Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما وراء نفور بلدان الساحل الأفريقي من فرنسا

حققت باريس إنجازات عسكرية ولكنها وسعت رقعة عملياتها بإمكانات ضئيلة ودعمت أنظمة لم تحمل الرفاه لشعوبها

عملية برخان الفرنسية أبلت بلاء حسناً في مكافحة الإرهاب (ويكيبيديا)

بعد انقلابَي مالي وبوركينا فاسو، حمل الانقلاب الذي أطاح الرئيس محمد بازوم في النيجر، في 26 يوليو (تموز)، باريس على النظر من جديد في شروط وجودها وعملها في المنطقة التي كانت، إلى يوم قريب، "حماها" أو "مربعها".

وفي بلدان الساحل تتكرر مشاهد متشابهة: يتظاهر آلاف المدنيين على أبواب السفارات والقواعد الفرنسية وتحت نوافذها، ويرددون هتافات تندد بـ "الاستعمار (الفرنسي) الجديد"، وتطالب بجلاء القوات المرابطة على أراضيهم، وبعد باماكو وأوادوغو جاء دور نيامي، وربما نجامينا أو دكار، غداً؟ والمقارنة بين هذه البلدان، وهي مستعمرات فرنسية سابقة، مغرية، وتشترك اليوم في نفورها من المستعمر السابق. وتناولت "لوموند" الفرنسية، أسباب أفول فرنسا الأفريقية في تقرير أعده مراسلها كريستوف شاتلو، وتستعيد "اندبندنت عربية" أبرز ما ورد فيه، على وقع تناسل فصول هذا الأفول واحتجاز السفير الفرنسي رهينة في ملعب بلاده السابق.

وكانت باريس أعلنت، من طرف واحد، عزمها على إرساء العلاقات بالقارة الأفريقية على أسس جديدة ومختلفة. وانقضاء عقود على هذا الإعلان لم يثمر نتائج ملموسة. والسياسيون والدبلوماسيون والعسكريون والفرنسيون لا يدرون على أي وجه يتصرفون في أعقاب ماض استعماري يميلون إلى نكرانه، وبعد أعوام على الاستقلال، في أوائل عقد 1960، دمغتها علاقات قامت على التواطؤ والتدخل في شؤون أنظمة تفتقر إلى المشروعية بدمغة الفساد. وهم يتأرجحون بين ذكرى سيطرة طويت وبين حاضر مجتمعات أفريقية متغيرة تتصدر مسرحها السياسي قوى سياسية ودينية جديدة تجعل من باريس كبش محرقة في متناولها التنديد به.

وصفة مجربة

ويؤخذ على فرنسا تبديدها الموارد الاقتصادية المحلية، وتبنيها قيماً غربية تكن لها الجماعات الإسلاموية والأصولية المتطرفة كراهية عمياء. وقد لا تكون هذه الجماعات جهادية. ولكن تحريضها يتغذى من الأحوال الاقتصادية المتردية والمشهودة. وحال استيلائها على السلطة، في 26 يوليو بادرت قيادة الانقلاب النيجرية، على مثال مجرب في مالي، في أغسطس (آب) 2020 وبوركينا فاسو في يناير (كانون الثاني) 2022، إلى إطلاق عملية طلاق، من جانب واحد، من شريكها الفرنسي في مكافحة الجماعات المسلحة التي تجتمع تحت عباءة منظمة "الدولة الإسلامية"، أو تحت عباءة "القاعدة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأبطل الانقلابيون اتفاقيات الدفاع التي يرابط، بموجبها، 1500 جندي فرنسي في النيجر. واشترطت نيامي رحيلهم في الحال، وأعلنت سفير فرنسا "شخصاً غير مرغوب فيه". وعلق بث إذاعة "فرنسا الدولية"، وبث إذاعة "فرنسا 24".

وترى فرنسا أن في نيامي سلطة واحدة تتمتع بالمشروعية، متحدرة من انتخابات رئاسية ديمقراطية جرت في أوائل 2021، ويمثلها محمد بازوم. وكان الرئيس إيمانويل ماكرون صرح، في 28 أغسطس، أن سياسة فرنسا في النيجر لا لبس فيها. فهي لا تعترف بالانقلابيين وتؤيد الرئيس الذي لم يستقل، كما تؤيد حلاً دبلوماسياً أو عسكرياً تتولاه "إكواس" (المجموعة الاقتصادية لدول أفريقيا الغربية) حين تحزم أمرها. وعلى هذا، فقرارات الانقلابيين غير قانونية وغير مقبولة.

وعلى خلاف انقلابيي مالي وبوركينا فاسو، لم يعترف أحد بانقلابيي النيجر. والكل يطالب بـ"العودة إلى النظام الدستوري". ولا إجابة عن الطريق المقبول إلى هذه العودة: من الطريق الدبلوماسي؟ أم من طريق عملية عسكرية؟ مباشرةً أم بعد مرحلة انتقالية؟ إلخ...

والأمر الثابت هو أن النيجر هي إطار صوغ فرنسا سياسة أفريقية جديدة مختلفة عن تلك التي كانت الأخيرة تتصورها وتخطط لها. فبعد مغادرتها مالي، في أغسطس 2022، وبوركينا فاسو، في فبراير (شباط) 2023، نشرت القوات الفرنسية وحدات في النيجر قوامها 1500 رجل (أقل من الخمسة آلاف أثناء مهمة "بارخان"، بعد أغسطس 2014). وتعاونت هذه القوة مع الجيش النيجيري. ولاحظ المراقبون انخفاضاً في مستوى العنف، نسبوه إلى هذا التعاون.

وعلى رغم هذا، قد يضطر الجنود الفرنسيون إلى الجلاء قبل الوقت المقدر سابقاً. وعلى باريس العثور على اللغة التي تصور الجلاء المستعجل في صورة انسحاب اختياري ومنظم. فوقت النقد الذاتي لم يحن بعد. وذهب ماكرون إلى القول، أمام مجمع الدبلوماسيين الفرنسيين، إن "من يصفون (عملية) برخان بالهزيمة يكررون مزاعم العدو (...) ويكرمون عسكريينا على نحو غريب".

وكان الرئيس فرانسوا هولاند أطلق عملية "سيرفال"، في 11 يناير (كانون الثاني) 2013، نزولاً عند طلب سلطات مالي. وكانت مالي انقسمت شطرين قبل أشهر غداة سقوط نظام معمر القذافي، وفتحه مخازن السلاح الليبية لمن شاء. فاحتلت الجماعات الإسلاموية وجماعات الطوارق الاستقلاليين الشمال، وهدد تحالفهم البلد بالانهيار، وإن لم يكن في مستطاعهم، على خلاف زعم السلطات الفرنسية، الاستيلاء على العاصمة، باماكو.

عملية "سيرفال" نجاح عسكري

وفي غضون أسابيع، استرجعت مدن الشمال التي سيطرت عليها الجماعات المسلحة. ووسع وزير الدفاع، جان- إيف لودريان، في الثامن من مارس (آذار) 2013، إعلان انسحاب فرنسي متدرج في الأشهر المقبلة، من غير أن تسحق المنظمات الإسلاموية المقاتلة. ولم تلبث هذه المنظمات في أعقاب أشهر طويلة، أن جددت تنظيم صفوفها، واستعادت نشاطها. وعمدت باريس إلى تحويل عملية "سيرفال" إلى عملية "برخان" سعياً لمكافحة الإرهاب في الساحل.

ويرى مارك- أنطوان بيروز دي فونكلو، مدير البحوث في معهد البحث للتنمية، أن الرئاسة الفرنسية "ارتكبت خطأ استراتيجياً كبيراً" إذ ذاك. فهي انتقلت إلى حيز أعلى وأعرض من الحيز السابق من غير امتلاك الوسائل المناسبة لهذا الانتقال. وفعلاً، وسعت باريس حقل تدخلها إلى بلدان الساحل الخمسة، وهي بوركينا فاسو، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد، إلى مالي.

وغلب على التوسيع منطق بيروقراطي، قضى بضم جنود عملية "إيبيرفييه" (....)، في تشاد، وفي المرحلة الأخيرة من مهمتها، وهي احتواء الهجمات الليبية، فألفت القوات الفرنسية نفسها مولجة بتأمين منطقة أوسع من العراق وسوريا معاً، بعديد أقل من خمسة آلاف رجل.

وتفاخر الجيش الفرنسي باستعراض "جعبة صيده": ففي سنوات التدخل التسع في الساحل، قتل الجيش قائد كتيبة طارق بن زياد، عبدالحميد أبو زيد، في فبراير 2013، وقادة جماعات "أنصار الدين"، ثم "المرابطون"، وهارون آغ سعيد وأبو بكر النصر، في أبريل (نيسان) 2014، المدعو "أبو جمال"، وقائد حركة "التوحيد والجهاد" السابق في غرب أفريقيا أحمد التلمسي في ديسمبر (كانون الأول) 2014، وقائد كتيبة "الأنصار"، حمادة آغ حامة، المدعو "عبدالكريم الطارقي"، في مايو (أيار) 2015، إلى آخرين كثر، آخرهم قائد تنظيم "الدولة الإسلامية" في الصحراء الكبرى، عدنان أبو وليد الصحراوي، المدعو "أوس"، في سبتمبر (أيلول) 2021.

والحق أن مالي وبوركينا فاسو والنيجر خسرت السيادة على أجزاء كاملة من أراضيها الوطنية، بينما اتسع نشاط الجماعات غير النظامية على نحو هدد بعض البلدان المتاخمة لخليج غينيا: شاطئ العاج، وتوغو، وبنين. وكتب الأستاذان في العلاقات الدولية، مورتين بوواس وفرنشيسكو سترازاري، في مجلة العلوم السياسية "ذي أنترناشنال سبيكتاتور" في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، أن بوسع القوات الدولية، وحلفائها المحليين الحؤول دون انهيار الدولة، وحماية العواصم، ولكن ليس في وسعها إحراز نصر عسكري حاسم على المتمردين. وقد يقتل قادة الإسلامويين البارزين، ولكن سقوط قائد لا يحول دون قيام قائد يخلفه، على ما حصل في بلدان الساحل.

وفي هذه المنطقة، حيث عجزت الدول عن توفير الخدمات العامة، أفلحت الانتفاضات الجهادية في استقطاب "موارد مادية وأيديولوجية جديدة (على شاكلة مساعدات إنسانية، ومدارس دينية متشددة)، واستولت على حيز استعملته في تصفية حسابات مع المراجع الدينية والمدنية التقليدية، واقتراح عقد اجتماعي مختلف".

فماذا يسع الجيش الفرنسي وأجهزة التعاون الفرنسية فعله في مقابل منظمات تتغذى من منازعات عميقة الجذور مثل هذه؟ ولكن مرابطتها على الخطوط الأمامية في مواجهة "الجماعات المسلحة الإرهابية" يحملها المسؤولية عن تعاظم العنف الذي يفتك بالمدنيين أولاً. والرأي العام في بلدان الساحل لا يفهم، متناسياً ضعف الأبنية الأمنية المحلية، لماذا يعجز جيش حديث ومجهز بأنظمة مراقبة جوية دقيقة عن سحق مقاتلين مسلحين بكلاشنيكوف، ويتنقلون على دراجات نارية. ووجدت أجهزة الدعاية الروسية، وفي مقدمها جماعة "فاغنر"، تعليلاً "متآمراً" مباشراً: تؤيد فرنسا بل هي تسلح الجماعات الإرهابية، وتستغل حال الفوضى الناجمة عن هذه الجماعات وتصادر الثروات الأفريقية.

موقع متعدد الجهات

والحق أن الفرنسيين، بواسطة شركتي المناجم "سوماير" و"أورانو"، يستغلون منذ 1968 مناجم اليورانيوم التي تغذي المفاعل الذرية في فرنسا. ويقتصر اليورانيوم النيجيري على تلبية 17 في المئة من الحاجات الفرنسية، وتضاءلت حصة أفريقيا في الميزان التجاري الفرنسي، على خلاف حصة الصين المتعاظمة.

وبدا دفاع الرئيس النيجيري محمد بازوم، في الثاني أبريل 2021، أمام حشد من الشخصيات الأهلية، عن المحصلة الإيجابية للتعاون العسكري مع فرنسا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بديلاً عن مرتزقة "فاغنر"، غير مقنع. فالأمن لم يستتب فعلاً. والتنديد بـ "النيوكولونيالية الفرنسية"، الحقيقية والمتوهمة، وبإرث الماضي الاستعماري، حجة سياسية راجحة. وصوت "فرنسا راعية القيم الديمقراطية" خافت ومشوش جراء تذبذب مواقفها من "وباء الانقلابات" في الساحل، على قول إيمانويل ماكرون.

ففرنسا لا تزال تصر على القول إن استيلاء محمد إدريس دِبي على السلطة، في أبريل 2021، خلفاً لوالده، كان أفضل الحلول المتاحة. وحده الرئيس الفرنسي شارك في تشييع من كانت فرنسا تراه أوفى حلفائها في المنطقة. وفي باماكو، لم تكتم فرنسا، وراء الستارة، رضاها عن خلع الانقلابيين، في أغسطس 2020، الرئيس إبراهيم بو بكر كِيْتا، العاجز عن معالجة التردي الأمني، قبل أن يتوافد مرتزقة "فاغنر" إلى مالي.

ولم تتحفظ باريس، في سبتمبر2021، حين طرد الانقلابيون الرئيس الغيني ألفا كوندين. وذلك على خلاف موقفها من انقلابات النيجر ومالي وبوركينا فاسو على الرؤساء المنتخبين. ويعلق وزير من غرب أفريقيا على "واقعية" الدبلوماسية الفرنسية بالقول إن تفهم هذه الواقعية لا يسوغ تصدي فرنسا لتلقين الأفريقيين دروساً في الديمقراطية.

ولا تنسي الغطرسة الفرنسية أزمة الأنظمة الأفريقية الساحلية التي أنشئت على مثالات غربية. وانقلاب الغابون الأخير، في 30 أغسطس، وقع في بلد كان ملعباً للنفوذ الفرنسي طوال عقود طويلة. ومنذ استقلال دول غرب أفريقيا، في عقد 1960، وهي كانت مستعمرات فرنسية، شهدت المستعمرات السابقة كلها تقريباً 30 سنة من حكم أنظمة متسلطة- ديكتاتورية عسكرية أو حزب واحد. وساندت الدولة المستعمرة السابقة هذه الأنظمة. ولم تؤيد تعدد الأحزاب، والانتخابات على قاعدة الاقتراع العام، إلا في عقد 1990.

وهذا المثال يتهاوى بعد أن نخره الفساد، والإثراء الوقح، والزبائنية، والتوريث السياسي، بينما بلغ عدد الشباب والفتيان 40 في المئة من السكان. وينتشر العداء لفرنسا في أوساط الشعبويين والجماعات الدينية التي تغزو المدن وبيئاتها في الساحل وجواره. وبعض هذه الجماعات، من مالي إلى شاطئ العاج، تشترك مع الجهاديين في هذا العداء، وتضطلع بثورة داخلية تدعو إليها نخب وطنية ودينية، ذات جذور ثقافية قوية، تتنازعها ولاءات متفرقة.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير