Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

توايين الرسامة التشيكية التي صرخت: إندثري أيتها الحرب

معرض باريسي لأعمالها الفريدة بين انتماء سوريالي وبحث عن الحب السري

لوحة للرسامة التشيكية توايين في معرضها الباريسي (الخدمة الإعلامية)

تحتفي باريس بالفنانة السوريالية التشيكية توايين (Toyen)، من خلال معرض استعادي ضخم يستضيفه حالياً "متحف الفن الحديث"، بعد عبوره في براغ وهامبورغ. معرض لا يفوَّت لأنه يسمح باكتشاف، أو إعادة اكتشاف، المسيرة الاستثنائية لهذه العملاقة التي مارست فن الرسم بعبقرية نادرة بغية مساءلة الصورة وقدراتها التمثيلية. وفي هذا السياق، تتوزع داخل صالاته الخمس نحو مئة عمل فني لها تتراوح بين لوحات ورسوم وملصقات وكتب، وتعكس بحثاً ضمن "انحراف مطلق" عن جميع الدروب المعروفة.

من مواليد براغ 1902، عبرت توايين (واسمها الحقيقي ماري سيرمينوفا) القرن الماضي ببصيرة جعلتها تعي وتنخرط في كل ما حدث خلاله من تطورات راديكالية مثيرة، بدءاً بطلائع أوروبا الوسطى ووصولاً إلى السوريالية الدولية. وقبل أن تقرأ الفيلسوف اليوتوبي شارل فورييه، مارست "الانحراف المطلق" الذي دعا إليه، فبقيت فريدة في كل ما أنجزته، ورفضت تحديد نفسها كفنانة، لا لشيء سوى لأن فن الرسم شكّل ذريعة لها للمغامرة داخل دوائر التمثيل المتحرّكة أبداً، ومن خلال ذلك، الإمساك بالقوى التي تتسلط على جانبنا المعتِم. وبرفضها الإقامة الجبرية التي يفرضها مفهوم الهوية، قادت حياتها على شكل رحلة طويلة تحلّت الدوافع والتيارات الجاذبة فيها بقيمة الوجهات المقصودة. رحلة في جغرافيا عالمنا وأيضاً في مجاهِل الصورة المرسومة، تلتبس سرديتها مع سردية حرية تبحث عن أشكالها.

الصالة الأولى من المعرض تعود بنا إلى بداية مسيرة توايين، وتحديداً إلى العام 1922 الذي التقت خلاله بالرسام الشاب جيندريش ستيرسكي في كرواتيا وصادقته فوراً لمشاركته إياها القطيعة نفسها مع العائلة والتعليم الأكاديمي والنظام الاجتماعي. صداقة أفضت إلى تعاون فني دام حتى وفاة ستيرسكي، وبدأ بالتحاقهما أولاً بمجموعة "ديفيتسيل" الطلائعية ومشاركتهما في جميع معارضها، ثم قادهما إلى السفر داخل أوروبا خلال عامين، وإلى الإقامة في باريس وعرض أعمالهما فيها. ونظراً إلى افتتان توايين بتنوّع العروض المتوافرة داخل هذه المدينة (سيرك، ميوزيك هول، مدن الملاهي...)، أنجزت آنذاك سلسلة لوحات بدائية الأسلوب، لكنها تقترب بطريقة تشكيلها والدعابة التي تعبرها من رسومها الأولى التي تتجلى فيها تلك الحساسية الإروسية التي لن تفارقها.

مشاعر بصرية

 

وفي العام 1926، حدّدت مع صديقها رؤيتهما التشكيلية المشتركة تحت تسمية "الاصطناعية". رؤية تقوم على "إثارة مشاعر شعرية لا تكون بصرية فحسب"، وتستبق في ذلك التجريدية الغنائية بثلاثين عاماً، لكنها تتمايز عنها بتوكيد الفنانَين "تماهي الرسام مع الشاعر".

في أعمال الصالة الثانية، نرى كيف طغى عنفٌ جديد على فضاء توايين التشكيلي، مطلع الثلاثينيات، منجباً أشكالاً آتية من الأعماق، فرضت نفسها تدريجاً بشحنتها الإروسية. أعمال يتراجع الضوء فيها لصالح المادة، ويصعب تمييز النباتات من الحيوانات الكامنة في ذلك الليل الداخلي الذي تسلط على الفنانة ولازمته طوعاً بغية تمثيل الأشكال التي تكشّفت لها داخله من خلال الشحن المذكور. مرحلة اكتشفت فيها كتابات الماركيز دو ساد، وتحدّت الرقابة في وطنها بتأسيسها مع ستيرسكي مجلة "إروتيكا" التي زيّنت داخلها نصوصاً شعرية كثيرة برسوم تعكس بقوتها الإيحائية، الاهتمام الذي أولته للبُعد الإروسي في عملها، وتنتمي بصوريتها وحساسيتها الشعرية إلى الجمالية السوريالية.

ولا عجب بالتالي في مشاركتها في تأسيس المجموعة السوريالية في وطنها، وفي بقائها وفية لهذا الالتزام حتى وفاتها. علماً أن عملها على المادة قادها منذ منتصف الثلاثينات إلى رؤية في القوى البدائية للمادّة كارثة الحرب الوشيكة، كما يتجلى ذلك بشكل تنبؤّي في سلسلتين من رسومها: "أشباح الصحراء" (1935 ــ 1936) و"الصقور" (1939).

في الصالة الثالثة، نشاهد سعي توايين، فور اندلاع الحرب العالمية الثانية، إلى الإمساك بمناخ الرعب الناتج منها، معتمدةً في ذلك على دقة رسمها المذهلة ومخيّلتها الجامحة. وستنجح في ذلك بألمعية تعكسها سلسلتا "رَمي" (1939 ــ 1940) و"تواري يا حرب!" (1940 ــ 1944). أعمال ابتعدت فيها كل البعد عن الحلول الواقعية للفن الملتزم، لتمثيل عالمٍ توارى فيه كل أفق ولم يعد يتبقى كعلامات على فظائع الحقبة سوى لُعَب محطّمة وأشباح حيوانات تشهد بصمتٍ على براءة الطفولة وعالمها السحري اللذين تمت إبادتهما.

"لا أجنحة وولا حجارة"

وتنتقل الصالة الرابعة بنا إلى باريس حيث قررت توايين الاستقرار عام 1947، بعد المعرض الذي نظّمه أندريه بروتون لها، بغية الإفلات من التوتاليتارية الستالينية التي حلت في أوروبا الوسطى مكان النازية. إقامة مثمِرة لمشاركتها فور وصولها في تأسيس المجلة السوريالية الجديدة "نيون"، ومراهنتها، في الوقت نفسه، على الرسم لتحديد الفضاء الملموس الذي تعيد الحياة فيه ابتكار معجزاتها. وفي هذا السياق، كانت سلسلة "لا أجنحة ولا حجارة" (1948 ــ 1949) التي سعت فيها إلى الإمساك باللحظة المبلبِلة التي تتلامس فيها الكائنات والأشياء وتتعاشق. لوحات تفتننا بصخورها وأمواجها وحيواناتها، وتغوص بنا داخل فضاءات لم يعرف تاريخ الفن مثيلاً لها بشعريتها الغرائبية.

وفي جوار هذه الأعمال، نشاهد لوحات ورسوماً من سلسلة "سبعة سيوف خارج أغمادها" (1957)، نتلقاها على شكل استحضارات أنثوية نابضة بالحياة، وتستمد قوتها الإيحائية من تلك التحولات التي تترجم محاكاة حسّية بين عوالم الحيوان والنبات والمعادن، وبالتالي من توكيد توايين فيها إروسيةَ تناظُرٍ تشرّع أبواب خيالٍ عاشق يشكّل خير مسرحٍ للرغبات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي الصالة الأخيرة من المعرض، تحضر اللوحة التي أنجزتها الفنانة عام 1968 ومنحتها عنوان نصّ شارل فورييه، "العالم العاشق الجديد"، وهو خيار لا مفاجأة فيه لأن يوتوبيا هذا العالم تحاكي على أفضل وجه، فضاءَ الضائعِ الذي لم تتوقف توايين عن البحث عنه ورسم هندسته. محاكاة تتجلى بقوة في أعمالها الأخيرة التي يفتح كل واحد منها باباً على تلك "الغرفة السرّية" (عنوان إحدى لوحاتها) التي يعثر الحب فيها على شكلٍ لما يتعذّر تحديده فيه.

ومن هذه الأعمال، ملصقات قلبت توايين فيها العلاقة بين الداخل والخارج، كما في سلسلة "تقابلات" (1973)، أو استثمرت المفهوم الرومنطيقي للشذرة (أو الجزء) براديكالية تمنح التفصيل قدرة على إنارة ــ من الداخل ــ كلية العمل الذي يحضر فيه، كما في "الأقنعة ــ الملصقات" التي أنجزتها عام 1976 لمسرحية رادوفان إيفسيك، "الملك غوردوغان". وفي جميع هذه الأعمال، كانت تكتفي بإضافة بسيطة كي تجعل من الـ "كولاج" ركيزة مثالية لمحاصرة الواقع وتعرية آفاقه المخفية.

باختصار، أينما حطّ نظرها، تمكّنت توايين من جعلنا نبصر العالم الآخر الموجود في عالمنا. ولأننا اليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى، أسرى عالمٍ مشحون بالصور القابلة للتبديل، تشكّل أعمالها فرصة نادرة لنا لإدراك محنتنا، والإفلات منها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة