحياء مناطقية بناءً على التصور العرقي أو الطبقي أو المستوى الاقتصادي قد يكون ناجحاً في فهم طبيعة العنف، لكنه لا يقدم الإجابات النهائية حول الأسباب التي هي أبعد تعقيداً، لأن بنية الاختلاف والتعنيف والتهميش لم تعد ذات صلة تقوم على اتجاه واحد بهذه المعاني القديمة، من مسائل التفاوت، بل هي أعمق من ذلك في قيامها على مرتكزات جديدة، طابعها يستحضر ماضي الإنسان وذاكرته، أي نظام الذاكرة داخل المجتمع المعين، أو الحي المفترض، الذي مهما بلغت درجة التحديث فيه ونسقته وفق المعايير الحداثية، يظل يمارس الهرب إلى الأمس، بحيث يعمل على فهم العالم كما لو أنه يعيش في بيئة مختلفة عن تلك التي يقطنها، فيما يمكن أن يصطلح عليه باختلاق متخيل عن المكان، حيث ينتج صراع بين قيم المكان المتخيل والمكان الحقيقي، وهي مشكلة طالما يعانيها المهاجرون كما في البلدان الأوروبية.
لهذا، فإن العنف هنا لا ينطلق بناءً على التصور "الصحيح/ واقع المكان"، بل بناءً على مخيلتنا عنه، هذا الشرخ الذي يقود في النهاية إلى الاحتكاك بسلطة المكان "الحقيقي" بمواجهة مدمرة بدلاً من إنتاج خلاق أو عمل دافع يقود إلى الاندماج والعطاء واقتناص الفرص الأفضل، ولعل التحليل هنا بناءً على مناهج جديدة سيعيد الكرة إلى دائرة الوعي والفكر، وإعادة تعريف المكان في حد ذاته كما فعل غاستون باشلار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غالباً ما يقوم صناع السياسة والاقتصاديون بتسطيح المشكلات أحياناً بالنظر إليها وفق قدرات المادة، أو الأرقام وفكر "الداتا" الذي يسعى لتحويل الناس إلى مجرد حسابات رقمية، لهذا فإن نظريات عدة تخفق هنا في اكتشاف مكامن الخلل، إذ إنها تنسى الأساس المركزي في أن الإنسان هو بناء نفسي وطبقات ثقافية قبل أن يكون مستعداً للتقاطع مع المسألة الرقمية. فالتربية والقيم الأخلاقية، هي نسيج معقد له قاعدته التي تؤسس داخل البيت أو الحي، وتنعكس على مجمل الفضاء المديني. وكما وصف المفكر الشيوعي الفرنسي فيليب ريو رئيس بلدية غرينيي، المسألة، "يمكن إعداد كثير من وثائق إكسيل (Excel)، لكن ذلك لا يشكل سياسة عامة"، إذ يذهب إلى ما وراء ذلك من سياسة شاملة تربط النسيج التربوي بالعمل والثقافة والتدريب والرياضة والعدل والصحة.
هنا سيثار المعنى حول فكر التحديث، وما بعده في إدارة المدينة وإبعاد الجريمة والعنف، لنصل إلى نتيجة أن الانتقال لا يحدث تلقائياً، إذ يمكن أن نحصل على نقلة في البنى الشكلية للوقائع، لكن المسائل التحتية والعميقة التي تدور في فضاء المعنى، تظل مغلفة باللامرئي والغائب، وهو ما يرتبط بما وراء هياكل الثقافة المعلنة والرسمية، أو المنطوق به من قيم أو جماليات مدعاة، في ما يقود إلى المسافة الفاصلة بين الجوهر والشكل، الحقيقي والزائف.

الجوهر والشكل

في شكل مبسط عبر لاعب الكرة الفرنسي كيليان مبابي عن هذا المعنى وهو يغرد بعد الأحداث الأخيرة بأنه "منذ هذا الحدث المأسوي نشهد تعبيراً عن الغضب الشعبي الذي نفهم جوهره، لكن لا يمكننا تأييد شكله"، إذ ينتبه هنا إلى أن جوهر الغضب لا يعني بأية حال مبرراً لفعل العنف، إذ مطلوب من الذات المدركة أن تتدرب على أن تطور الأدوات أو الأشكال التي يتم بها التعبير عن الغضب أو أي من مشاعر الألم والحزن وغيرها، بيد أن رؤى علماء الاجتماع تشير إلى أن أسلوب العنف والتدمير هو نوع من أنواع التعبير التي تقول الكثير أو تشي به في الأقل، فالهجوم على المدارس مثلاً يعني رفض هذا النظام أو القول إنه لا يقدم شيئاً لمن يقوم بهذا الفعل في الأحداث الراهنة في باريس. ووفق تعبير ستيفاني فيرميرش أستاذة علم الاجتماع ومديرة الأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي أنه عندما يهاجم هؤلاء الشبان المدارس فهم يريدون من خلف ذلك أن يقولوا إن هذه المؤسسة "لا تقوم بدورها".

يقول مبابي وهو يقف ضد فعل التدمير "العنف لا يحل شيئاً، حتى عندما ينقلب بلا كلل ضد أولئك الذين يعبرون عنه وعائلاتهم وأحبائهم وجيرانهم... إنها ممتلكاتك التي تدمرها، وأحياؤك ومدنك"، لكن ثمة رأياً مغايراً بأن الإحساس بهذه الملكية غير قائم، وأن منظور الشغب في حد ذاته قاصر عن تفسير ما يحدث، كما رأى أستاذ علم الاجتماع في جامعة رين (غرب) سامي زغناني في تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية، "إن أعمال العنف التي شهدتها فرنسا هذا الأسبوع يجب النظر إليها من منظور الانتفاضة وليس أعمال الشغب"، مضيفاً أن "مصطلح (أعمال شغب) يقلص هذا العنف إلى جنوح حضري بسيط في حين أنه ينطوي على بعد سياسي لا يمكن إنكاره" في سياق الفروق الاجتماعية المتزايدة في البلاد.

مفاهيم والتباسات

ويحيل مجمل ذلك إلى أن مفاهيم العنف والشغب والجريمة وغيرها يمكن أن تدخل في دوائر الالتباس في ظل القراءات الأكثر حداثة في الإطار السوسيولوجي، فهي قد تكون رد فعل، لكن تحليلها البعيد أكبر من ذلك، يتحرر من الارتداد إلى القول والحكم على العالم، بل معناه، ليكون السؤال المحوري والمقلق، هل يعرف ممارس فعل العنف أو الغضب، أنه يتحرك وفق هواه الذي ينسجه وعيه أم أنه نتيجة سياقات أكثر تشابكاً ليست واضحة بالنسبة له؟ وربما كانت هذه هي الصورة الأوضح، التي يحاول علماء الاجتماع والفلاسفة فك لغزها.
يبقى في الخلاصة أننا أمام فضاء لا يعنى بالمكان الأفقي ولا الرأسي، بالبنايات أو الأنظمة، بل بالمسافات الثقافية والفعل الما بعد حداثي المعقد الذي يجعل الإنسان ابن التشابك والمعنى المتشظي.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل