ملخص
هل يعري الصراع الحالي بين إسرائيل وغزة حقيقة ضعف بوتين على الساحة الدولية؟
لعل مبعث القلق الحتمي هو أن يستغل فلاديمير بوتين الصراع بين إسرائيل وغزة لصرف انتباه الغرب عن أوكرانيا وإضعاف التزامه بدعم كييف. ومع ذلك، في حين أن موسكو تفعل بالتأكيد ما في وسعها لاستغلال هذه الأزمة، فإنها تسلط الضوء أيضاً على ضعف موقف روسيا في الأساس.
لا شك أن بوتين يبدو في موقف ممتاز، فقد استقبل بحفاوة كضيف شرف في قمة الحزام والطريق الصينية في بكين وعقد اجتماعاً شخصياً مع شي جينبينغ. حتى عندما انسحب المندوبون الأوروبيون لما حان دوره في الكلام، فقد ظل في وسعه التحدث عن التعاون مع فيكتور أوربان من المجر، رئيس وزراء إحدى دول الناتو والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. ويبدو أن كل هذا يصب في صالح مزاعمه بأن روسيا ليست دولة آفلة تعيش عهد ما بعد الإمبراطورية، ولكنها لاعب عالمي جاد يقدم بديلاً لنظام عالمي مهيمن تديره "النخب العالمية الغربية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الوقت نفسه يركز الغرب الآن على غزة، على رغم أن غالبية مشاعر الغضب من التكتيكات الإرهابية القاتلة التي استخدمتها "حماس" تصطدم مع أقلية صاخبة، ولكن متحمسة بحجة أن إسرائيل تحصد ثمار سياساتها في الاحتلال.
وعلى رغم الادعاءات التي لا مفر منها بأن موسكو لعبت دوراً ما في هجوم "حماس"، لم يظهر أي دليل، وحتى أجهزة الاستخبارات الغربية تقلل من أهمية هذا الاحتمال. تنهد أحد محللي الاستخبارات البريطانية بعمق عندما سئل عن هذا: "ليس كل شيء على علاقة بالروس، لقد رتب هذا إلى حد كبير في غزة... وطهران".
بعد بضعة أيام من الارتباك، يبذل الكرملين قصارى جهده لاستخدام الظرف كفرصة لتكتيكاته المعتادة المتمثلة في بث الانقسام والتضليل. وتبذل منابر المعلومات المضللة التابعة له ما في وسعها لتفتيت الرأي العام الغربي، والدفع بالسرديات المتطرفة من كلا الجانبين، بينما يروجون في دول الجنوب العالمي بلا استحياء فكرة أن ما يجري مجرد تعبير آخر عن الاستعمار الغربي الجديد.
كل هذا يبدو مربحاً بالنسبة إلى الروس، بخاصة إذا انجرفت إسرائيل إلى حرب طويلة ودموية في غزة من شأنها ليس أن تشتت الرأي الغربي فحسب، بل إن تحول الموارد أيضاً. في وقت ندرة الذخيرة، فإن كل منصة من قذائف المدفعية الموجهة إلى إسرائيل لن تذهب إلى أوكرانيا.
ومع ذلك، فإن المحللين الروس الأكثر تفكيراً وحتى صانعي السياسات ليسوا متفائلين للغاية. وتسلط الأزمة الضوء أيضاً على مدى كون روسيا في أحسن الأحوال مفسدة على الساحة الدولية. لقد استفادت أكثر عندما كان الشرق الأوسط في حالة من الفوضى المستمرة والشك المتبادل ولكن المنخفضي المستوى. يمكن أن تنمي علاقتها بإسرائيل (خصوصاً بفضل علاقة بوتين الوثيقة مع بنيامين نتنياهو)، وتمنعها من تزويد أوكرانيا بالأسلحة، وكذلك الأمر مع الفلسطينيين (بما في ذلك حماس). لقد دعمت نظام الأسد في سوريا، بينما تعاونت أيضاً مع أحد أعدائه الرئيسين، السعودية. كانت إيران منافسة إقليمية، ولكنها كانت أيضاً حليفة في سوريا وعضواً زميلاً في النادي "الخاضع للعقوبات من قبل الأميركيين"، وهي على استعداد لبيع الأسلحة لروسيا وتوفير المعرفة التي تتخطى العقوبات.
كانت إدارة كل هذه العلاقات إنجازاً معقداً يعتمد على قدرة موسكو على الحياد، ليس إزاء جبهة واحدة، ولكن إزاء عديد من الجبهات. إلا أن هذه الأزمة تجبر روسيا المترددة على الانحياز إلى جانب ما، وبينما حاول بوتين الجمع بين اللغة التصالحية تجاه كل من إسرائيل والفلسطينيين مع محاولة متوقعة لإلقاء اللوم على الأميركيين، لم يكن هذا نهجاً يمكنه التمسك به لفترة طويلة، إذ لا يمكنه تحمل كلفة العداء تجاه إيران أو المملكة العربية السعودية، من ثم فإن علاقته مع إسرائيل تتدهور بسرعة.
قبل كل شيء، الواضح هو مدى ضآلة القدرات الحقيقية لبوتين في مثل هذه الظروف. ليست لديه خيارات موثوقة لاستعراض القوة (فبينما ترسل أميركا إحدى مجموعاتها القتالية من حاملات الطائرات، لا تزال حاملة الطائرات الروسية الوحيدة قيد التجديد)، ولا توجد أسلحة احتياطية لإرسالها، ولا نفوذ سياسياً حقيقياً. في نهاية المطاف، ليس لدى بوتين حلفاء حقيقيون، فقط حفنة من العملاء مثل سوريا، ومجموعة من الشركاء البراغماتيين الذين يسعدهم فقط العمل معه عندما يكون ذلك في مصلحتهم. قد يشيد الرئيس الصيني شي "بصداقته الشخصية القوية" مع بوتين، لكن هذا لا يمنعه من إجبار الروس على بيعه النفط والغاز بسعر مخفض للغاية. وبالمثل، فإن إيران سعيدة ببيع طائرات الدرونز والصواريخ، ليس فقط من أجل المال ولكن أيضاً للحصول على طائرات "Su -35" الأكثر تقدماً التي لم تكن موسكو ترغب في بيعها في الأصل.
وكما أشار أحد الدبلوماسيين الأميركيين، "تأتي القوة الحقيقية من القدرة على توفير الحلول، أصبح من الواضح أن كل ما يمكن أن يفعله بوتين هو توليد المشكلات... أشك، على سبيل المثال، في أنه سيجلس على الطاولة إذا ومتى كانت هناك محاولة جادة لحل هذه الأزمة".
من الحرب الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا إلى هذا الصراع في غزة، لا تزال محاولات بوتين للاضطلاع الجدي بدور اللاعب القوي العالمي تبدو رثة وغير مقنعة عندما توضع على المحك. وعلى نحو متزايد سيجد نفسه أمام خيارات قليلة لا تتعدى أن يصطف مع اليائسين والمنبوذين الذين لا يحظون بالشعبية.
الدكتور مارك غالوتي مؤلف كتاب "حروب بوتين: من الشيشان إلى أوكرانيا" (بلومزبري، 2022)
© The Independent