تشكل رواية "شتيلر" للروائي السويسري ماكس فريش (1911 – 1991) نقطة تحول في حياته، جعلته يعتزل عمله في هندسة العمارة، ويتفرغ لهندسة الرواية. والرواية التي تطرح سؤال الهوية، في سويسرا خاصةً، وفي أوروبا عامةً، مما أفرزته الحرب العالمية الثانية، كانت قد صدرت بالألمانية، في عام 1954، عن دار "زور كامب" في فرنكفورت. واليوم، في الذكرى العاشرة بعد المئة لولادة الكاتب، والذكرى العشرين لرحيله، تصدر بالعربية عن داري "سرد" و"ممدوح عدوان"، بتعريب الكاتب المصري المقيم في ألمانيا سمير جريس، الذي ناهزت ترجماته عن الألمانية ثلاثين عملاً أدبياً، تشكل "شتيلر" ذروتها. فالمترجم بذل جهداً واضحاً في نقل هذه الرواية الطويلة (600 صفحة) والمحكمة البناء ليخرجها في حلة متقنة وجميلة.
يبدأ الكاتب روايته، على لسان الراوي البطل، بعبارة "لست شتيلر"، ما يطرح سؤال الهوية الشخصية منذ البداية. وهذه العبارة يتفوه بها الراوي، في معرض الاحتجاج على قيام شرطة الحدود السويسرية بتوقيفه في القطار، في مدينة زيورخ السويسرية، على خلفية اشتباه أحد المسافرين فيه. فينفي أن يكون هو النحات السويسري شتيلر، المفقود منذ ست سنوات. ويزعم أنه وايت، المواطن الأميركي من أصل ألماني، الآتي من المكسيك، ما يستدعي وضعه في سجن احتياطي على ذمة التحقيق. وبين الهويتين القديمة والجديدة، تمتد أحداث الرواية، وتجري تحقيقات مطولة للتأكد من الهوية الحقيقية للراوي. هل هو النحات السويسري المتزوج من راقصة الباليه الجميلة يوليكا، المقيمة في باريس، والذي انقطعت أخباره، منذ ست سنوات، ولا يزال البحث عنه جارياً؟ أم هو وايت الأميركي الألماني القادم من المكسيك؟
في مواجهة هذه المعضلة، تحاول الشرطة، انطلاقاً من المعطيات المتوافرة بين أيديها، أن تثبت أن الراوي هو الرجل المفقود الذي يتم البحث عنه. وفي المقابل، ينكر هو معرفته به، ويصر على أنه وايت. وتندلع معركة غير متكافئة بين الإثبات والإنكار، يستخدم كل من الطرفين الأسلحة المتوافرة له، وتتمخض عن نتائج معينة في نهاية الرواية. وهذه المعركة ينخرط فيها كثيرون. تنشأ خلالها علاقات وتنقطع أخرى. يموت فيها ماضٍ، ويحيا آخر. يتغير حاضر ويترتب عليه مستقبل. تتوازى مسارات وتقاطع. وتتشابه مصائر وتختلف.
آليات الإثبات
على الطرف الأول، تستخدم الشرطة أسلحة الشخوص والأدوات والأماكن لتثبت للراوي المتنكر لماضيه أنه هو الشخص المطلوب، وأن إنكاره هذه الحقيقة لا يجدي نفعاً. وتستخدم أساليب راقية في التحقيق بعيداً من الأساليب التقليدية المستخدمة حول العالم؛ فتتم الاستعانة، على مستوى الشخوص، بكل من كانت له علاقة بالشخص المفقود، بطريقة أو بأخرى، لعل الموقوف يتذكر هويته السابقة. ويدخل في عداد هؤلاء: الزوجة يوليكا المقيمة في باريس، والمدعي العام رولف الذي كانت زوجته زيبيله على علاقة به، العشيقة السابقة زيبيله، الأخ فيلفريد شتيلر، المحامي الدكتور بونينبلوست، الحارس كنوبل، المهندس المعماري الشاب شتورتسن إغر، زوج أمه المقيم في مأوى العجزة، وآخرون. وتتم الاستعانة، على مستوى الأدوات، بمنحوتات، وألبوم صور، وأعتدة عسكرية، ورسائل، ومقطوعة موسيقية. وتتم الاستعانة، على مستوى الأماكن، باصطحاب الموقوف على ذمة التحقيق إلى أماكن كان يرتادها المفقود، من قبيل: ساحة عامة ترفع نصباً تذكارياً من نحته، وعيادة طبيب أسنان كان يختلف إليها، ومستودع أسلحة فيه عتاده الذي استخدمه في الحرب الإسبانية، والأتيليه الذي كان يصنع فيه منحوتاته. غير أن جميع هذه الأسلحة تبوء بالفشل، ويبقى المنكر على إنكاره.
على الطرف الآخر، يستخدم وايت أسلحة الكذبة والذكرى والحكاية ليثبت هويته الشخصية، فيخبر المحققين، على أنواعهم، بذكرياته ومشاهداته وانطباعاته في الأماكن التي زارها، ويخترع الأكاذيب، ويحكي الحكايات المتخيلة، وينسب لنفسه ارتكاب عدد من الجرائم. وهو، في حكاياته، ينحو منحى شهرزادياً، فينتقل من حكاية إلى أخرى وفقاً لمقتضى الحال. ولعله، باستخدام هذه الآليات، يحاول تحقيق عدة أهداف معاً؛ فيقاوم الحبس الاحتياطي، وينكر الهوية السابقة، ويثبت الحالية، وينسج علاقات مع الآخرين. غير أن محاولاته تبوء بالفشل في تحقيق أهدافها باستثناء الهدف الأخير منها المتمثل في نسج علاقات مع الآخرين.
حيلة الدفاع
في معرض زيارة الأماكن العائدة لشتيلر، يتم اصطحاب وايت لزيارة الأتيليه. وهناك، يعمد إلى تحطيم عديد من المنحوتات على مرأى من الآخرين. ويستمع إلى نصائح المحامي له بالاعتراف بأنه شتيلر ليتمكن من الدفاع عنه. ويأتي حكم المحكمة بعد بضعة أيام ليحكم بأن وايت هو نفسه شتيلر. وهنا، يعود الراوي ليلعب دور شتيلر، وتترتب على ذلك العودة إلى الزوجة يوليكا، وانتقالهما للعيش في وسط زراعي على ضفة بحيرة جنيف، بعيداً من صخب المدينة وأضواء الفن. وفي معرض محاولات الراوي الدفاع عن وجهة نظره، تقوم علاقات متنوعة بينه وبين الآخرين.
في هذا السياق، تتمخض محاولاته عن: قيام استلطاف متبادل بينه وبين الحارس المولع بسماع حكايات، ونمو صداقة بينه وبين المدعي العام، وعلاقة حب بينه وبين يوليكا. وهذه العلاقة الأخيرة، معطوفة على علاقة المدعي العام بزوجته زيبيله، تشكلان العمود الفقري للأحداث. والعلاقتان المتوازيتان تتقاطعان في غير موضع من الرواية؛ ففي البدايات، ثمة علاقة غرامية بين شتيلر وزيبيله. وفي الأثناء، ثمة صداقة بين شتيلر ورولف. وفي النهايات، ثمة صداقة بين الأسرتين. والتوازي والتقاطع كلاهما ينجم عن حركة الأحداث في مجرى الرواية. وبمعزل عن هذا التقاطع بين العلاقتين المحوريتين في الرواية، لا بد من إلقاء الضوء على كل منهما على حدة، لأن كل علاقة تمثل شريحة اجتماعية معينة في العالم المرجعي، السويسري والأوروبي، الذي تحيل إليه.
العلاقة الأولى
العلاقة الأولى تقوم بين فنانين اثنين، شتيلر النحات، ويوليدا الراقصة. وتعكس، بتوتراتها، حساسية الفنانين المفرطة، وتقلب أمزجتهم، وسرعة عطبهم، وهشاشتهم الشخصية، وجنوحهم الدائم إلى التغيير، والهرب من المواجهة، وعدم التورع عن ارتكاب الخيانة، والقدرة على التسامح والبدء من جديد. فشتيلر النحات الهش يلتقي يوليدا الراقصة الجميلة، ويتمكن من استمالتها إليه، على الرغم من إعراضها عن كثير من طالبي ودّها. وتقوم علاقة حب بينهما تتكلل بالزواج. غير أن واقعتين اثنتين يعيشهما، تتركان أثرهما السلبي على علاقته الزوجية؛ ففشله في إطلاق النار على أربعة فاشيين خلال مشاركته في الحرب الإسبانية، والملاحظة التي أبدتها يوليكا على رائحة جسده في ليلتهما الأولى، تحفران عميقاً في نفسه، وتؤسسان لسلسة من الانهيارات في العلاقة بين الزوجين. تتمظهر في إقدام كل منهما على الانخراط في علاقة أخرى، واختفاء شتيلر من حياة يوليدا تاركاً إياها لمصيرها في مصحة دافوس تعاني الوحدة وداء الرئة، حتى إذا ما تم توقيفه، بعد ست سنوات، وجيء بيوليدا للتأكد من هويته الحقيقية، تتجدد العلاقة بينهما، ويرتبطان مجدداً، وينتقلان للعيش بعيداً من الأضواء على ضفاف بحيرة جنيف. غير أن الترميم المتأخر للعلاقة لا يصلح ما أفسد الدهر بينهما، فلا هو يفهم ما تريده، ولا هي تعبر عن إرادتها. ويعيشان غربة مضاعفة؛ نفسية ومكانية. تنتهي بموت يوليدا إثر عملية جراحية، وعكوف شتيلر على وحدته.
مصائر موجعة
العلاقة الثانية تقوم بين رولف، المدعي العام الذي يحاول الاحتكام إلى العقل في حياته، ويؤثر الموضوعية في النظر إلى الأمور، وزيبيله التي تحتكم إلى عواطفها، وتنظر إلى الأمور من منظار ذاتي، ما يجعل علاقتهما الزوجية مشوبة بالتوتر، ويجعل كل منهما ينخرط في علاقة أخرى. فتكتشف زيبيله أن زوجها على علاقة بأخرى، وتدخل هي في علاقة مع شتيلر بعد تعارفهما في حفل تنكري. ويترتب على ذلك رحيلها مع ابنها إلى نيويورك بحثاً عن فرصة عمل وبداية جديدة، تاركةً رولف لوحدته في زوريخ، حتى إذا مرت بضع سنوات، يلتحق بها ليرتبطا نهائياً. وبعد العودة إلى زيورخ، تنشأ علاقة صداقة بين رولف المدعي العام وشتيلر الموقوف على ذمة التحقيق، على الرغم معرفته بالعلاقة القديمة بينه وبين زوجته، وتتطور إلى صداقة بين الأسرتين، يكون آخر تمظهراتها زيارة إلى غلبون، حيث يقيم شتيلر وزوجته، وشهادتهما وفاة الأخيرة، ووقوف رولف إلى جانب صديقه في مصيبته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهكذا، يرسم الكاتب مصائر موجعة لمسارات وعرة، فتموت يوليدا جسدياً بداء الرئة بعد موتها النفسي بالوحدة والغربة. ويخلد شتيلر إلى الحزن والشعور بالتقصير. ويعود رولف من حيث أتى. على أن رسم الشخصيات في الرواية لا يتناسب دائماً مع الوظيفة المسندة إلى الشخصية. وحسبنا الإشارة، في هذا السياق، إلى مثلين اثنين؛ فالمحامي بونينبلوست يمارس الضغوط على الموكل، ويدفعه إلى الاعتراف بهويته الأولى كي يتمكن من الدفاع عنه، بينما طبيعة عمله تقضي بتفهمه، والوقوف إلى جانبه، والدفاع عنه. والمدعي العام رولف يتعامل مع المشتبه فيه بكثير من المرونة والإنسانية، ويتحول إلى صديقه، في نهاية المطاف، في كسر للصورة النمطية لوظيفة المدعي العام. إلى ذلك، يغيب عن النص أي احتمال لكون شتيلر مريضاً نفسيا، يعاني انفصام الشخصية، ويقتضي توفير العلاج المناسب له، بمعزل عن آليات التحقيق وأساليبب المحققين، ما يشكل ثغرة واضحة في هندسة الرواية.