ملخص
اعتبر فرنسا وطنه النهائي لكنه شعر فيها بالغربة ولم يفز بأي جائزة والأكاديمية تجاهلته
كان ميلان كونديرا يعيش صراعاً عميقاً بين انتمائه التشيكي الأصلي والانتماء الفرنسي المكتسب، ولم يتمكن من حسم هذا الصراع الذي أوقعه في أحيان كثيرة في حال من التناقض. فالكاتب جاهر مراراً بهويته الفرنسية ودافع عنها معلناً أن بقاءه في فرنسا نهائي وليس مرحلياً، وهي موطنه الوحيد. واعترف أيضاً أنه لا يشعر فيها بكونه مقطوع الجذور، كما كان يشعر في براغ خلال الحكم الشيوعي. ومعروف أن كونديرا كان متعصباً لانتمائه الفرنسي هذا الذي وجد فيه خشبة خلاص، لا سيما بعدما منحه الرئيس فرانسوا ميتران الجنسية عام 1981. وهو كان لجأ إلى فرنسا عام 1975 هرباً من الاضطهاد والملاحقة الاستخباراتية له وتضييق الخناق على حريته. ويذكر البعض كيف ثارت ثائرته مرة حين صُنّف في فرنسا نفسها، ككاتب تشيكي فرنكوفوني، فهو كان يصر على رفض التصنيف الفرنكوفوني، ولم يكن رفضه له إلا رفضاً لفكرة المنفى و"الانشقاق"، خصوصاً بعد سقوط المعسكر الاشتراكي. كان يصر على أن يسمى كاتباً فرنسياً من أصل تشيكي وعلى الكتابة بالفرنسية، وعمد إلى نقل كتبه التشيكية إلى الفرنسية.
لكنّ كونديرا لم يستطع أن يكون فرنسياً تماماً، فهو ظل تشيكياً بجذوره ولا وعيه، ولم يغادر الوطن الأول عالمه الروائي، ولا الماضي ولا أناس هذا الماضي. وعندما عرضت عليه استعادة جنسيته التشيكية عام 2019 عبر سفارة تشيكيا في باريس وافق، طاوياً الصفحة القديمة من الرفض والتمرد والتناسي. ولما اتصل به رئيس هيئة جائزة كافكا التشيكية العالمية في سبتمبر (أيلول) عام 2020 وكان في الحادية والتسعين، ليبلغه أن الهيئة وبلدية براغ قررتا منحه جائزة كافكا وتريدان موافقته المسبقة قبل إعلانها، رحب كونديرا، على رغم تأخر هذه الجائزة التي أسست عام 2001 في الوصول إليه، فهي في نظره جائزة وطنية ذات بعد تشيكي وصدى عالمي. وهي تحمل أولاً اسم كاتب كبير شغل الساحة الأدبية العالمية وما برح يشغلها، بأدبه وشخصيته والأسئلة التي طرحها، ثم هي جائزة طليعية تتمتع بطابع مستقبلي، ولا تمنح إلا للكتّاب الذين تجمعهم بكافكا صلة معينة، أثر أو هوى أو اهتمام نظري أو نقدي.
احتضار الفن
كان كونديرا يشعر في قرارة نفسه بحال من الغربة في فرنسا، فهو كما قال مرة، اكتشف في موطنه الثاني إحساساً بأنه جاء إلى عصر ما بعد الفن، "في عالم يحتضر فيه الفن، لكون الحاجة إلى الفن وعشق الفن والحساسية التي يثيرها الفن تحتضر". وفي فرنسا، وعلى رغم كتابته أربع روايات باللغة الفرنسية، لم يفز بأي جائزة مهمة، مثل الغونكور ورونودو ومديسيس ورونودو. وما يثير حيرة كونديرا هنا، فوزه عام 1973 عندما كان لا يزال في وطنه بجائزة مديسيس الفرنسية للأدب الأجنبي عن روايته "الحياة هي في مكان آخر" المكتوبة بالتشيكية. لم يفز كونديرا حتى بجائزة الأكاديمية الفرنسية، التي منحت إلى كتّاب دون مرتبته وحجمه. ولم ينس أن هذه الأكاديمية انتخبت الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا عضواً فيها، علماً أنه يجيد الفرنسية فقط ولا يكتب بها.
لم يشعر كونديرا في فرنسا أن الفرنسيين ينظرون إليه كما كانوا ينظرون إلى الإيرلندي الفرنسي صموئيل بيكيت أو الروماني الفرنسي أوجين يونسكو. ولعل المكافأة الوحيدة التي فاز بها هي دخوله وهو على قيد الحياة، سلسلة "لابلياد" للأدباء الخالدين التي تملكها وتشرف عليها دار غاليمار، وهي التي تبنّت نشر كل كتبه. وكان دخوله هذه السلسلة حياً تكريماً كبيراً له، فنادراً ما دخل هذه السلسلة كتاب أحياء ومنهم مثلاً رينيه شار ومارغريت يورسنار.
قصد كونديرا باريس عام 1975 برفقة زوجته فيرا بعدما أجازت له السلطات الشيوعية السفر شرط أن يقيم في فرنسا مدة 730 يوماً كما أشارت حينذاك صحيفة "لوموند" الفرنسية. فهو كان تلقى دعوة للعمل كمدرس في جامعة رين في مقاطعة بروتاني. ومعروف أن كونديرا كان يتقن الفرنسية جيداً، وقد درس الأدب الفرنسي في براغ وتخصص فيه. في جامعة رين عيّن أستاذاً زائراً ودرّس الأدب المقارن حتى عام 1979، وهو العام الذي جردته فيه الدولة التشيكية من جنسيته ومن كافة حقوقه المواطنية. وفي 1980 انتقل إلى باريس ليدرّس في المدرسة العليا للدراسات الاجتماعية.
أجمل سنوات العمر
يصف كونديرا أن السنوات التي أمضاها في فرنسا هي أجمل سنوات حياته. فالثقافة الفرنسية كانت سبيله إلى الانفتاح على التجربة الأوروبية الفريدة التي كان لها أثر عميق في تكوّنه أو تكوينه الأدبي والثقافي. وقد ساعدته على التحرر من أوهام الأيديولوجيا الشيوعية تحديداً، ومن الأفكار اليسارية الموجّهة ومن ثقافات "الشرق" المؤدلج. وقد نهل كروائي من التقليد السردي الأوروبي العريق المتجلي في أعمال رابليه وديدرو وثربانتس، علاوة على أدب أوروبا المركزية المتمثل في أعمال كافكا وروبرت موزيل وهيرمان بروخ وغومبروفيتش وسواهم. وهذا يعني أن أسلوب كونديرا ارتبط لا سيما في بعض نواحيه الأسلوبية، بأدب القرن السادس عشر وأواخر الثامن عشر والتاسع عشر، عطفاً على القرن العشرين الذي مثله كافكا وبروخ وموزيل كما تمت الإشارة، مع انفتاح قليل على الأدب الأوروبي الطليعي أو "الأفانغارد". ولا يمكن دخول عالم كونديرا وفهم أدبه إلا من خلال هذا المدخل الروائي والفكري.
وضع كونديرا بالفرنسية أربع روايات وكتباً نقدية مهمة في فن الرواية وتقنياتها وأساليبها. وبدت هذه الروايات تختلف بعض الاختلاف عن رواياته التشيكية، خصوصاً في كونها قصيرة بمجملها وقليلة الشخصيات والوقائع. الرواية الأولى التي كتبها هي "البطء" (أو "الهوينى") وصدرت عام 1995، الثانية هي "الهوية" (1998)، الثالثة هي "الجهل" (2003) والرابعة "حفلة اللامعنى" (2014).
حملت الرواية الأخيرة التي كتبها كونديرا بالتشيكية عنوان "الخلود" (1988) وهي تحتوي على سرديات متداخلة ومترابطة بعضها ببعض، وتدور أحداثها في باريس عبر مراحل عدة وسعى فيها كونديرا إلى سبر طبيعة الإبداع الفني. من موضوعة أو تيمة الخلود ينتقل بالفرنسية إلى موضوعة الزمن، طارحاً سؤالين: هل يحيا الكتاب اليوم زمنهم الحقيقي على غرار الكتاب الذين سبقوهم؟ هل ترك لهم العصر الصاخب والمجنون وقتاً ضئيلاً ليستعيدوا فيه متعة التأمل في الزمن وحركته؟
البطء والسرعة
يشرع كونديرا في فضح الزمن المعاصر بدءاً من الصفحات الأولى لروايته "البطء" وعلى لسان الراوي الذي يستقل وزوجته سيارتهما لينتقلا من باريس إلى الريف... غير أن سيارة أخرى تعكر صفاء رحلتهما الهادئة. فالسائق الذي يسير وراءهما متعجل جداً ويحاول أن يتجاوز سيارتهما ويعجز نظراً إلى السيل الذي لا ينقطع من السيارات على الجانب الآخر. والراوي وزوجته لن يستوعبا في رحلتهما الريفية جنون ذاك السائق وسرعته وإصراره على تجاوزهما. وانطلاقاً من المشهد المألوف في حياتنا العصرية يمعن كونديرا في التأمل في السرعة ومعانيها ولكن على طريقته، وبحسب لعبته السردية المتينة... وينتهز الفرصة ليرثي الزمن البعيد الذي غاب واندثر، وليتذكر متسكعيه الذين كانوا يتمتعون بزمنهم وبحركته البطيئة.
تبدأ الرواية من خلال هذه اللحظات الحاسمة لتنفتح من ثم على أفق حكائي وتخييلي آخر يسترجع كونديرا عبره القرن الثامن عشر وإيقاعاته المتهادية. ولا يسترجع الكاتب ذاك الزمن إلا ليمعن في رثاء زمننا المعاصر، ذاك الزمن المخيف الذي فقد إيقاعه ولونه وسحره وهدوءه.
في رواية "الهوية" (الثانية في السلسلة الفرنسية) لا يحس القارئ أن اختلافاً ما طرأ على عالم كونديرا الروائي أو على لغته وعلى التقنية السردية التي يعتمدها. كأن كونديرا الذي أصبح فرنسياً لم يعد يشعر بأنه منفي كما من قبل بل بات يحس أن اللغة الفرنسية هي حقاً لغته الأم الثانية.
ترى هل يكتب كونديرا الفرنسية بسهولة أم أنه يجهد في كتابتها؟ هذا السؤال يجيب عنه الناقد فرانسوا ريكار في تقييمه مجلة "لا بلياد" الذي ضم أعمال كونديار الكاملة، وفي رأيه أن كونديرا حقق معادلة غريبة بعد اعتناقه الفرنسية، حتى أن القارئ يشعر بأن الفرنسية هي لغته الأصلية التي تفوق بها على نفسه.
وقد تنم رواية "الهوية" فعلاً عن حذاقة في التعبير وعن مراس في صوغ اللغة جملاً وتراكيب. وقد استطاع كونديرا عبرها (كما عبر الروايات الأخرى) أن يفرض نفسه ككاتب بالفرنسية.
هوية وانتماء
قد يشي عنوان الرواية الجديدة "الهوية" بما يسمى أزمة "الانتماء"، لكن الرواية هي رواية حب أولاً وأخيراً، ولكنه حب مأزوم كالعادة. وأزمة الهوية ليست إلا أزمة الحبيبين جان مارك وشانتال، في معناها الداخلي، النفسي والوجودي. رواية قصيرة إذاً، تدور حول علاقة حب بين رجل وامرأة في منتصف العمر. ولا يلبث كونديرا أن يختبر هذه العلاقة، جاعلاً منها لعبة بريئة وغير سليمة في وقت واحد.
شانتال البطلة، تنفصل عن زوجها بعد وفاة ابنها في الخامسة من عمره، ثم تدخل في علاقة حب مع جان مارك الاصغر منها بأربع سنوات. بلغت هي منتصف العمر، وتملك وظيفة في شركة إعلانات، أما هو فيقرر العيش معها في منزلها والإتكال عليها مالياً، فلا طموح اجتماعياً أو عائلياً لديه.
تعيش شانتال حالا من اللامبالاة والذبول، وفي ظنها أن احداً لا يرغب فيها. تقول لحبيبها يوماً في ما يشبه المزاح، أن الرجال ما عادوا يلتفتون إليها أو يبالون بها. وتبعاً لسذاجته يصدق الأمر، فيقرر أن يبعث اليها رسائل حب وافتتان وإعجاب، لا تحمل اسما ولا مصدر ارسالها. الغاية هي أن يعيد إليها ثقتها بنفسها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تفرح شانتال بالرسائل المجهولة التي تصلها، فهي تشعل في قلبها نارا عاطفية. لكنّ هذه الرسائل سرعان ما توقظ فيها الشك في هوية هذا العاشق المبتعد، حتى راحت تشك في كل رجل تلتقيه عساه يكون هو صاحب الرسائل. هذه اللعبة الخطرة في معنى ما، التي يختلف الإثنان في تفسيرها، تؤدي إلى خلاف يهدد العلاقة. تتوتر العلاقة بينهما، ويحل التباعد ويفقد كل منهما هويته، كعاشق وعاشقة.
العودة الخائبة
في رواية "الجهل" الصادرة في العام 2000 يلتمس القارئ أنها اشبه بمقاربة لموضوعات راسخة في عالم كونديرا مثل المنفى والعودة والذاكرة. في هذه الرواية يتابع كونديرا حياة المنفى التشيكي يعيشون في أوروبا. جوزيف يقيم في الدنمارك، وإيرينا تقيم في فرنسا، يقرران العودة الى الوطن الأم بعد سقوط النظام الشيوعي، وبعد سنوات عديدة قضوها في المنفى. لكنهما لا يلبثان أن يكتشفا أن العودة إلى الوطن، بعد تحرره لا تماثل ما تخيلاه او توقعاه، فيخيبان خيبة عميقة. يقعان بين سندان الذكريات الجميلة والحنين الى الماضي، ومطرقة الواقع الذي لم يقنعهما بل خيبهما. الزمن الجديد شوّه الذكريات ومحا الماضي وكاد أن يخلخل صورة الوطن. العائدان كلاهما، لا يستطيعان الانسجام مع الناس والحياة في الوطن، بل يخامرهما شعور بالغربة او الاغتراب والحيرة. حتى اللغة الأم تغيرت، وصورة الماضي في ذاكرتهما أمست غير متطابقة مع صورة الراهن.
في العام 2014 أصدر كونديرا في الخامسة والثمانين من عمره، روايته الاخيرة بالفرنسية "حفلة التفاهة"، ولعلها اقصر رواياته. تتوزع الرواية الى سبعة فصول قصيرة وكل فصل يحمل عنوانا. وتجمع بين الهزل والدراما، في القائها نظرة على هزالة الواقع والحياة والسياسة. تركز الرواية على خمسة رجال يعيشون في باريس وتربطهما صداقة ما: ألان، رامون، شارل، كاليبان ودارديلو.
كان السؤال يطرح دوما عند إصدار كونديرا رواية بالفرنسية: هل يعود إلى اللغة التشيكية؟ لكن كونديرا خيب كل من طرح هذا السؤال، في إصراره على الكتابة بالفرنسية، لغته الام الثانية. لكنّ سؤالاً آخر يطرح أيضا: ما وجوه الإلتقاء والإفتراق بين روايات كونديرا بالتشيكية ورواياته بالفرنسية؟ هذا السؤال يمكن طرحه في صيغة أخرى: ما هي ملامح الشبه والاختلاف بين كونديرا الروائي التشيكي وكونديرا الروائي الفرنسي؟