Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

طعام التونسيين أسير لثلاثي الملح والسكر و"الفرينة"

يستهلك الفرد سنوياً 70 كيلوغراماً من الخبز والمعجنات بينما يعاني أمراض السمنة 29 في المئة

باتت تونس مهددة في قدرتها على توفير قوت مواطنيها بسبب هجرتها زراعة القمح الصلب (الحقوق محفوظة - وسائل التواصل)

ملخص

تحتل تونس المرتبة الثانية عالمياً بعد إيطاليا في استهلاك المعجنات بكافة أشكالها

يعوّل التونسيون في غذائهم اليومي على المعجنات الشعبية ومكوناتها المتعدّدة من الخبز و"المقرونة" (المعكرونة) و"الكسكسي" و"المحمصة"، حيث تحتلّ تونس المرتبة الثانية عالمياً في استهلاك العجائن بعد إيطاليا.

ويعتبر الخبز أساس الغذاء اليومي في تونس حتى أن بعض التونسيين يستهلكونه مع "الكسكسي" و"المقرونة"، ما يجعله "سيّد" المائدة التونسية بامتياز، ويعتبر خبز "الطابونة" من أقدم الأنواع، إذ يرجع بحسب المؤرّخين والحفريات إلى القرن السادس قبل الميلاد.

وكان المجتمع التونسي في فترة ما قبل الاستعمار الفرنسي، مجتمعاً فقيراً لا يتجاوز عدد سكانه الخمسة ملايين نسمة، يعتمد على الزراعة وتربية الماشية، وتوفر زراعة الحبوب من قمح وشعير الاكتفاء الذاتي من الدقيق الذي يُستغل في تحضير "العولة" أي المؤن السنوية من "الكسكسي" و"المحمصة" بينما يتم تخزين الشعير كأعلاف للمواشي.

ومن العادات القديمة في تونس التي اندثرت أو تكاد تختفي "العولة" حيث يتم استخراج الدقيق من القمح الصلب بعد رحيه ويُخصّص على مدار السنة لصنع الخبز، كما يتم إعداد "الكسكسي" و"المحمصة" يدوياً في إطار حفل عائلي أو بين الجيران يكون عادة في نهاية موسم الحصاد.

ومع تطوّر المجتمع، وولوج المرأة سوق الشغل، تلاشت هذه العادات الغذائية وأصبح التونسيون يستهلكون ما تنتجه مصانع العجين والمخابز العصرية من خبز و"مقرونة" و"كسكسي" وغيره.

وارتفع استهلاك الفرد الواحد في تونس من الخبز ليبلغ سنويّاً 70 كيلوغراماً، وفق أرقام المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، بينما ترتفع هذه النسبة خلال شهر رمضان بنسبة 34 في المئة عن المعدلات العادية.

الخبز والمجتمع

لقد تحوّل المجتمع التونسي من استهلاك خبز "القمح" والشعير" و"الحمرايا" و"كسكسي العولة" المصنوع من القمح الصلب، إلى خبز يصنع في المخابز، من "الفرينة" (الدقيق المستورد)، ويتكوّن من كميات كبيرة من الملح والسكريات، بينما يتقلّص إنتاج تونس سنوياً من الحبوب بسبب الجفاف والتغيرات المناخية، في المقابل يزداد الطلب على الحبوب في الأسواق العالمية، وسط صعوبات كبيرة تواجهها المالية العمومية، وإزاء هذه المؤشرات ألم يحن أوان تغيير السلوك الغذائي للتونسيين؟

يقول المؤرّخ التونسي والمتخصص في التاريخ الاقتصادي المعاصر بالجامعة التونسية لزهر الغربي، في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، إن "النظام الغذائي للتونسيين كان القمح الكامل والشعير ومشتقاتهما متوازنة فيه، إلا أن الاستعمار الفرنسي أدخل عادات غذائية سيئة منها ما كان يسمى وقتها بـ"خبز البيْ" (الباي)، أو الخبز الأبيض، لأن المستعمل قبل ذلك كان يميل إلى السّمرة لأنه مشتق من القمح الصلب".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويضيف متخصص التاريخ الاقتصادي أن "الاستعمار الفرنسي كان يصدّر القمح الصلب وهو من النوعية الجيدة والصحية، ويستورد ما يسمى بـ"الفرينة" التي يستخرج منها الخبز إلى اليوم، وهي تختلف جوهرياً في الشكل والمكونات عن خبز "الطابونة" الناتج من حبوب القمح الصلب ذات المكونات الغذائية العالية".

ويشدّد لزهر الغربي، على أن تغيير السلوك الغذائي للتونسيين شمل الخبز والزيت حيث بدأت سلطات الاستعمار تورّد زيوت الطبخ الحالية عوضاً عن زيت الزيتون الذي كان يستعمله التونسيون في الطهي، لافتاً إلى "وجود دورتين في الفلاحة التونسية في ذلك الوقت وهي دورة للزيت وأخرى للقمح والشعير، حيث كان يتم تصدير الفائض للخارج".

ويذكر الغربي أن "التونسيين رفضوا في البداية تغيير عاداتهم الغذائية التقليدية، كما لم يستسيغوا استهلاك "المقرونة" لتشبثهم بعاداتهم القائمة على طعام "الكسكسي" و"خبز الطابونة"، لذلك كان سكان العاصمة يسمّون الخبز الذي يتم تحضيره في المخابز العصرية بـ"المصنوع".

الحبوب المروية

 وإثر توجّه الدولة في ما بعد نحو توريد الحبوب وطحنها ثم توزيعها على المخابز وبيعها بسعر محدّد تغيرت عادات التونسيين الغذائية ودخل ما يسمى "الخبز الطلياني" و"الباقات" و"الكسكسي المعلّب" و"المقرونة" ومشتقاتها، وتخلّى التونسيون شيئاً فشيئاً عن "خبز الطابونة" بأنواعه الأسمر والقمحي والمستخرج من الشعير و"كسكسي العولة" و"المحمّصة".

ويعتقد لزهر الغربي أن هذه العادات الغذائية لها كلفتها الصحية والاقتصادية، ووسط تنامي الطلب على الحبوب في العالم باتت تونس مهدّدة في قدرتها على توفير قوت التونسيين، بينما هي قادرة حال تم وضع سياسات عمومية في القطاع الفلاحي لتأمين جزء كبير من حاجاتها من الحبوب.

وفي السياق يقترح عضو المجلس المركزي للاتحاد الوطني للفلاحة والصيد البحري أنيس خرباش "الاعتماد على الحبوب المرويّة من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي، وكذلك تحسين الخريطة الفلاحيّة والتخلي تدريجاً عن التوريد".

الفرينة البيضاء

وعن الكلفة الصحية لهذه المنتجات الجديدة من العجين تؤكد أخصائية الصناعات الغذائية، رفقة المولهي أن "العجين مادة ضرورية للجسم توفر الطاقة إلا أن الإفراط في استهلاكه يؤدي إلى الإصابة بالسكري والسمنة وضغط الدم".

وأضافت المولهي أن "الخبز الذي نستهلكه اليوم يُصنع من "الفرينة" البيضاء التي تفقد قيمتها الغذائية بعد أن يتم طحنها جيداً، ما يجعل السكريات تتسرب مباشرة إلى الدم، بينما كان الخبز في السابق يصنع من القمح الصلب أو الشعير وله قيمة غذائية عالية لأنه غني بالألياف".

وبينما يزداد الإقبال على استهلاك الخبز وبقية المواد المستخرجة من العجين بسبب سعرها المناسب والمدعوم، تزداد الكلفة الصحية لهذه العادات الغذائية حيث يعاني نصف التونسيين من السمنة المفرطة والسكري، إذ تفيد إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء، أن 15.5 في المئة من الفئة العمرية 15 سنة فما فوق، مصابون بالسكري، و29 في المئة يعانون من أمراض السمنة.

وسبق لإدارة الرعاية الصحية الأساسية بوزارة الصحة، أن حذّرت في بيان من أنّ معدّل الملح في الخبز التونسي غير مضبوط ويتفاوت من مخبز إلى آخر، وقد يعرّض هذا التفاوت المواطنين إلى الإصابة بعدة أمراض من بينها ارتفاع ضغط الدم والسكري وأمراض القلب والشرايين.

ويشار إلى أن التونسيين يستهلكون يومياً 12 غراماً من الملح، في حين أن معدل الاستهلاك الطبيعي التي توصي به منظمة الصحة العالمية لا يتجاوز 5 غرامات في اليوم الواحد.

كلفة اقتصادية عالية، وثمن صحي باهظ، تدفعه الدولة والمواطن التونسي إزاء عادات غذائية بالية تقوم على ما يسمى "السموم البيضاء" وهي الملح والسكر و"الفرينة"، وأثبتت الدراسات فشلها في خلق أجيال متوازنة صحياً وغذائياً، بينما ينتظر التونسيون وضع سياسات عمومية فلاحية جديدة تثمّن المنتج الوطني من الحبوب، وتغيّر تركيبة الخبز الحالي بما يتلاءم والمعايير الصحية العالمية، وتقطع مع سياسات التوريد، في عالم يتصارع من أجل قوت شعوبه.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات