ملخص
ترى أن هناك مشاعر عديدة تختلج في نفوس الفنانين السوريين وتنتظر زمناً لتتحقق
يصف مؤرخ الفن الشهير إدوارد لوسي سميث الرسامة سارة شمة (1975) بأنها كانت لديها الشجاعة لتتفاعل مع ما يحدث اليوم وتعلق عليه، بخاصة المأساة التي تعانيها بلادها، والتي تظهر خلال لوحاتها الحديثة، والتي هي ليست بأي شكل من الأشكال تقريرية أو وصفية، وإنما ترجع صدى الشعور بالأوضاع التراجيدية الراهنة في وطنها. تواظب الرسامة السورية على العمل في مختبرها الفني المفتوح، وذلك عبر مجموعة من اللوحات التي انتقلت معها للإقامة في لندن بعد أن منحت إقامة باعتبارها رسامة مهمة.
هذا الانتقال هو الثاني للفنانة السورية مع عائلتها اليافعة، التي اضطرت إلى مغادرة دمشق هرباً من أهوال الحرب في نهاية عام 2012، واللجوء إلى وطن والدتها الأصلي لبنان، ومن ثم الذهاب إلى لندن في 2016. هذا المزيج من الأحداث التاريخية والظروف الشخصية لسارة شمة أبدع أعمالاً كرست تجربتها الفردية، فعكست لوحاتها الصادمة معاناة جسدية ونفسية، اقتفت عبرها الأثر العميق للرعب على الجسد وتعبيراته، فكانت أعمالها بمثابة استغاثة تصويرية أكثر منها بورتريهات، وشخصيات مركبة مأخوذة عن وجوه وأجساد واقعية.
لكن أين يقع مختبر شمة الفني اليوم، وكيف تقيم لنا المراحل التي مرت بها تجربتها؟ نسأل فتجيب: "اليوم لدي مرسمان، واحد في لندن حيث أقيم حالياً، والثاني في دمشق حيث أذهب كل بضعة أشهر، وأعمل في المرسمين بحسب تواجدي. قبل هذا مضى أكثر من سنة ونيف للأسف لم أذهب فيها إلى سوريا، وذلك بسبب وباء كورونا ومنع السفر، لكنني ذهبت أخيراً، وأمضيت أوقاتاً ممتعة في مرسمي الشامي بعد غياب، فأنهيت لوحة بدأتها في نهاية عام 2019".
درست سارة الفن منذ كانت شابة يافعة في مركز أدهم إسماعيل للفنون في دمشق، وهناك رسمت فريق البيتلز في أولى محاولاتها مع الريشة، لتنتقل بعدها للدراسة في كلية الفنون الجميلة، ولتتخرج منها عام 1997. ولفتت الأنظار لمهارتها الاستثنائية في رسم البورتريه، وقدرتها على توزيع نسب الضوء والظل على سطح اللوحة، مندفعةً بقوة إلى واجهة الفن التشكيلي السوري الذي خبرته من قرب، فهي فنانة ليس لديها أسرار، كما تقول: "حياتي كلها منشورة في أعمالي، حتى لو أردت الحفاظ على سر فلوحاتي تفضحني. وعلى كلية الفنون الجميلة بدمشق أن تنفتح اليوم على العالم أكثر، وتعلم الطلاب هذا الانفتاح، إذ يجب التأسيس للتعاون مع كليات فنون أجنبية تؤدي إلى إقامات فنية، وتبادل طلاب، ودعوة محاضرين من البلدان العربية والأجنبية، إضافةً الى دعوة فنانين عرب وأجانب لإقامة ورش فنية، وذلك لتشجيع الطلاب على التواصل مع الوسط الفني من خلال تنظيم زيارة مراسم ومعارض محلية وغيره".
لطالما وجهت الرسامة السورية الانتقادات إلى أكاديمية الفنون التي تخرجت فيها، وهي هنا تتحدث عن اختفاء رسم الموديل العاري في كلية الفنون الدمشقية وتضيف: "حتى في أيامي لم يكن يوجد موديل عار في كلية الفنون، وهو أمر يؤسف عليه. فعلى الطالب أن يبذل جهداً فردياً لتعويض هذا النقص، وربما يتعاون الطلاب في ما بينهم لرسم بعضهم بعضاً، وهنا لا يهم إن كانوا ذكوراً أم إناثاً. فالفن كالطب يجب ألا يحده الخجل أو تقيده العادات، كذلك يمكن اللجوء إلى شبكة الإنترنت اليوم للعثور على كل ما ينقص الطالب من خبرات ومهارات. طبعاً لا تعوض الصورة عن الحقيقة، ولكن هذا أفضل من لاشيء".
في محترف سارة، مدارس عديدة، ولعل أبرزها المدارس فوق الواقعية والسريالية والتعبيرية. لكن إلى أي حد يمكن للفنان أن ينعتق من تأطيره ضمن مدارس وتيارات؟ تجيب: "لا أؤمن في الحقيقة بالمدارس أو الاتجاهات الفنية كأطر محددة، فالفن حرية قبل كل شيء، وللفنان الحق بأن يغير أسلوبه وألوانه وتقنياته كما يريد، وله أن يمزج بين المدارس في اللوحة الواحدة كما يرغب. المهم أن يقتنع هو بلوحته، لا أن ينفذها بناءً على رغبة غيره، لأنه عندها سيتحول إلى حرفي وليس إلى فنان".
عام 2015 أقامت سارة معرضها الفردي الذي جاء بعنوان "حرب أهلية عالمية" في صالة أولد ترومان برويري في لندن، ومن تنظيم غاليري ستولن سبيس، وكان فرصة لمشاهدة مجموعة مختارة من الأعمال التي تناولت فيها شمة الحرب في بلادها، فهي التشكيلية ذات السمعة العالمية، مما أنضج تجربتها، وجعلها أكثر تأملاً في زلزال بلادها، وما انعكس على عوالم اللوحة التي دمجت فيها بمهارة، بين الواقعي والسريالي والتعبيري، محققة هوية خاصة للغاية في أعمالها التي لا يمكن تجاهلها كبصمة فنية لافتة.
لا يمكن المرء أن يبقى محايداً أو ينأى بنفسه عن الانفعال عندما يشاهد لوحات هذه الرسامة، فكما تلاحظ هذه الفنانة أن الحرب لم تعد أهلية سورية فقط، بل أصبحت "حرباً أهلية عالمية". فكل فقدان لإنسان في هذا العالم هو فقدان لجميع البشرية، وكل تهشم وشتات لمجتمع ثقافي كان نابضاً بالحياة في سورية، هو مرحلة من مراحل الانتهاك الثقافي في العالم. هنا تعلق سارة على ذلك بالقول: ""تغير حالة الحرب حياة الإنسان الذي يعيش في الشتات، فتفصله عن حياته السابقة انفصالاً نهائياً لا عودة منه، لتصبح حياته مختلفة بطريقة لا يمكن تصورها عن حياة أقرانه ممن لم يتذوقوا مرارة النزاع. إذ ينظر إنسان الشتات إلى الناس بطريقة جديدة، ويرى ما كان خفياً عليه سابقاً، ويقدر أهمية كل فرد من خلال احتمال الفقدان، ليكتشف القيمة الحقيقية لحياة الإنسان".
" كل خسارة تعوض إلا الحياة"، تقول سارة وتضيف: "للأسف الذين فقدوا حياتهم في بلدي أكثر من أن أحصيهم. 200 ألف أو أكثر. أردت أن أحضر أرواح كل هؤلاء إلى لندن، بل إلى أوروبا كلها، كنت أريد أن يروهم، أن ينظروا في عيون الضحايا، ويشعروا بخسارتهم. ولكنني لن أتركهم أمواتاً، بل أردت إعادتهم إلى الحياة. أردت أن يقصوا قصصهم، أن يدافعوا عن اختلافهم، وأن يقنعوا كل شخص بأنهم كانوا يستأهلون الحياة".
لكن هل تشعر سارة اليوم بأن أسلوبها المميز في الرسم أصبح قفصاً لا يمكن الخروج منه؟ وهل يضايقها أنها صار لها أسلوب، أم أن هذا يجعلها تشعر بالطمأنينة والارتياح؟: "لا أعتقد أن لدي أسلوباً واحداً لم يتطور، بالعكس كنت دائماً بصدد إضافة شيء جديد إلى لوحاتي. نعم يمكن للمشاهد أن يعرف لوحتي من النظرة الأولى، ولكن ليس بسبب الأسلوب الجامد، بل بسبب طريقة العمل، ضربات الريشة، وبعض التفاصيل الصغيرة التي تميزني، ربما بسبب الأحاسيس التي تحركها لوحتي في نفس المتلقي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كانت شمة من أوائل الفنانات السوريات اللاتي رسمن "السيلف بورتريه"، وقدمت كثيراً من اللوحات التي رسمت فيها سارة نفسها وهي حامل، فهل نستطيع القول إن هذا النوع من الأعمال يعكس طيفاً توحدياً، أم هو رد فعل على العنف الذي لحق بالمرأة العربية؟ وتجيب: "لا أبداً، لقد بدأت برسم نفسي ربما قبل أن أعي حجم العنف الذي تتعرض له المرأة العربية وغير العربية. بالمناسبة أنا لم أتعرض لعنف جسدي أو نفسي في حياتي، ولكنني أشعر بمشاعر الأخريات وأحمل همومهن وأدافع عنهن. وكذلك لا أرى رسم الذات كانعكاس لطيف توحدي، أو شعور نرجسي بالذات، بل بالعكس، يجب أن تعرف نفسك لتعرف العالم، يجب أن تكتشفها، أن تعمل عليها. ولذلك لوحة "السيلف بورتريه" بالنسبة إلي هي غوص في العالم من خلال صورتي التي تتغير باستمرار كما يتغير العالم".
بين إقامتها في سوريا ثم في لبنان، والآن في لندن، ما الذي طرأ على مشغلها الداخلي بين هذه الأماكن الثلاثة؟ تجيب: "أعتبر نفسي ما زلت مقيمة في هذه البلدان الثلاثة، فحتى لبنان بلد والدتي يعيش في داخلي وأزوره باستمرار. هذه البلدان الثلاثة تتفاعل داخلي وفي لوحاتي، أحملها جميعاً معي، وأرسمها جميعاً بريشتي في كل عمل أنتجه".
توضح شمة وجهة نظرها إلى المختبر التشكيلي السوري اليوم فتعقب: "أعتقد أن الحياة التشكيلية في سوريا اليوم مازالت قوية ومتميزة، إذ لا تقل أعمال الفنانين السوريين عن أعمال غيرهم من الفنانين المعاصرين في العالم، بل ربما تفوقها أحياناً. فالألم يولد فناً، وهنالك مشاعر عديدة تختلج في نفوس فنانين سوريين الآن بعد الزلزال المدمر، وهي تنتظر زمناً أفضل وفرصاً مناسبة لتتحقق في أعمالهم. شخصياً أرجو أن تكون هذه اللحظة قريبة من أجل أن تزهر وتبدع، وعندي أمل بالمستقبل وثقة بفناني سوريا".