Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حرب الخرطوم... وما هو عنها بالحديث المرجم

تتراشق الصفوة اتهامات عن مسؤولية أطرافها في إشعال المعارك واتفقت على شيء واحد وهو الجهل بطبيعتها

لربما فات على صفوة السودان في هذا الكيد المتبادل مفهوم هذه الحرب الدائرة ومغازيها (أ ف ب)

ملخص

لا يعرف المرء على أي تعريف للحرب الأهلية استند القائل إن حرب السودان غير أهلية طالما كانت بين قوتين متنافستين متعاديتين.

تتراشق صفوة السياسة في السودان التهم بتحميل كل طرف للآخر وزر الحرب حصرياً. فقوى الحرية والتغيير المركزي (قحت) في الاتفاق الإطاري، الموقع مع الجيش و"الدعم السريع" في ديسمبر (كانون الأول) 2022، تتهم أنصار النظام القديم، الفلول، بإشعال الحرب للعودة إلى الحكم عن طريقها. ومن جهتهم يتهم هؤلاء الأنصار من الإسلاميين وغيرهم قحت (ويلفظونها "قحط") بإثارة الحرب لاستعادة نفوذهم في الحكم عن طريق الاتفاق الإطاري الذي اعتزلوهم فيه وآخرين وأقصوهم.

ولربما فات على هذه الصفوة في هذا الكيد المتبادل مفهوم هذه الحرب الدائرة ومغازيها. وهو فوت عظيم على من عليه الاتكال في فض هذه المغازي وتأمين الخلق.

فليس واضحاً لكثير منها ما طبيعة هذه الحرب العوان. فتجد من يقول لك إنها ليست حرباً أهلية في معيار ليبيا وسوريا لأنها لا تزال حرباً بين قوتين متنافستين متعاديتين. فعليه وجب أن ينصرف الجهد الآن إلى إيقافها قبل أن تصبح حرباً أهلية ويتسع الخرق على الراتق.

ولا يعرف المرء على أي تعريف للحرب الأهلية استند القائل إن حرب السودان غير أهلية طالما كانت بين قوتين متنافستين متعاديتين. فالحرب الأهلية تعريفاً هي صدام هاتين القوتين المتنافستين. فهي الحرب التي يلتحم فيها جيشان بلغا من التنظيم والعدد أوجهما. وهي حرب تتطاول في أمدها ويبلغ فيها العنف درجاته القصوى. وفي تعريف آخر هي صدام شرس بين الدولة وواحد أو أكثر من فصائل مسلحة في عقر دار الدولة.

والتعريف للحرب الأهلية في صورتيه منطبق على الحرب السودانية الناشبة سوى أن تسليح "الدعم السريع" مما أسهمت فيه الدولة، أو غضت الطرف عنه، لغرض في نفس يعقوب. ومن المستغرب أن يغرب عنا مفهوم الحرب الأهلية في بلد لم يعش إلا لماماً من دون مثل هذه الحرب، سواء أكانت حروب القوميين الجنوبيين المتواترة منذ 1955، أو حروب الحركات المسلحة في دارفور.

بدت لي خشية النفر منا من تحول الحرب الدائرة إلى حرب أهلية، وهي حرب أهلية بلا جدال، هو أن تتحول إلى حرب ما بين جماعات أهلية من الإثنيات والقبائل مما يعرف بـ inter-communal war. وهي الحرب التي تتفجر على خطوط عرقية أو إثنية تتقصد الأطراف فيها ضحاياها على بينة الانتماء للجماعة العدو.

وأقرب حروبنا إلى هذا المعنى هي الحرب الدائرة لوقتنا في الجنينة بغرب دارفور. ويقرنها رواة الأخبار بحرب الخرطوم اقتران النتيجة بالسبب. إلا أن حرب الجنينة حرب أخرى. فتعود في أقرب تاريخ متصل لها إلى عام 1989 كصدام بين المزارعين من شعب المساليت الأفارقة وأعراب بادية من دارفور وتشاد في ظرف تصحر الساحل وجفافه. فزاحم البدو العرب المساليت واعتدوا على مواردهم.

وتفاقم النزاع في عام 1994 الذي صدر فيه تشريع من دولة الإنقاذ استباح حاكورة المساليت للبدو مكافأة لهم على خدمات عسكرية وسياسية أسدوها للنظام. وخرق ذلك التشريع أعراف الحاكورة وهي الدار التاريخية المتعينة للجماعة المعينة ويكون لها السلطان فيها. فلا يدخلها أحد إلا برضائها. ويبقى فيها تابعاً لصاحب الحاكورة لا يطمع في احتلال موقع سياسي فيها مثل مقام النظارة (في قمة هرم الإدارة الأهلية) بل ويخضع لإتاوات على وجوه انتفاعه من موارد الدار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واحتجت المساليت على استباحة دارها فلم تسمع الإنقاذ منها. وتساوق النزاع المضرج بين العرب البدو والمساليت وجاء بدقائقه تقرير "هيومان رايتس ووتش" بعنوان "خراب دارفور: تصفية الحكومة والميليشيات الإثنية بغرب دارفور" (2004). وسعى المساليت، حيال خذلان الحكومة لهم، للدفاع عن أنفسهم مراراً بوجه البدو المسلحين المعززين بقوات "الدعم السريع". ولم يستطيعوا صد العدوان عليهم، أو على دارهم كما نرى في هذه الأيام. وعليه بالوسع القول إن ما يجري في غرب دارفور هو تصفية عرقية كما يقول أهلها لا صراعاً قبلياً كما تذيع الدولة والصحافة، ولا حرباً بين إثنيات متكافئة القوة والموارد. وهي كذلك، أي تطهير عرقي، مع أنها الأقرب للمنزلق الذي يتخوف بعض صفوتنا أن تنحدر إليه حرب الخرطوم.

اتفق لكثير منا أن ما يجري في الخرطوم هو حرب مدن. ومعلوم تزايد معدل حروب المدن في العالم بسبب توسع المراكز الحضرية في مقابل الريف. فنحو 55 في المئة من سكان العالم أهل مدن. وفاقم من هذه الديموغرافيا ارتباك النظام السياسي في العالم الثالث وهشاشته. وقيل إن حرب الخرطوم، بصفتها حرب مدن، أكثر مواتاة لـ"الدعم السريع" ذي الباع في مرونة الحركة وخفتها خلافاً للجيش الذي لم يدرب على مثل تلك الحروب.

وقال أحدهم مع ذلك ليس من جيش نظامي مدرب على حرب المدن بما في ذلك الجيش الأميركي المدرب على حرب الغابة والجبال وحتى المحيط المتجمد وليس المدن. ومتى جرى استدعاء الجيش لفض مثل هذه الحرب بعد فشل الوسائل الأخرى هد المدينة التي جاء لإنقاذها. ولذا قيل إنها أسرع الحروب إلى نهايتها. وحقيقة الأمر مع ذلك أن تدريب "الدعم السريع" اقتصر على حرب السهل. فلم يعرف عنه أنه حارب في مدينة مستحقة للاسم. ولم يقع له التدريب حتى على حرب الجبل، فقد عاد بخفي حنين حين بعث به نظام الإنقاذ ليحرر جبال النوبة من الحركة الشعبية التي احتلت قسماً كبيراً منها.

وحرب الخرطوم ليست حرب مدن بمعنى أكثر دلالة. ففي حرب المدينة يوظف ثوارها الفضاء المديني عن ضعف ليستقووا به. وشرطها الأول تعاطف سكان المدينة المعنية معهم، ومعرفة كادر الثوار بمعالم المدينة لسلاسة الحركة. وتكتيكها الرئيس هو "اضرب واختف بين جمهرة حاضنتك من أهل المدينة". وهي أشراط لم تتوافر لـ"الدعم السريع" في حربه هذه. فغير خاف أنه على خصومة شديدة مع المدينة. وكان محمد حمدان دقلو في أول أيام الثورة قال إنه سيري المدينة وجهاً منه سترضاه. ولم تر المدينة منه ما ارتضته. ففض دعمه السريع الاعتصام حول قيادة القوات المسلحة، ذؤابة ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، بفظاظة كانت هي الوجه الذي رأته المدينة منه. ولم يتفق لها. وبلغ بقواته شطط هذه الفظاظة حد ملاحقة الشباب وإخضاعهم لجز شعورهم في الطرقات العامة.

وخلافاً لحرب المدن أدار "الدعم السريع" حربه لا بتكتيك "اضرب واختف"، بل من مقار معروفة بآليات ثقيلة لا يزعم زاعم أنها خفيفة الحركة سلسة. وما دك الجيش هذه المقار بسلاح الجو حتى تشرد "الدعم السريع" بين الأحياء لا ليأوي إلى أنصار متعاطفين بل ليحتل دورها فيجعل من سكانها درعاً بشرياً. فالقول إن ما يجري في الخرطوم حرب مدن، لا يخلو من غلو.

يقال إن الحرب الأهلية وغيرها إما وقعت عن مظالم تكبدتها جماعة من الناس أو عن سانحة توافرت لجماعة من الناس. وتميل جماعة من الصفوة إلى القول إن حرب "الدعم السريع" انبعثت عن تظلم ريفي من حكم طبقة الحكام من النيل الأوسط الذين توارثوا الحكم منذ الاستقلال ولم يحسنوا. وهذا الإحلال والإبدال في دست الحكم هو الفكرة من وراء دعوة السودان الجديد التي خرج بها العقيد جون قرنق وحركته الشعبية في 1983. وألهمت الفكرة حركات دارفور المسلحة وغيرها من الدوائر السياسة بما فيها قطاع من صفوة النيل الأوسط. وتلخصت الدعوة في كسر المركز السياسي لنخبة النيل الأوسط العربي الإسلامي والقسط في توزيع السلطة والثروة.

وصحت الفكرة بالطبع إلا أن تشميل حميدتي فيها إبعاد في النجعة. فمطلب حميدتي في الحكم صادر عن محض سانحة لا تظلماً. فلا تجده أذاع يوماً رؤية لمظالم وقعت عليه من الدولة يريد محوها. فلم يعرف أنه احتج على الدولة في غير مرة واحدة لم تلتزم الحكومة بدفع استحقاقات له منها فخرج عليها في حركة مسلحة لم تدم لغير بعض الوقت ثم اصطلح. خلافاً لذلك أنفق حميدتي سحابة عمره أجيراً لهذا المركز الذي تنادت لحطمه نظرية "الهامش والمركز". فظل حميدتي أجيراً لهذا المركز سواء لصانعه الرئيس المخلوع عمر حسن أحمد البشير يقضي له على الثورات التي عزمت على كسر هذا المركز لرفع الظلم عن أهلها، أو للمجلس العسكري والقادة العسكريين من سادوا منذ ثورة ديسمبر 2018.

وكان آخر خدماته للإنقاذ هزيمته النكراء للعدل والمساواة في معركة قوز دنقو (أبريل/ نيسان 2015) التي كادت تقضي على الحركة لولا قيام ثورة ديسمبر 2018. وكان حليفاً مع المركز بعد ثورة ديسمبر 2018 وله القدح المعلى في مجزرة فض اعتصام ثورة ديسمبر في 4 يونيو (حزيران) 2019 وحصار حكومتها الانتقالية حتى انقلب عليها وقيادة الجيش السوداني معاً في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021. ولا نعرف نهوضاً ضد مركز الحكم في مثل رصانة هذه الثورة. فوحدها هي التي أرادت محاكمة المركز الذي أطاحت به ومساءلته عن 30 عاماً من حكمه البور.

وعلى خلاف من ثاروا لتظلمهم من تهميش المركز لهم كان المركز من عاظم من فرص حميدتي لطلب الحكم وأغراه به. فجعل قانون "الدعم السريع" لعام 2017 وتعديله في 2019 منه جيشاً ثانياً كما أراد له حميدتي في 2017 صريحاً في برنامج تلفزيوني. وترافق مع ذلك أن انفتحت عليه أبواب المال من استثماراته الكثيفة وأعماله، وعقوده في إجارة قوات دعمه السريع للراغب حتى كان الاتحاد الأوروبي من زبائنه يكف عنه الهجرة غير الشرعية. واقتحم حميدتي بعد الثورة أروقة المركز ليصبح الرجل الثاني في الدولة. وهي منزلة لم يحصل عليها العقيد قرنق إلا بعد حرب نحو ربع قرن من قتال المركز ثم الاصطلاح معه في 2005.

وشيد حميدتي من فوق هذا السلطان مملكة سياسة أنفق عليها بغير حساب. ولم يروع الناس في هذه الحرب مثل شهودهم ما أعده لها من رباط الخيل. فغر لها السودانيون فم الدهشة: كيف راكم الرجل هذا العتاد في وضح النهار وعين المركز تعاين؟ فإن كانت لحميدتي مظلمة من المركز فهي أنه لم يسلمه الحكم حين طلبه عن يد وهو صاغر.

تلوك الصفوة اتهامات لبعضها البعض عن مسؤولية أطرافها في إشعال الحرب الدائرة. وهي من الحديث المرجم الذي صرفها عن إدراك مفهوم الحرب القائمة أو تحليل دلالاتها السياسة والاجتماعية والعسكرية التي أتينا على بعضها في هذا المقال. واتفقت هذه الأطراف في شيء واحد على رغم وسع الشقة بينها وهي الجهل بحرب يعدها بعضهم عبثية بينما يعدها الآخر من ذرى الوطنية السودانية.

المزيد من آراء