Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بحثا عن سر عبقرية بليغ حمدي وأثره الذي لا يمحى

في ذكرى رحيله الثلاثين يزداد تألقاً بموسيقاه الفريدة التي سكنها طيف وردة الحبيبة

الموسيقار بليغ حمد ترك أثراً في الموسيقى العربية (المعهد العالي للموسيقى)

ملخص

في ذكرى رحيله الثلاثين يزداد تألقاً بموسيقاه الفريدة التي سكنها طيف وردة الحبيبة

ثلاثون عاماً مرت على رحيل الموسيقار الكبير بليغ حمدي، لكنها لم تُبعد التواصل مع موسيقاه وأغنياته، بل راكمت زمناً من التأمل في عبقريته الفنية الفريدة وغزارة ألحانه، في شخصيته وغرابة أطواره، في غربته وآلامه. فما الذي يمكن كتابته عن بليغ حمدي بعد مرور كل هذه السنوات؟

يستطيع المستمع إلى ألحانه، مع قليل من الفطنة والمعرفة الموسيقية، أن يميز علاقة الحب التي تربطه باللحن، لذا بدت نغماته مغموسة بذاك الشغف والهيام العاطفي الشجي. ولعل إحدى ميزات موسيقاه أيضاً، وما جعلها أكثر ديمومة وحضوراً بين أجيال الشباب حتى الآن، هي الحيوية التي تسكن معظم مقطوعاته، فينتقل بسلاسة عذبة من الشجن إلى إيقاع راقص يدفع الأجساد إلى الحركة؛ بينما في أغنيات أخرى توجد جمل موسيقية تحمل توتر الأغنيات الحماسية. وهذا نجده للمفارقة، في بعض الأغاني العاطفية كما في أغنية "أنا كل ما قول التوبة"، التي غناها عبدالحليم حافظ، من كلمات عبدالرحمن الأبنودي. هذه الأغنية وضع بليغ لحنها على "مقام النهاوند" الذي يصلح لكل أشكال التأليف الموسيقي؛ أي أنه يجمع بين حالتين من الموسيقى: الحزينة والمرحة في آن واحد، وهو المقام نفسه الذي ألف عليه بليغ أغنية "ألف ليلة وليلة" لأم كلثوم، و"أنا بستناك" لنجاة، و"على رمش عيونها" لوديع الصافي، وكثير غيرها من الأغنيات.

الحب المُلهم

أحب بليغ وردة وتزوجها من عام 1972 حتى 1978، وشكلت قصتها معه، حكاية الحب الأساسية في حياته، وما أشيع عنه من حكايات بعد وردة لم تتجاوز حيز المغامرات العاطفية الشاردة، التي لم تكتمل إلا ضمن الأطر الفنية، أي لتحقيق حالة هيام عاطفي فني، لكنها لم تنضج لتشغل حيزاً زمنياً ممتداً في عالمه.

تبدو أغنيات وردة مع بليغ مزيجاً معبراً عن سيرورة علاقتهما بكل مراحلها، إنها أغنيات متوهجة نابضة بتدفق عاطفي جعلها قوية التأثير والحضور منذ ظهورها وحتى الآن. وما زالت أغنيات مثل: "العيون السود"، "خليك هنا خليك"، "اسمعوني"، "دندنه"، "مالي وأنا مالي"، "وحشتوني"، "احضنوا الأيام"، "عايزة معجزة"، "حكايتي مع الزمن"، "لو سألوك عليا" وغيرها، حاضرة في كل المناسبات، ويستلهم منها الفنانون كوبليهات يرددونها في حفلاتهم.

حين وقع الفراق بين بليغ ووردة، وامتد سنوات، كتب لها أغنية "بودعك" وهو نادراً ما يكتب كلمات أغنياته، وقيل إنه فعل هذا أيضاً مع مطلع أغنية "العيون السود"، التي دون أول كلماتها ثم أعطاها لصديقه الشاعر محمد حمزة ليكمل كتابتها، أما "بودعك"، فقد كتبها بليغ كلها.

تبدو هذه الأغنية، التي ختم بها بليغ حياته اللحنية مع وردة، أشبه برسالة عتاب معبرة بعمق عن قسوة الجرح العاطفي الغائر، الذي لم يتم تجاوزه حتى بعد مرور سنوات عدة، حتى ليصف بليغ حاله، هو العاشق الوله الذي يدعو لمحبوبته بالحماية على رغم قسوة التخلي والفراق، مؤمناً أن حبه الكبير سيحميها وهي تمضي في طريقها بعيداً منه.

وردة بدورها حكت عن بليغ أنه كان عاطفياً جداً، حتى أنه ظل يرسل لها الورد كل صباح طوال سنوات زواجهما، التي استمرت سبعة أعوام. وقد تركت علاقة وردة مع بليغ بصمة في حياتهما، على رغم التنوعات الفنية الكثيرة التي مضى كل منهما في مسارها للعمل مع مبدعين آخرين، إلا أن اقتران اسميهما إبداعياً يحضر إذا ذكر اسم أي منهما، وهذا نجده مجسداً بين الجمهور، وفي التطبيقات الصوتية، مثل "ساوند كلاود"، الذي وضع لهما قائمة بأشهر الأغاني التي قاما بالتعاون فيها معاً. وفي لقاء الفنانة وردة مع الإعلامية رانيا برغوت، تسألها عن الغيرة الفنية، فتحكي وردة أن المطربات كن يتوددن لبليغ من أجل ألحانه، وتصف انزعاجها من أغنية شادية "خلاص مسافر"، بسبب جملة ترددها شادية تقول: "خايفة تلاقي وردة وتحلو في عنيك"، تعلق وردة -وتقصد بليغ- بأنه لاقى وردة وتزوجها.

دائرة لحنية 

نجد في بعض ألحان بليغ جملاً موسيقية لها صدى في لحن آخر وضعه من قبل، فتبدو الدائرة اللحنية متماهية مع حالة شعورية واحدة يُعيد تشكيلها بنغمة أخرى. كما في مقدمة أغنيتي: "خليك هنا خليك"، التي غنتها وردة، وأغنية "حاول تفتكرني"، لعبدالحليم حافظ، وهاتان الأغنيتان ظهرتا عام 1973، من كلمات محمد حمزة، ولحنهما بليغ على "مقام البياتي"، الذي يفضله؛ ربما لأنه يتناسب مع طبيعة بليغ في اختيار الجملة اللحنية، القادرة على الانزلاق بخفة بين الفرح والحزن. "فالبياتي" مقام واسع وقابل للتشكل، يعطي الملحن فُرصاً كثيرة للتلحين والتعبير عن مشاعر متشعبة بين الحب واللهفة والانتظار واللوعة، ويمكن أن يكون هادئاً وذا شجون حين تكون ألحانه هادئة وإيقاعه بطيئاً، لكنه قد يكون عاطفياً ومتوهجاً إذا جاءت ألحانه متدفقة وعلى إيقاع سريع. وهذا ينطبق كثيراً على أغنية "حاول تفتكرني"، التي يرتفع فيها اللحن ويهبط ويختلف، من أقصى الشجن في مطلعها مع جملة "أنا اللي طول عمري بصدق كلام الصبر في المواويل"، ثم إلى لحن كرنفالي تتداخل فيه الآلات والأصوات حين يغني حليم: "ومنين نجيب الصبر يا أهل الله يداوينا... واللي انكوى بالحب قبلينا يقول لينا"، كل هذا أبعد ألحان بليغ عن الرتابة والملل.

هذه التوترات اللحنية والتحولات الحسية نجدها أيضاً في أغنيات أخرى مع حليم، مثل "حبيبتي من تكون"، "مداح القمر"، وتغيب عن الأغنية البديعة "أعز الناس"، التي حافظ فيها بليغ، ربما لقصرها، على تسلسل لحني وشعوري واحد، على رغم دمجه بين مقام الكرد والبياتي، واستخدامه آلات موسيقية غربية، مثل الغيتار والتشيللو والأوبوا.

في أغنية "موعود" على سبيل المثال، يبدأ اللحن مع مقدار من الشجن، على مقام نهاوند يقول: "موعود معايا بالعذاب موعود يا قلبي... ولا بتهدا ولا بترتاح في يوم يا قلبي"، ثم يبدأ في التحول المفاجئ المبهج مع مقطع يغنيه الكورال على مقام الكرد: "ميل وحدف منديله كاتب على طرفه أجيله". ويستمر التراوح في التنويعات المقامية، التي تُقدم تنويعات وجدانية متدفقة ومتوترة، لكن يظل الجامع بينها غلبة مقام النهاوند على الأغنية.

محاولات باطنية

في ألحان بليغ مع الفنانة ميادة الحناوي، ظل خيال وردة حاضراً في الخفاء، سواء عبر الكلمات أو اللحن، وهذا أضر بمسيرة ميادة الحناوي الفنية، ولم يمنحها صوتها الخاص، على رغم النجاح الجماهيري الكبير الذي حققته أغنياتها مع بليغ. لكن ما احتاجت إليه ميادة، في تلك المرحلة هو ذاك التدفق الحر المنفلت المعبر عن أحاسيسها الداخلية وصوتها الذي يمتاز بالعذوبة والاتساع. المستمع إلى أغنيات مثل "الحب اللي كان"، و"حبينا واتحبينا"، و"فاتت سنة"، "وأول حبيب وآخر حبيب"، وغيرها، ينتابه إحساس أن وردة حاضرة في مكان ما من اللحن، أو أن الأغنيات رسائل لها.

وهذا ربما سببه أن بليغ وضع عصارة أحاسيسه في ألحانه، يكفي الاستماع إليه وهو يغني "فاتت سنة"، لنجد أن صوته هو الوحيد القادر على شرح اللحن، فبليغ يترنم ويشرح الكلمات في لحنه، وعذوبته الفائقة وهو يغني "مستخسرين فينا المراسيل... فينا المراسيل". والكلام عينه ينطبق أيضاً على أدائه لأغنية "أنا الحب اللي كان"، بكل ذاك الحزن الكامن، بحيث تبدو الأغنية كما لو أنها حكاية تصف حالته مع وردة. وسواء كان بليغ يقوم بهذا عن وعي، أو لا، فقد أتت هذه الألحان لتعكس حالته الداخلية. منحت الألحان ميادة شهرة كبيرة وانتشاراً واسعاً، وقدمتها للجمهور على أنها "مطربة الجيل"، لكن تألقها الساطع اتضح مع الملحن رياض السنباطي في أغنية "أشواق"، من كلمات الشاعر مصطفى عبدالرحمن. هذه الأغنية من أفضل أغنياتها على الإطلاق، بخاصة من حيث الأداء، وهذا بشهادة السنباطي نفسه، الذي قال إنه أعطى الأغنية لميادة بسبب براعتها في نطق اللغة العربية من جهة، إلى جانب تمكنها من شدو كلمات الأغنية كما تخيلها هو تماماً.

تجارب فنية ممتدة

أما ألحانه مع فنانة فائقة العذوبة مثل عفاف راضي، فقد تجلت في أغنيات متنوعة منها: "هوى يا هوى"، "وحدي قاعدة في البيت"، من كلمات محمد حمزة، "يمكن على باله"، "تعالى جنبي" كلمات عبدالرحيم منصور، والأغنية البديعة "ردوا السلام" كلمات مرسي جميل. إلى جانب قائمة أخرى طويلة، حتى أن عفاف راضي نفسها ذكرت أن ما يقارب من 80 في المئة من أغنياتها، من تلحين بليغ حمدي.

يربط بعض معاصري بليغ بين تبنيه لصوت عفاف راضي ورغبته السابقة في تقديم لحن لفيروز، وعدم اكتمال هذا المشروع لجملة من الأسباب، بعضها يتعلق ببليغ وأخرى بفيروز. لذا ظل يساور بليغ حلم تقديم فنانة ذات صوت شجي تشدو بأغنيات عاطفية غير طربية، ولا تكون متشابهة مع غيرها، لم يكن يبحث حينها عن نسق أعماله مع أم كلثوم أو وردة أو شادية أو صباح، بل عن نسق آخر مختلف وجده في صوت عفاف راضي.

التقت عفاف مع بليغ وهي شابة دون العشرين، كانت طالبة في معهد الكونسرفاتوار، حدث هذا في أواخر الستينيات من القرن الماضي، خلال مرحلة عودة وردة إلى الجزائر بعد أن افترق عنها بليغ للمرة الأولى، حين رفض أهلها زواجها منه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عفاف راضي كانت مطربة أوبرا، ولا تفكر أن تكون مطربة عادية، لكنه أقنعها بعد بروفات عدة بتقديم أغنية "ردوا السلام"، التي قدمتها للوسط الفني وحققت لها شهرة كبيرة. اصطحبها بليغ لكي تؤدي وصلة فنية في الحفل الذي يُقيمه عبدالحليم حافظ، ضمن حفلات أضواء المدينة، وفي تلك الليلة أدى بليغ دور المايسترو، قائداً للفرقة الموسيقية ليُشجع صوت عفاف راضي، وهذا أمر لم يحدث من قبل مع أي من المطربات، وعلى رغم هذا فإن عفاف لم تكن مندفعة بقوة للتعامل مع بليغ، فقد رفضت مثلاً أن يتم تغيير اسمها من "عفاف" إلى "جميلة"، حين اقترح عليها بليغ هذا الأمر. كان رفضها صريحاً وواضحاً بأنها لن تكمل خطواتها الفنية معه في حال أصر على تغيير اسمها.

كانت لبليغ تجارب فنية ثرية ممتدة مع كثير من الفنانين، لا تقل روعة عن تجاربه مع وردة وحليم، مثل أغنية "عدوية"، و"متى أشوفك" لمحمد رشدي، و"بهية" لمحمد العزبي، ومجموعة كبيرة من الأغاني مع صباح، لعل أشهرها: "يانا يانا" و"زي العسل"؛ أيضاً أغنيات شادية المميزة من ألحانه، مثل "آه يا أسمراني اللون"، و"قولوا لعين الشمس"، "يا حبيبتي يا مصر"، كما لحن لها كل أغنيات فيلم "شيء من الخوف"، بتأثير الأغنية المستلهمة من التراث الصعيدي "يا عيني يا عيني عالوله".

وترك بليغ بصمته المميزة على أغنيات نجاة الصغيرة، كما في "الطير مسافر"، "ليلة من ليالي"، و"أنا بستناك"، و"نسي" وغيرها. كما لا يمكننا أن نُغفل في مسيرته الفنية، تجربته الصوفية مع الشيخ النقشبندي، حين لحن له أغنية "مولاي إني ببابك"، وعدة تواشيح دينية أخرى. وكان لبليغ أيضاً تجربة فريدة مع الغناء العراقي، تمثلت في تعاونه مع المطرب سعدون جابر، الذي شكل علامة وتحولاً في الأغنية العراقية، حدث اللقاء بينهما في مطلع الثمانينيات، فقد لحن بليغ لجابر أربع أغنيات هي: "رحنا"، "مشوارك حبيبي"، "من الأول حبيبي"، "أريدك".

لعل مرور هذه الأعوام الطويلة على رحيل بليغ حمدي، أفضى إلى رؤية كيف صنع عبر ألحانه الدفاقة، جزءاً كبيراً من تاريخ الموسيقى العربية. وكم كان هذا الفنان يعيش بأفكاره وسط الغيوم، وبقدميه في واقع صاخب، حيوي، متنوع، لذا عجز عن المواءمة بين العالمين.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة