Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لمن الإرث الفرنسي في أفريقيا؟

باريس تسير على خطى لندن بخسارة مستعمراتها في القارة السمراء والرابح الأول سيكون صينياً - روسياً

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ ف ب)

ملخص

يبدو أن وريثا شرقيا تتصدره الصين وروسيا يستعدان لالتهام التركة الفرنسية في قارة أفريقيا.

خسرت فرنسا خلال الأعوام الثلاثة الماضية خسارة هائلة في أفريقيا قد تكون غير قابلة للتعويض على المدى المنظور، إذ فقدت نقاط ارتكازها الرئيسة في وسط وغرب القارة السمراء على الصعيد العسكري، كما خسرت صورتها كقطب عالمي منحاز للقيم الإنسانية العادلة في الحرية والمساواة والتي دشنتها الثورة الفرنسية قبل قرنين تقريباً.

وكل ما سبق يترتب عليه فقدان النفوذ الجيوسياسي على رغم وحدة الروابط اللغوية والثقافية مع حزام الدول الأفريقية الفرنكوفونية، وكلها مفاصل ينتج منها حالياً خسارة مصالح اقتصادية فرنسية هائلة في القارة الأفريقية، إذ بدأت شركات فرنسية تقلص أنشطتها الاقتصادية أو تجمدها في دول عدة كان آخرها النيجر، مروراً بمالي وبوركينا فاسو.

وهذه الخسارة الفرنسية على الصعيد الاستراتيجي تفرض تساؤلاً رئيساً وهو لماذا تفقد فرنسا نفوذها في أفريقيا بهذه السرعة الهائلة التي تذكرنا بنظرية الدومينو التي تعمل وفق آلية التراجع السريع والمتتالي؟ ومن ثم ما هو مستقبل النفوذ الفرنسي في أفريقيا؟ وأخيراً هل يمكن إصلاح مسار خطايا باريس المرتبطة بحال الذهنية الفرنسية تجاه الآخر بصورة عامة وتجاه الأفارقة في المستعمرات الفرنسية على بخاصة؟

في تقديرنا أن المشكل الرئيس هنا هو هذا التناقض بين الذهنية الفرنسية الاستعمارية وقيم الثورة الفرنسية في الحرية والمساواة والعدالة، فقد تم توظيف قيم الثورة الفرنسية السامية كأداة استعمارية لعبت دوراً في عملية تلفيق تاريخية أسهمت في أن تعيش باريس في أفريقيا فائزة نحو قرنين، مرة بأسلوب الاستعمار العسكري الكونيالي اعتباراً من القرن الـ 18، ومرة أخرى بأساليب الهيمنة والاحتواء المزدوج لنخب الاستقلال الوطني الأفريقي اعتباراً من ستينيات القرن الماضي، وذلك كآلية مواجهة لحركة التحرر الوطني الأفريقي التي بزغت منتصف القرن الـ 20 .

مهندس عملية التلفيق الفرنسية هذه هو جاك فوكار، صديق الرئيس الفرنسي شارل ديغول ورجل الأعمال الذي تولى هذه المسؤولية منذ عام 1956 وحتى عام 1974، وتمت هندسة العلاقات الفرنسية -  الأفريقية بآليات عدة وتوزيع أدوار بين القوى الصلبة والقوى الناعمة للدولة الفرنسية، ففي وقت أسهمت خلفية فوكار كرجل أعمال في التركيز على مصادر الطاقة الأفريقية كمنصة للصناعات الفرنسية، فإن إحكام القبضة على الأسواق وضمان سوق أفريقية واسعة للمنتجات الفرنسية كانا أهم أهداف هذا الرجل، وأتاحا لقوى الدولة الصلبة ممارسة عمليات الاحتواء للنخب في القارة السمراء بأدوات الدولة الناعمة.

وتحقيقاً لذلك أُسست الشبكة الإعلامية "فرانس آفريك" لتتولى مهمة الاستتباع الذهني لفرنسا، ثم تأسيس منظمة الفرنكوفونية عام 1970 التي حافظت على استمرار اللغة الفرنسية كلغة رسمية فيما يزيد على 20 دولة أفريقية، وبالفعل عملت وفق محددات معلنة من جانبها وهي تعزيز اللغة الفرنسية والسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان ودعم التعليم والتدريب والتعليم العالي والبحث العلمي والتعاون الاقتصادي لدعم التنمية المستدامة، وهذه الأدوات المعلنة لم تحل دون أن تكون نصوص اتفاقات الاستقلال الأفريقي عن المستعمر الفرنسي تشمل بنوداً سرية ضمنت سيطرة البنك المركزي الفرنسي على اقتصادات دول القارة عبر آلية مصرفية وهي "الفرنك الأفريقي"، كما لم تحل دون ممارسة أعمال فرنسية قذرة ومنها هندسة انقلابات عسكرية ضد هؤلاء الذين لم يرض عنهم جاك فوكار أو خلفاؤه من القادة الأفارقة، مثل اغتيال توماس سنكارا الزعيم الذي سعي إلى تنوير مستوى جودة الحياة في بوركينا فاسو، عبر استقلالية القرار السياسي في بلاده خلال ثمانينيات القرن الماضي.

كما سهلت فرنسا انقلاب الرئيس محمدو يسوفو عام 2010 على سلفه مامادو الذي طالب بتعديل اتفاقات استغلال الموارد الاقتصادية في النيجر مع الشركات الفرنسية، ثم تسهيل الانقلاب الأخير في الغابون على الرئيس علي بونغو الذي دشن شراكة استراتيجية مع الصين كان من المفترض أن تسفر عن تدشين قاعدة عسكرية صينية في الغابون، ولكن جاء انقلاب بريس أوليغي أنيغما لتذهب أحلام بكين في التناطح مع الولايات المتحدة بمنطقة خليج غينيا الحساسة للمصالح الأميركية أدراج الرياح.

ونجاح الغرب في إزاحة بونغو، الذي لا أدافع عنه بسبب فساده وأسرته، يفسر لنا خفوت الضجيج الإعلامي الغربي ضد الانقلاب في الغابون عكس الحال في النيجر، ويفسر لنا أيضاً المسارعة الغربية في تقديم أنواع الدعم للسلطة الانقلابية في الغابون كافة، على المستويين السياسي والاقتصادي حتى من جانب الأمم المتحدة والذي أُعلن عنه خلال الأيام الماضية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والشاهد أن عملية التلفيق الفرنسية التاريخية انكشفت بالكامل أمام الأفارقة، وهي التي هندست بقاءها على أساس تراثها الإنساني الحضاري المترتب على الثورة الفرنسية، بينما كانت أدواتها استعمارية بامتياز ومارست كل أنواع الاستغلال غير الإنساني وغير الحضاري، وحال الانكشاف الفرنسي في أفريقيا أسهمت فيها عوامل عدة، منها استمرار الذهنية الفرنسية المتعالية على المطالب المشروعة للأفارقة في حياة أفضل، ذلك أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان عقد مؤتمراً لمنظمات المجتمع المدني في باريس عام 2021 في محاولة متأخرة لتحسين الصورة السلبية لباريس في القارة السمراء، وسمع توجهات الشباب وملاحظاتهم على السياسيات الفرنسية في قارتهم والتي أنتجت حال تدهور عام على المستوى الاقتصادي لمعيشة الناس، ولكن يبدو أن ماكرون بدلاً من أن يسمع بعناية ويسعى إلى تطوير سياسته، انحاز إلى منهج جاك فوكار القديم في الاحتواء للأفارقة، لكن بأساليب جديدة منها الركون إلى أن تدهور الصورة الفرنسية يعود فقط للتدخلات الصينية - الروسية التي هي دول ذات مناهج شمولية وغير ديمقراطية.

وقد أسهم عاملان متضافران في حال الانكشاف الفرنسية في أفريقيا، وهما ثورة الإنترنت والتركيبة الديموغرافية للقارة السمراء، إذ إن غالبية الأفارقة من الشباب، وهو القطاع المستخدم للإنترنت الذي يسهم في التوجهات العامة للرأي العام وطبيعة الجدل فيه، وذلك من حيث الوصول إلى المعلومات والقدرة على التواصل وتوافر إمكانات بلورة المواقف والتعبير عنها في الواقع المعاش على الأرض.

ومن هنا اكتشف الأفارقة حجم الاستغلال الكبير لثرواتهم الطبيعية وحرمانهم من عوائدها المشروعة، بل ومعاناتهم من الفقر والإذلال بسبب اتفاقات استغلال الموارد التي تحميها عمليات معقدة من التحالفات الفرنسية مع طبقات الموالين من النخب الحاكمة الأفريقية (كمبرادور)، وتمت هندستها عبر عقود من الزمان.

وطبقاً لهذه المعطيات سالفة الذكر فإن مستقبل النفوذ الفرنسي في أفريقيا على المحك، بخاصة في ضوء التباين في المواقف بين باريس وواشنطن إزاء الانقلابات الأخيرة في بلدان الساحل الأفريقي، إذ اندفعت فرنسا من دون حسابات دقيقة في رفض سلطة انقلابيي النيجر والتحريض ضدهم والسعي نحو تدخل عسكري تقوم به دول (إيكواس) على النيجر، وطالبت على مدى طويل بعودة الرئيس المعزول محمد بازوم، كما تعالت على قرار نيامي إبعاد السفير الفرنسي، بينما اتخذت واشنطن سياسيات مغايرة ومنها عدم تصنيف انتقال السلطة في النيجر بانقلاب أصلاً، وتفضيل الحلول الدبلوماسية على العسكرية.

وفي هذا السياق ربما تكون فرنسا قد خسرت خسائر هائلة في شأن مدى الثقة في آليات صنع قرار باريس ضد المتغيرات الأفريقية، إذ إنها تتراجع اليوم عن كل مطالبها بعد اكتشاف عدم دقة حساباتها في شأن التدخل العسكري في النيجر، كما هي مضطرة إلى سحب ليس فقط السفير الفرنسي، ولكن أيضاً القوات الفرنسية البالغ عددها 1500 عنصر من أراض النيجر في وقت تبدو الخسائر الأميركية محدودة، وهي تسمح لها في هذه المرحلة بإعادة تموضع لقواتها العسكرية في النيجر من دون خسارة وجودها هناك.

وربما تكون هذه التفاعلات كاشفة للمسارات المستقبلية في شأن حال النفوذ الفرنسي في أفريقيا، إذ تذكر بحال بريطانيا العظمى منتصف القرن الـ 20 حين ورثت الولايات المتحدة مناطق نفوذ لندن في كثير من المناطق حول لعالم وأهمها في أفريقيا، بخاصة منطقة دول حوض النيل، وإذا كان النفوذ البريطاني القديم قد ورثته واشنطن بالكامل، فإنه من المشكوك فيه أن يتوافر للأخيرة الفرصة نفسها مع النفوذ الفرنسي في ضوء المتغيرات الراهنة للنظام الدولي، والتي قد تتيح ربما شركاء لواشنطن في وراثة النفوذ الفرنسي من المعسكر الشرقي، أي روسيا والصين.

المزيد من تحلیل