تجاوز الفنان السوري إياد الريماوي (1973) القوالب التقليدية في الموسيقى الشعبية وجاهر منذ بداياته مع فرقته "كلنا سوا" بانحيازه للموسيقى المستقلة، فقدم في هذا السياق مع فرقته، العديد من الألبومات التي جددت على صعيد كتابة الموسيقى وكلمات الأغنية، وحتى على صعيد التلحين والتوزيع الموسيقي. وانتزع الموسيقار إعجاب شرائح واسعة من الجمهور الذي وجد في ألبومات فرقته مثل "سفينة نوح" و"شي جديد" و"موزاييك" وسواها نبرة مغايرة للسائد في الأغنيات الرائجة، مما كرّسه، مؤلفاً موسيقياً للعديد من الأعمال الموسيقية والتصويرية التي قام بإنجازها، وحققت أعلى المبيعات في منطقة الشرق الأوسط.
تجاوز اليوم عدد المشتركين في قناته على "يوتيوب" 250 ألف مشارك، وحصدت نحو 100 مليون مشاهدة. يخبرنا الموسيقار السوري عن برنامج حفلته المرتقبة في أوبرا دبي في 15 من الشهر الجاري، فيقول: "سيكون برنامجاً متنوعاً، وسيتضمن مجموعة من المقطوعات التي تُقدم للمرة الأولى على خشبة المسرح، ومنها مقطوعة "لا نهاية" وموسيقى "سوق الحرير" التي كنت أطمح أن أقدمها على المسرح، ولكن لم أستطع ذلك، بسبب عدم وجود العدد الكافي من الموسيقيين الشرقيين القادرين على عزف ربع النغم المعروف في مقامات مثل البيات والراست في الموسيقى الشرقية. عادة في الحفلات السابقة كان يعزف معنا عدد من الموسيقيين الأجانب، أما في حفلتنا في أوبرا دبي فسيكون معنا هذه المرة عدد من الموسيقيين العرب، الذين يتقنون العزف على الآلات الشرقية، إضافة إلى مختارات من المقطوعات الموسيقية التي أحبها الجمهور من مثل "العرّاب" و"الندم" و"أوركيديا" و"مسافة أمان" و"سفّرني ع أي بلد" وسواها من المقطوعات".
"الرابسودي السوري"
في عام 2018 قدّم الريماوي وفرقته حفلة في قاعة أرينا بدبي، وهي أكبر قاعة مغلقة في الشرق الأوسط، وحضر الحفلة وقتها قرابة ثلاثة آلاف شخص، وعن هذا يقول: "كانت أول حفلة لي في الإمارات، والحمد لله كانت فاتحة لسلسلة من الحفلات والمشاريع الفنية التي قُدِّمت في ما بعد في دبي. ولا سيما عملي "الرابسودي السوري" والذي كان أحد أضخم الأعمال التي قُدِّمت في "إكسبو دبي" 2020، إن لم يكن الأضخم. كان العرض الوحيد الذي تضمن مشاركة 100 موسيقي على المسرح، وكان أكبر عدد مسموح به وقتها هو 80 موسيقياً. وللضرورة الفنية وبعد مفاوضات مع إدارة "الإكسبو" تمكنا أن نصل إلى السماح لنا بمشاركة هذا العدد الكبير على المسرح من كورال وعازفين ومنشدين".
يحكي "الرابسودي السوري"، كما يخبرنا الريماوي، عن تاريخ الموسيقى في سورية وفي العالم، ابتداءً من "نيكال" أقدم أنشودة مكتشفة في التاريخ، 3400 سنة قبل الميلاد، وصولاً إلى الإنشاد السرياني وهو أقدم إنشاد كنسي في العالم، وصولاً إلى الإنشاد الصوفي الإسلامي، وهو أيضاً ظهر وتبلور في دمشق لينتقل بعدها إلى أرجاء العالم الإسلامي كافة. ويضيف: "حقق هذا "الرابسودي" صدى عالمياً، وتضافرت فيه جهود عدة لإنجاز هذه الملحمة الموسيقية الضخمة فنياً، لعل أبرزها كان الإخراج للفنان عمار العاني، وتصميم الأزياء للفنانة رجاء مخلوف، وقيادة الأوركسترا للمايسترو ميساك باغبودوريان. وهذا ما أسهم في جعله عملاً يقارب الأعمال الموسيقية العالمية. على صعيد مشروعي الشخصي أطمح وأعمل على أن تحقق الموسيقى العربية المزيد من الانتشار في العالم الغربي والعالم عموماً. وأعتقد أن عملاً مثل "الرابسودي السوري" حقق لي هذه المعادلة، وتم تقييمه بشكل جيد في "إكسبو" 2020 الذي ضمَّ موسيقيين من كل أنحاء العالم على مدى ستة أشهر، وحفل بمشاركة نجوم الموسيقى العالميين الذين أسهموا في هذه التظاهرة. والحمدلله أن هذا العرض الموسيقي نال أعلى درجات الاستحسان، وصُنِّف من أهم العروض التي قُدِّمت. وهذا دليل على أننا قادرون، وأننا نقوم بخطوات مهمة لنشر موسيقانا في العالم".
الفن المستقل
وعن واقع الأغنية العربية اليوم يحدثنا صاحب "بياعة الزنبق" موضحاً: "عموماً المشهد السائد في الأغنية العربية هو أغنية البوب أو الأغنية الشعبية. لستُ من هواتها ولا من معجبيها، مما دفعني إلى تقديم الأغنية أو الموسيقى المستقلة منذ بداياتي مع انطلاق فرقة "كلنا سوا" التي كنت أحد المؤلفين والملحنين الرئيسيين فيها إلى يومنا هذا. أنتمي للموسيقى المستقلة والأغنية المستقلة، بالتالي عملي في الموسيقى التصويرية كان امتداداً لهذه الرؤية. فالموسيقى التصويرية سواء كشارة أو كموسيقى درامية، ساعدتني كمؤلف موسيقي لديه ميل للاستقلال عن السائد كي يقدم ما في جعبته. شارات المسلسلات منحتني هذه الحرية، فليس مطلوباً منها أن تنتمي إلى نمط البوب، مع العلم أن العديد من المنتجين الدراميين في العالم العربي اتجهوا اليوم نحو نجوم البوب، لتقديم شارات المسلسلات بأصواتهم. لكنني بقيت مستقلاً في أسلوبي في كتابة الشارة للمسلسل التلفزيوني، ومتمسكاً بأنها أحد المنابر الخارجة عن السائد والمألوف، وذلك إما بحجة موضوع العمل، أو بذريعة التجريب والاستكشاف. والحمدلله أن ما قدمته نجح، وهذا دليل على أن الجمهور يتقبل كل أنواع الموسيقى، وهو الحكم في تقييم ذلك".
ولكن ماذا عن فرقة "كلنا سوا" اليوم، وأين وصل مشروعها الفني بعد سنوات من القطيعة؟ نسأل الريماوي ويجيب: "الفرقة ما زالت موجودة، وما زالت علاقاتنا كأعضاء في هذه الفرقة قوية. المشكلة أن ما أصاب الفرقة هو ما أصاب السوريين جميعاً. السفر وهجرة العديد من أعضاء الفرقة إلى مختلف دول العالم، بحثاً عن العمل والأمان، وهروباً من الحرب، بالتالي أصبحت هناك صعوبة في تقديم أعمال جديدة، مع العلم أننا على تواصل دائم. وتم تنظيم أرشيف الفرقة بالكامل، ففرقة "كلنا سوا" قدمت بين 1998 و 2008 وحتى بداية الحرب في سورية أربعة ألبومات، وهي اليوم موجودة على "يوتيوب" وعلى المنصات الموسيقية كأرشيف وكمادة للمستمعين. وأؤكد أن مشروع الفرقة مستمر، ولكنه يواجه صعوبة هذا الشتات. ولكن قد يسمع الجمهور قريباً بأعمال جديدة، وهذا دائماً وارد ومتوقع".
جولات عالمية
يستعد الريماوي اليوم لجولات عربية وعالمية في مصر ومدن ألمانية في الأشهر القليلة المقبلة، يوضح ويقول مجدداً: "في الوقت الحالي تركيزي الكامل على الجولات الموسيقية، ويوجد عمل درامي أقوم بتحضيره كموسيقى تصويرية درامية أفضّل عدم الإفصاح عن اسمه. أما عن الألبومات الموسيقية فهي تاريخ أي مؤلِّف موسيقي، أو أي فنان لديه مشروع. لا بد أن المشروع الموسيقي يتلخص في عدد من الألبومات التي يتركها هذا الفنان أو ذاك للأجيال المقبلة وللمستقبل وللمكتبة الموسيقية العالمية. وكنت صريحاً منذ بداياتي سواء مع فرقة "كلنا سوا" أو في عملي المستقل في الموسيقى التصويرية والتأليف الموسيقي، أن أجمع أعمالي في ألبومات موسيقية، والحمدلله أن هذه الألبومات حققت نجاحاً كبيراً، ووصلت إلى المراتب الأولى في المبيعات في منطقة الشرق الأوسط. وهذه الألبومات متاحة حالياً على "يوتيوب" وعلى منصات الموسيقى العربية والعالمية من "أنغامي" و"SPOTIFY" و"ITUNES". فهذه المنصات أصبحت اليوم الوسيلة السائدة للاستماع بعد تراجع الوسائل الأخرى، كالكاسيت والأقراص المدمجة والأسطوانة وكل الوسائل المادية. الآن هو عصر منصات الديجيتال، والاستماع يتم اليوم من خلال المتاجر الإلكترونية، وما زلت مستمراً في إصدار المزيد من الأعمال التي ستكون متاحة للجمهور على هذه المنصات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا شك في أن الحرب كان لها أثر كبير جداً، في شكل الموسيقى التي قدمها الريماوي على مدى السنوات العشر الماضية، لكن ما هو أثرها العميق على منجزات الموسيقي السوري. يجيب: "كمّ الألم والحزن كان ظاهراً في الموسيقى التي قدمتها، لكن اليوم دعني أصارحكَ أن لدي رد فعل عكسياً، إذ إنني تمردت على هذه الأحزان، وبدأت أرفضها. على الأقل في أعمالي الأخيرة التي بتُّ أنحو فيها إلى التمرد على الحزن والخروج منه، لأن لا بد للحياة أن تستمر، ولا بد أن نخرج بأي طريقة من هذا الكابوس. وهذه باعتقادي ليست رغبتي وحدي، بل رغبة كل السوريين".
أما عن هجرة الموسيقيين السوريين نحو بلاد المغترب فيوضح ويقول: "نعم هذا ترك أثره على واقع الموسيقى السورية بالتأكيد، ولكن بسبب طبيعة العصر الذي نعيشه أصبح بالإمكان أن تقوم بتسجيل الموسيقى مع أي موسيقي موجود في أي بقعة من العالم. ولم تعد المشاريع الموسيقية محصورة في مكان جغرافي واحد، أو تحتاج إلى أن يجتمع صُنّاعها في حيز مكاني واحد. وحتى إحياء الحفلات -ولا سيما في الخارج- أمسى متاحاً عبر التعاون مع موسيقيين موجودين في شتى أنحاء العالم. أعتقد أن طبيعة العصر والتقنيات الموجودة في الاتصال والتسجيل أصبحت تساعد على حل هذه المشكلة".