Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فلان أوبراين يجعل من تاريخ إيرلندا رواية فسيفسائية

"عند مخاضة الطيرين" تخلط الواقع والمتخيل والتداعي الحر والشعر بجرأة فريدة

الروائي الإيرلندي فلان أوبراين (فلاغارا فيستيفل)

هو ثالث كبار الأدباء في إيرلندا، فلان أوبراين (1911-1966)، إلى جانب صامويل بيكيت وجيمس جويس، صدرت له حديثاً ترجمة عربية لروايته بعنوان "عند مخاضة الطيرين"، أنجزتها صبا قاسم عن دار أثر في السعودية. 

ومن المعلوم أن هذه الرواية التي أحدثت دوياً زمن صدورها بلغتها الإنجليزية مطعمة أو مترجمة من اللغة الإيرلندية، وحياها جوليان غرين وأعجب بها جيمس جويس، وكانت على ما وصفها بعضهم فسيفساء متقنة التلاوين والمكونات، وأشبه بالبازل المتعدد الأنواع والمستويات والمواقف، لحمتها جميعاً روح متهكمة وهازئة ومتعالية حد الاستعصاء على الفهم، ولكنها مثار إعجاب ودهشة في آن واحد.

حبكة/ لا حبكة

من يقرأ رواية "عند مخاضة الطيرين" يحق له أن يسأل الكاتب عن الحبكة الرئيسة التي ينبغي للأحداث أن تنتظم منها، ويتصاعد التوتر منها باطراد إلى أن يتلاشى أثرها في النهايات المرسومة أو المفاجئة، وللإجابة يتبين له بعد متابعة الـ 318 صفحة ألا حبكة ولا عقدة مركزية في الرواية، في أول تحد تكويني لبنية الرواية الحديثة منذ ظهورها بمثالها "دون كيخوت".

وإنما ثمة وقائع متفرقة ومنافذ للحكي الحر يتولاه الراوي العليم والشريك الرئيس في الرواية، وغالباً ما تستند هذه المنافذ إلى "موتيفات" متغيرة على الدوام حتى النهاية.  ينتقل الراوي في مستهل روايته من عرض ثلاث مقدمات ينوي الاختيار في ما بينها ليباشر روايته، في مسعى أسلوبي يستبق به رواد الرواية الجديدة والتجريبية خلال ستينيات القرن الـ 20 في أوروبا، إلى الكلام على "موتيف" الدراسة وارتباط الدراسة بـ "الحياة الانعزالية مناسبة لمزاجي" (ص7)، في حوار يختلقه مع عمه، فإلى "موتيف" المراهنة على فرس السباق عبر رسالة من عامل السباق ف. رايت، إلى أبيات من الشعر متفرقة يحيي فيها الراوي الحكايات الإيرلندية المفعمة بالأساطير والفرسان الأبطال أمثال فين، "أنا صرخة النضال قال فين/ أنا مخالب كلب جارحة/ أنا سرعة الغزال/ أنا ريح تعصف بالشجر".

ومن ثم إلى اختبارات القسوة وشروط التلقين الإيرلندية للفتى المرشح للانتماء إلى فصيل محارب، فإلى ذكريات من السيرة الذاتية ولا سيما تجربة الراوي الأولى في تناول المشروبات الكحولية ومضار الإدمان عليها (ص21)، وإيراد حوار بينه وبين صديقه كيلي يحتسيان البيرة ويستطيبان التعليق على ما تحدثه فيهما.

عشرات الأفكار

على هذا النحو ترى الكاتب فلان أوبراين يتنقل من فكرة إلى فكرة ومن "موتيف" إلى آخر، معتمداً على استراتيجية التداعي الحر والواعي والمتناسب مع مناخ الهزء والضحك والتأمل العميق في مسائل كثيرة في آنٍ واحد، ولو عددنا الـ "موتيفات" في الرواية التي جعلها الكاتب بديلاً للحبكة وما تستدعيه من تنمية في العمق والاتساع لقضية أو إشكال أو مأساة ما لفاقت العشرات، وقد طعمها الكاتب بوقفات شعرية (أبيات شعرية مستلة من النصوص التراثية الإيرلندية ومن الترانيم الدينية وأغاني الغزل والشعر الحماسي الإيرلندي).

ومن هذه الأفكار والـ "موتيفات" وصف الكلية التي درس فيها الراوي والخوف من الخطيئة، وفكرة "الاعتدال في كل شيء" (ص 129)، وأفكار الشهوانية وانتقاد رجال الدين والشيطان ومهنته والعشرات غيرها.

ولو نظر القارئ من منظار تراثه السردي والأدبي لتنبه إلى أن نص الرواية الذي لا يقف عند حد  ولا ينقسم فصولاً ولا أجزاء، على غرار النصوص السردية المعاصرة، ولا يستوقف جريان السرد فيه سوى بعناوين داخلية لا تكاد ترى لإشعار القارئ بأنها من نسيج النص الروائي غير المنقسم، ولو نظر القارئ العربي لوجد أن أصل النص شفهي إيرلندي، وأن ثمة حكواتياً في إهاب الكاتب فلان أوبراين يروي بلغة البطل السلتي القديم (فين وسويني وبرينسلي وغيرهم) أخباراً متفرقة من جانبي عالمه المتناقضين والمتنافرين، بيئة ريفية مخضوضرة ومشبعة بأساطير الماضي الإيرلندي المجيد في مقابل بيئة دبلن العصرية الرمادية والهزيلة، وكأنه بذلك ينعى إيرلندا الرومنطيقية وآلهتها وأبطالها وأساطيرها بعد أن ثبت له انتصار المدنية المعاصرة على الأولى ونجاحها في تذويبها ومحوها من الوجود، ولعل هذا المسعى عند أوبراين يخالف رؤية جيمس جويس مواطنه والمعجب بأدبه، والتي تقوم على رفع الواقع في دبلن إلى مصاف الأسطورة.

خالط الأساليب  

يخلط الحكواتي الإيرلندي أوبراين في نصه السردي أيضاً بين الأساليب والأنواع الأدبية، إذ ينتقل بين السرد الذي يتولاه الراوي العليم بصيغة المتكلم إلى الوصف فالتعليق ثم الشعر والسرد والوصف ثانية، فإلى التقرير والاقتباس من التوراة (ص 132-133) "مخافة الرب، وصية يشوع بن سيراخ)، ومن السيرة الذاتية في مواضع كثيرة والصحافة المعاصرة له خلال ثلاثينيات القرن الـ 20، ليحمل هذه النصوص جميعاً من مجاريها المنفصلة إلى بحر السرد الأكبر، ترفدها أخبار وآراء متفرقة من الجامعة والحي والحقل والكنيسة وعائلته وعمه، وتشدد توترها المرافعات المضحكة (شاناهان القاضي) التي ابتدعها الكاتب على لسان شخصياته المختلقة، يعرضون فيها ظلاماتهم على قوس المحكمة وتتداعى جميعها تداعياً متناسقاً بفضل موسوعية معرفية جديرة بكبار الأدباء .

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى هذا النحو يتبين للقارئ النبه أن أوبراين كان يطبق تقنية الكولاج في تأليفه لوحة الرواية الكبرى، وأن هذه اللوحة ربما كانت تجسيداً لرؤيته التي يعترض فيها على مسار الحداثة المنحدر ويعلي فيها مكانة الماضي وأمجاده التليدة.

من المعلوم أن الكاتب أوبراين كان شديد الاهتمام باللغة الإيرلندية والإنجليزية، وقد أنشأ مع أخيه وصديقه شيريدان مجلة أسمياها "بلاذر" عام 1934، وهي تعنى بدرس الألفاظ الإنجليزية وأصولها القديمة، ولعل هذا ما يبين ميل أوبراين الشديد إلى التلاعب بالألفاظ والكلمات في روايته، وإلى ترجمة الأسماء والعبارات الإيرلندية الأصيلة إلى صيغ بالإنجليزية مبتكرة وغير مألوفة، وفي هذا الشأن يمكن العودة لدراسات تسلط الضوء على التحويل الذكي للكلمات من الايرلندية إلى الإنجليزية مع المحافظة على أثر جذرها الأول.

كان الكاتب فلان أوبراين قد اتخذ له هذا الاسم بالتزامن مع صدور روايته الأولى "عند مخاضة الطيور" عام 1939، وكان في الـ 28 من عمره، في حين أن اسمه الحقيقي هو بريان أونولان، واتخذ لنفسه اسماً آخر حينما كان يكتب أبحاثه في الجامعة وكان يوقعها باسم الأخ برتا باس، وله أيضاً اسم رابع كان يوقع به على يومياته في جريدة "أيرش تايمز" باسم "مايلز ناغوبالين".

وللكاتب كذلك أعمال روائية منها "الحياة الشاقة" و"موثق دبلن" و"الشرطي الثالث"، وله مجموعة قصصية بعنوان "فوستوس كيلي" وغيرها من الأعمال المكتوبة باللغة الإيرلندية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة