ملخص
اهتم بمضمون الأغاني التي يقدمها وتميزت مؤلفاته الموسيقية بروحها الجديدة
في الوقت الذي ترك كثير من سكان العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث، بيوتهم خروجاً بأنفسهم من أوار الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ونزحوا إلى المدن الآمنة خارج الخرطوم، أو دول الجوار السوداني، قرر الفنان والموسيقار السوداني أبو عركي البخيت البقاء وسط نيران المدافع والقصف الجوي في منزله في حي العرضة بوسط أم درمان، تعبيراً عن "موقف رافض للحرب أولاً، ولاعتقاده أن لا ينبغي الرحيل من البيوت حتى في أحلك اللحظات التي تمر بالبلاد"، كما أشار ابنه سيزار أبو عركي لـ"اندبندت عربية".
ويعد البخيت بحسب كثيرين، نموذجاً للفنان الذي يحمل قضايا مجتمعه ووطنه على عاتقه، وله مواقف مشهودة ضد الأنظمة الديكتاتورية في السودان، منذ نظام الراحل جعفر نميري وحتى نظام الإنقاذ، ولم يألُ جهداً في التعبير عن مواقفه السياسية، عبر مضمون غنائه أو صراحة. قاطع البخيت الإذاعة والتلفزيون الرسميين السودانيين لقرابة الثلاثة عقود، احتجاجاً على استيلاء نظام الإنقاذ على السلطة في عام 1989. وعلى رغم مقاطعته تلك، لم يخفت بريقه، وتغلغلت أغانيه العاطفية والنضالية حتى في الأوساط الشعبية في السودان. وانتشر في وسائط التواصل الاجتماعي مقطع فيديو، من داخل منزله في أم درمان، يلقي فيه البخيت قصيدة بالعامية السودانية من نظمه، يتوجه بها إلى زوجته الشاعرة والإذاعية الراحلة عفاف الصادق حمد النيل، داعياً من خرجوا من بيوتهم بسبب الحرب للعودة إليها: "أنا قُلْتَ زمانْ لعفاف... الروحْ رابضة هناك بعظيم القول... وأنا بَرْكِز هنا والسيف مسلول... عاهدتّها إني أكون قدر المسؤولية ولحماية العرض وما أنجزناه سويّا... وبمهابة معقولة أسيبْ تاريخي وأفوتْ علشان أهرب من الموت؟... دا كلام مؤسف وما مقبول وخنوع... ترحل من دارك؟ ودا الرَّبّيت فيهو عيالك... وبَنِيتُهْ بقسوة وشقا عمرَكْ وبدَمْ قلبَكْ... ارجعْ وتعالْ وابعدْ عنّك شبح الخوف".
خيال موسيقي شاسع
وُلد أبو عركي البخيت عام 1948 في مدينة ود مدني، وهو ابن لعامل في مجال الحدادة والنجارة، ويفخر بأنه كان يعمل مع والده في شبابه. قدم البخيت من مدني إلى الخرطوم، والتقى بفناني جيله ومن سبقوه إلى الإذاعة السودانية ومنهم محمد الأمين وعبدالكريم الكابلي وصالح الضي وخليل إسماعيل. ودرس في المعهد العالي للموسيقى والمسرح، في السبعينيات، حيث التقى بزوجته الشاعرة والإذاعية عفاف الصادق وشكّلا ثنائياً منسجماً في الشعر والغناء، وخلّف رحيلها في يناير (كانون الثاني) 2018 حزناً عميقاً في نفسه. لمع نجم أبو عركي البخيت منذ فوزه في مهرجان الأغنية العربية في دمشق في عام 1976 بأغنية "بخاف أسأل عليك الناس" من كلمات الشاعر حسن السر. وأصبح أحد نجوم الشباك في الغناء السوداني. قدم أبو عركي البخيت أغاني عاطفية ونضالية عبر بها عن هموم الشعب السوداني، وتعامل مع عدد من الشعراء الغنائيين مثل سعد الدين إبراهيم، عوض جبريل، هاشم صديق، خليفة الصادق، التجاني حاج موسى، عوض أحمد خليفة، وزوجته عفاف الصادق في عدد من الأغاني.
ولم يهتم البخيت بمضمون الأغاني التي يقدمها فحسب، بل تميزت مؤلفاته الموسيقية بأنها متجددة، كما يشير الفنان وأستاذ الموسيقى علي الزين في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، ويضيف: "قد لا تجد مازورة مكررة أبداً في مؤلفاته الموسيقية وألحانه".
ويضيف الزين: "أبو عركي البخيت عازف عود وكمان وبيانو ومؤلف موسيقي من الدرجة الأولى، ومتمكن من التأليف التعبيري على المستويين الأفقي والرأسي، والأول متاح للمواهب والدارسين لعلوم التأليف، لكن التأليف بشكله العلمي أو ما يسمى بعلم الهارموني أو التجانس يعد من أعقد مستويات التأليف". ويحكي الزين أن أحد عازفي فرقة البخيت علق بأن موسيقاه معقدة حتى على العازفين، فرد عليه أبو عركي بأنه يتابع خياله الموسيقي وليصل إليه الناس متى ما وصلوا. ويرى الزين أن البخيت يقدم أعمالاً لزمن قادم وسيكتشف الناس في المستقبل أن بينهم عبقرياً.
الفنان قلب الأمة النابض
يقول الفنان التشكيلي عصام عبدالحفيظ، وهو أحد أصدقاء البخيت: "هو آخر راية مرفوعة ضد الحرب. خرج السياسيون والمثقفون من الخرطوم، وظل في بيته معبّراً عن موقفه ضد استباحة المدينة ومنازلها وأسواقها، وهي سابقة لم تشهدها جميع الحروب في المنطقة". ويضيف عبدالحفيظ في حديث لـ"اندبندنت عربية"، أن "إصرار أبو عركي نابع من تاريخ طويل في النضال بالفن، واختار من وقت مبكر "المسؤولية"، وهو عنوان إحدى أغنياته الشهيرة، التي صدح بها إحساساً وفعلاً في ميدان اعتصام القيادة في 2019". ويتساءل: "من أين يأتي صديقي بهذه القدرة الهائلة على الصمود والثبات على المبدأ، في زمن اختل فيه التوازن؟"، لكنه يجيب عن تساؤله: "هذا هو أبو عركي كما أحبه وأعرفه وأحيا معه، قلب الأمة النابض دائماً بالفن والمواقف الوطنية الخالصة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يكتب الصحافي صلاح شعيب في مقال له عن البخيت، أنه "بجانب الثقافة الموسيقية التي حصل عليها عبر الدرس تعلق الهم المعرفي للبخيت بدفع حركة مجتمعه التقدمية. وطفق يطور أغنيته بمفردات تعبر عن الهم الوطني في توازٍ مع تسريب لأعماله العاطفية الشجية. وبعد أربعة عقود ونصف تألق متفرداً داخل حقل الغناء، إذ لا يشبه مشروعه الغنائي إلا نفسه". ويضيف: "حافظ على درجة من الالتزام السياسي طوال مسيرته الفنية. وذلك ما جعل بينه ودعاة التغيير السياسي علاقة متواصلة ومثمرة. ولكونه يبتعد كثيراً عن موائد الشمولية التي أحسن مزاورتها زملاء له".
ويؤكد علي الزين، أن البخيت قيمة موسيقية تقدمية ومشروع موسيقي ضخم، حجرت عليه سنوات نظام الإسلاميين الدكتاتورية وحورب وألغيت حفلاته من المسارح العامة، ولم ينكسر، وظل عطاؤه بعيداً من الأجهزة الإعلامية الرسمية ومن المنابر الحكومية.
لكن في المقابل، يتحسر الناقد السر السيد، في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، على حرمان متابعي الإذاعة والتلفزيون السودانيَّيْن طوال ثلاثين عاماً من تجربة البخيت التي لا شك أنها اتخذت مكانها في الوجدان السوداني العام. ويقول: "يقودنا هذا لفتح التساؤل عن دور الفنان، أيناضل بفنه أم بالمجاهرة بمواقفه السياسية؟". ويضيف السيد: "العلاقة بين الفنان وأجهزة الدولة في السودان شائكة جداً، ففي كثير من الأحيان تطغى مواقف الفنانين السياسية على فنهم، ولا تُكتشف إضافاتهم الفنية المهمة إلا مؤخراً".