Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الابن السجين يخرج من قفص الكلاب ويبهر جمهور البندقية

"فيراري" يروي صعود عائلة صانع السيارات الشهير وانحدارها

الفتى والكلب في فيلم "دوغمان" الفرنسي (ملف الفيلم)

ملخص

"فيراري" يروي صعود عائلة صانع السيارات الشهير وانحدارها

غداة افتتاح مهرجان البندقية السينمائي الحالي، كنا على موعد مع عملين لافتين ساهما في أن ننسى طعم الخيبة الذي تركته فينا أفلام اليوم السابق: "دوغمان" للمخرج الفرنسي لوك بوسون و"فيراري" للأميركي مايكل مان، وهما معروضان في المسابقة. والحق أن المُشاهد النهم، المشارك في المهرجانات الكبيرة، يعيش على إيقاع ما يشاهده، والأفلام تتحكم بمزاجه المتقلب على الدوام، فإن شاهد ما يعجبه حلّق، أما إذا قبع لساعتين أو أكثر في صالة من دون الحصول على نتيجة ترضيه، شعر بمضيعة للوقت وهدر للمال.

"دوغمان" يعيد لوك بوسون (63 سنة) إلى نوعية سينمائية كان ذاع صيته من خلالها ونتج منه في الماضي بعض من أجمل ما قدمه في تاريخه. وإذا كان لا بد من عنوان عريض يختصر "دوغمان" فهو "عودة بوسون إلى بوسون". هذا هو أيضاً أول عمل يعرضه المخرج الفرنسي في البندقية بعدما افتتح مرتين مهرجان "كان"، ولكن خارج المسابقة. ذروة المرحلة الذهبية لبوسون "الأزرق الكبير" (1988) و"ليون" (1994) فيلمان ظلا ماثلين في الذاكرة. إضافة إلى كونه سيد حرفة وصنعة، فإنه يعرف كيف يمسك بالمتلقي من خلال فكرة سينمائية جذابة، غير مستهلكة. بوسون لا يخشى المجازفة بل يبحث عنها، حتى إذا كانت ستسقطه في الفخ. أفلامه إما تضرب في المكان الصح (غالباً القلب)، أو تذهب في كل الاتجاهات ولا تصيب شيئاً. لا حل وسطاً عند هذا المغامر السينمائي الذي انطلق في الإخراج في عمر التاسعة عشرة. واليوم، بعد نحو نصف قرن على بداياته، لم يفقد شيئاً من تلك اللمسة وتلك القدرة على صناعة فيلم من لا شيء.

الإبن والكلاب

في "دوغمان"، نتابع سيرة دوغلاس (أداء باهر لكايلب لاندري جونز)، منذ طفولته وحتى عمر أصبح فيه ما أصبح عليه. هذا الابن لعائلة مفككة، سيعاني الأمرين في ظلّ سطوة أب مصاب بخلل نفسي محولاً إياه إلى كائن عنيف وخطر، حد أنه يعاقب ابنه بسجنه في القفص المخصص للكلاب. لكن دوغلاس ينجح في الهرب، ليجد نفسه في عالم لا يحكي لغته ولا يملك فيه أي مرجعية، بل لا يعرف حتى مَن هو، خصوصاً أن معاملة الأب له أصابته بشلل وتركته على كرسي متحرك إلى الأبد. في هذا العالم الذي يشعره بالغربة، لن يكون لدوغلاس إلا كلابه، مجموعة كبيرة منها تأتمر به وتنفذ طلباته، وهي سنده الوحيد. يجد دوغلاس خلاصه فيهم، إذ يتلقى منها الحب والحنان أكثر من البشر أنفسهم، أما الفن فهو ملاذه لتحقيق الذات بعدما جعلته حياته المأسوية من ذوي الاحتياجات الخاصة.

مع دوغمان يقدّم بوسون فيلماً قاسياً، عنيفاً، حاداً، يحمل في داخله طبقات متعددة من الرقة، إذا أنعمنا النظر جيداً في دواخل دوغلاس وفي دواخل بوسون معاً. يناضل المخرج في صفّه، يدعمه بلا شرط، متعقباً إياه خطوة خطوة في كل مراحل بناء حياته من جديد بعد ما تعرض له في الطفولة، موفراً له آلية دفاعية. وهذا ليس بجديد في سينما بوسون التي امتلكت دائماً روح طفل.

السر هنا هو دوغلاس الذي نقف إلى جانبه منذ البداية، ولا نتخلى عنه تحت أي ذريعة، ومهما ارتكب من أفعال شنيعة، وذلك لإيماننا بأنه يحق له ما لا يحق لغيره لكونه ضحية قسوة القلب وانعدام الحب. من السهل جداً والحال هذه، التماهي مع هذا الإنسان المعذب، المهمش، ضحية أهل غير مسؤولين، وهو بهذا المعنى من أقرب الشخصيات إلى "الجوكر" الذي تقمصه واكين فينيكس. الأجواء ضاغطة بلا شك، وموسيقى إريك سيرا تسهم في تعزيز مناخات القلق المتواصل والجريمة الوشيكة.

"دوغمان" فيلم عن الحب وغيابه، وبين الحالة الأولى والثانية، عالم كامل متكامل يصوّره بوسون بصدق وتطرف، من دون أن يحسب حساب الرجعة. ولا يمكن أن نتغاضى عن حقيقة أن هذا فيلم شخصي يصفّي فيه بوسون حساباته مع الحياة، وهو في مثل هذا العمر الدقيق، إذ قال خلال حضوره المهرجان: "من الصعب جداً بلوغ الستين، فأنت غير متأكد أنك انتهيت. الرياضي يعلم ذلك، لكن الفنّان لا. لذلك، تظل تحاول لمعرفة إذا لا يزال لديك ما تقوله". هناك في سيرة كل مخرج أعمال تتحدث عنه بقدر ما تتحدث عن الآخرين، و"دوغمان" من هذه الأفلام. "الفنّ والحبّ وحدهما ينقذان الإنسان"، قال بوسون في مؤتمر صحافي عقده وبدا فيه متأثراً، عيناه على وشك الإدماع. هذا ما خلص إليه الفنان المتفرد بعد 19 فيلماً.

سقوط عائلة 

"فيراري" لمايكل مان أعجب أيضاً معظم من التقيتهم. المخرج الأميركي الكبير الذي ارتبط اسمه بأفلام مثل "حرارة" الذي جمع روبرت دنيرو بآل باتشينو، يعود في عمر الثمانين وبعد ثمانية أعوام غياب عن السينما، بعمل طموح يلازمه منذ زمن طويل على ما يبدو، وتجري أحداثه في عام 1957 ويتمحور على الأيام القاسية والمضطربة والحافلة بالأحداث والمفارقات التي عاشها صانع السيارات الشهير إنزو فيراري (آدم درايفر) وزوجته لاورا (بينيلوبي كروز) لإدارة أزمات حياتهما المشتركة: سباق السيارات، مصنع فيراري، العلاقة العاطفية. ولكن، تجري الدواليب بما لا تشتهيه السيارات في هذا العمل الذي يعيد إحياء حقبة وناس بدقة استعادية عالية. الأجواء التي يضعنا فيها الفيلم قاتمة وسوداوية، فالحكاية التي أرادها المخرج ليست "قصة نجاح" إنزو فيراري بل سقوطه التدريجي، فيما هو يحاول المحافظة على ثباته الانفعالي وإدارة حياته بأقل خسائر ممكنة. إلا أن التحديات كثيرة، مهنية وعائلية وأخلاقية...

هذا فيلم شبح الموت فيه حاضر في كل لحظة ومكان: بين جدران المنزل العائلي، على الطريق، وفي نفوس الشخصيات التي تحاول أن تتعايش مع الماضي الأليم والمستقبل الغامض، علماً أن إنزو فيراري عاش في النهاية 90 سنة ولم يمت باكراً.

آدم درايفر يلعب دور فيراري، هذا الذي لُقِّب بـ"الكومنداتوري". يلعبه بأناقة شديدة وحضور استثنائي، إذ لا يكاد يخرج من الكادر طوال الفيلم، فيجعلنا نشعر أن خلف المظاهر ثمة واقع أكثر تعاسةً فرضه موت ابنه الباكر من جانب، واستحالة اعترافه بابن آخر رزق به خارج إطار الزواج من جانب آخر. أما سباق السيارات الأسطوري الذي نُظِّم عامذاك وشارك فيه كبار سائقي تلك الفترة، فهو ما يضع فيه آماله بهدف الخروج من محنته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يحمل الفيلم الذي صُوِّر في إيطاليا باللغة الإنجليزية، تفاصيل صنعة المعلم خصوصاً في مجال تحريك الكاميرا وإشاعة جو فريد لا يقدر عليه إلا كبار من أمثاله. لا يهدأ الإيقاع ولا يلتقط أنفاسه طوال أكثر من ساعتين. المستوى الصناعي للفيلم لا غبار عليه، لا سيما مشاهد السباق التي تجسّد واحداً من أكثر الأشياء التي يصعب بثّها على الشاشة: السرعة. ما كان ممكناً إنجاز فيلم عن فيراري وتهميش هذا العنصر الضروري. صوت محرك فيراري هو كل شيء، والفيلم يعظّمه ويرد له الاعتبار.

خلافاً لما قيل، ليس "فيراري" فيلم سيرة تقليدية يحاول سرد حياة أحد المشاهير من الفجر إلى النجر، إذ إنه يركّز على فترة قصيرة جداً من حياته، لكنها فترة دالة ومكثّفة تكفي لقول الكثير. فكما كتب الفرنسي جان دورميسون، "هناك أيام وأشهر وسنوات طويلة لا يحدث فيها شيء، وهناك دقائق وثوان تحتوي عالماً كاملاً". 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما