Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل خسر السودان قصره الجمهوري الأثري في الحرب؟

اتهامات متبادلة بين الجيش والدعم السريع حول تدمير الموقع البارز

أضيفت في فترة حكم عمر البشير مساحات جديدة للقصر الرئاسي في الخرطوم لتصبح مساحته الكلية حوالى 150 ألف متر مربع (اندبندنت عربية – حسن حامد)

ملخص

شهد محيط القصر الجمهوري الأثري أكثر المعارك ضراوة فهل نجا من الدمار؟

محيط قصر الجمهوري الرئاسي في قلب العاصمة الخرطوم كان شاهداً على أعنف المعارك والاشتباكات منذ بدء الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في 15 أبريل (نيسان) الماضي، التي تدخل شهرها الثاني، فعلى رغم سلسلة الهدن المعلنة بموافقة الطرفين، إلا أن الاشتباكات حول القصر والقيادة العامة للجيش، لم تهدأ بحكم موقعهما الجغرافي.

المصير المجهول

ظلت الانفجارات العنيفة تدوي وترتفع حدتها مع أعمدة الدخان المتصاعدة واستمرار الضربات الجوية والقصف المدفعي لإخراج قوات الدعم السريع، التي كانت مرابطة داخل القصر الجمهوري وتتحصن داخله.

اتهمت قوات الدعم السريع الجيش بتنفيذ هجوم وضربات بالطيران الحربي على القصر الجمهوري التاريخي الأثري (القديم) باستخدام الصواريخ، مما أدى إلى تدميره.

وقالت في بيان لها إنها تود أن تؤكد للرأي العام المحلي والعالمي، أن "هذا الفعل لن يمر مرور الكرام من دون أن يجد منا الرد المناسب".

وأشار بيان الدعم السريع، إلى أن الجيش استهدف كذلك عدداً من المنشآت المدنية والأحياء السكنية والمصانع والمؤسسات الخاصة، مما تسبب في إصابة ومقتل عدد من المدنيين، ملمحاً إلى ما أسماه "استهداف الجيش للمدنيين في حملة اعتقالات على أساس عنصري وقبلي، مما سيكون له انعكاسات سالبة".

في الوقت الذي تتداول فيه بعض الصور التي تظهر آثاراً لدمار وتشوهات كبيرة لحقت بالقصر جراء القصف، نفى الجيش على لسان مصدر عسكري، أن يكون القصر الجمهوري الأثري القديم قد تم تدميره، مشيراً في تصريحات لوسائل إعلام محلية، إلى أن القصف استهدف بدقة مجمعاً لمكاتب إدارية خارج المبنى الرئيس للقصر، كانت قوات الدعم السريع تتخذه سكناً ومكاناً لإدارة العمليات العسكرية.

فما الأهمية التاريخية للقصر الجمهوري القديم في السودان؟


الخسارة الكبيرة

يكتسب القصر الأثري أهميته من كونه جزءاً لا يتجزأ من تاريخ البلاد وذاكرتها، وخسارته تعني خسارة صرح تاريخي وأثري يتجاوز عمره ما يقارب القرنين من الزمان 199 عاماً، وهو مصنف لدى الهيئة العامة للآثار والمتاحف ضمن المباني الأثرية التي تشكل جزءاً من تاريخ البلاد الحضاري والسياسي، وشاهد على التحولات التاريخية ما قبل الثورة المهدية منذ تشييده أول مرة في مرحلة استعمار الحكم الثنائي التركي - المصري للسودان بين 1821 و1885.

ظل القصر الرئاسي الأثري القديم رمزاً للسيادة الوطنية ومقراً رسمياً لرئاسة جمهورية السودان، وهو يضم كافة مكاتب رئيس وأعضاء مجلس السيادة وإدارات الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، قبل أن يتم تشييد القصر الجديد داخل فناء القصر القديم نفسه عام 2015 مجاوراً للمبنى التاريخي هدية من جمهورية الصين الشعبية.

صورة القصر نقشت على العملات الورقية والطوابع البريدية التذكارية وتصدرت النشرات الإعلامية كرمز سيادي وسياسي في السودان، وسمي الشارع الرئيس المحاذي لمدخله الجنوبي بشارع القصر بعد أن حمل خلال فترة الاستعمار اسم شارع الملكة فيكتوريا.

الموقع والتاريخ

كذلك يعد القصر القديم من المعالم المعمارية المهمة في الخرطوم بإطلالته على الضفة الجنوبية للنيل الأزرق على مقربة من (المقرن)، ويطل عدد من شرفاته عليه، بالقرب من (ملتقى) النيلين الأزرق والأبيض، فضلاً عن كونه يمثل قلعة تاريخية أثرية من حيث نمط العمارة وطراز التصميم والنوافذ المقوسة رومانية الطابع وبواباته الواسعة وشرفاته ونوافذه البحر متوسطية ذات الملامح الإغريقية، على غرار تصاميم المعمار الأوروبي في القرن الـ17.

أما التاريخ البعيد للقصر القديم فيعود إلى فترة الحكم الثنائي التركي - المصري للسودان (1821 - 1885م) وذلك عقب تمكن محمد علي باشا من الاستيلاء على السودان عام 1821 تحت ولاية مصر، وكان الحاكم حينها يلقب بـ"حكمدار عام السودان"، وقد قام محمد علي بتحويل العاصمة من (سنار) عاصمة دولة الفونج بعد الانقضاض عليها بين فترة 1504 و1821، إلى مدينة ود مدني وسط السودان عاصمة ولاية الجزيرة حالياً.

بعد عشر سنوات وفي عهد الحكمدار عثمان بك جركس 1824، نقلت عاصمة البلاد إلى الخرطوم لتصبح مقراً للدواوين الحكومية كافة ومقراً للحاكم، بعدها بدأ الحكمدار التالي محو بك أُورفلي عام 1825، بوضع اللبنات الأساسية للقصر القديم الذي عرف بقصر الحكمدارية وأيضاً (السراي) سراي الحاكم العام، بني في البداية من الطين اللبن على موقع مميز في العاصمة السودانية ضفة للنيل الأزرق الجنوبية، وأنجز عام 1834 خلال عهد خورشيد باشا بعد أن أدخلت عليه بعض الإضافات والتحسينات.

وفي عام 1851، قام الحكمدار عبداللطيف باشا عبدالله بهدم المبنى وأعاد تشييده ببقايا طوب مدينة سوبا الأثرية، عاصمة مملكة علوة القديمة شمال شرقي الخرطوم، ومن بعض المباني القديمة في منطقة أبي حراز على الضفة الشرقية للنيل الأزرق بولاية الجزيرة، ليتخذ بعدها شكله الحالي المكون من طابق أرضي وطابقين آخرين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عظمة المسمى

إذا كان تعدد الأسماء دليلاً على عظمة المسمى فقد كان القصر القديم كذلك، إذ تعددت أسماؤه عبر تاريخه الممتد لحوالى قرنين، قبل أن يستقر على مسماه الحالي "القصر الجمهوري"، وظل دائماً مقراً للرئاسة إلى أن هجره الرئيس السابق عمر البشير في الـ26 من عام 2015 بعد اكتمال بناء القصر الجديد المجاور له.

كان أول اسم أُطلق عليه هو "سرايا الحكمدار"، ثم "السرايا" و"سرايا الحاكم العام" في فترة الحاكم العام ما بعد الحكمدراية وخلال فترات الحكم الثنائي، ثم "القلعة" لبعض الوقت (1898-1956)، وأخيراً "القصر الجمهوري" بعد استقلال 1956، ثم غير الرئيس جعفر نميري اسمه إلى "قصر الشعب" عام 1972، وعاد بعد سقوط النميري إلى اسم "القصر الجمهوري" مرة أخرى حتى اليوم.

مقتل الجنرال العنيد

في 26 يناير (كانون الثاني) عام 1885، شهد القصر القديم حدثاً تاريخياً مجلجلاً، هو مقتل الجنرال الإنجليزي تشارلز جورج غوردون المعروف بـ"غوردون باشا" حكمدار عام السودان وقتها، على أيدي الثوار أنصار الإمام المهدي قائد الثورة المهدية، وهو يهم بالنزول من درج السلم الحجري للقصر.

ما يزال الدرج الداخلي المقابل لغرفة الجلوس في الطابق الثاني (حيث كان يسكن غوردون) من أشهر معالم وأجزاء القصر وملامحه الأثرية، وتم تجسيد مشهد طعن الجنرال الإنجليزي وتخليد تلك اللحظة في لوحة زيتية رسمها الفنان الإيرلندي جورج وليام جوي، توجد حالياً في متحف مدينة ليدز البريطانية.

تعرض القصر لفترة طويلة من الإهمال والهجر، بعد اختيار أنصار الإمام المهدي مدينة أم درمان عاصمة للسودان وقتها، لكن الجنرال الإنجليزي (كتنشر باشا) أول حاكم بريطاني للسودان، أعاد تشييد القصر بعد سقوط دولة المهدية عام 1899، وكان كتنشر خطط لإقامة مدينة حديثة على النمط الأوروبي البريطاني الذي ظهر جلياً في تخطيط الشوارع على نسق العلم البريطاني، وهندسة المباني الجديدة على الطراز الفيكتوري الفاخر، كان القصر يسمى حينها بـ"سراي الحاكم العام"، واستمر كذلك حتى نال السودان استقلاله ليتحول اسمه إلى القصر الجمهوري.

أحداث وسكان القصر

كذلك كان القصر القديم شاهداً على الأحداث السياسية الداخلية كافة، التي تلت إعلان الاستقلال منذ تشكيل أول حكومة وطنية عام 1953، كمكان لصناعة القرارات المصيرية للبلاد، وشهدت ردهاته تفاصيل كثير من الصراعات السياسية على السلطة، أبرزها احتجاز الرئيس جعفر محمد نميري داخله لبضعة أيام بعد إعلان الإطاحة به من السلطة إثر الانقلاب الفاشل بقيادة الضابط الرائد، هاشم العطا، إذ تم تهريب النميري بقفزه من أعلى جدران سور القصر الشاهق ليعلن عودته إلى الحكم من جديد.

إلى جانب مكاتب الرئيس ونوابه، يضم القصر أجنحة سكنية مخصصة لاستضافة رؤساء الدول الأجنبية عند زياراتهم الرسمية للبلاد، إلى جانب صالة مراسيم فخمة مخصصة لتقديم أوراق اعتماد سفراء الدول الأجنبية، كما تتم فيها الاحتفالات بالمناسبات الرسمية للبلاد.

تاريخياً ومنذ الاستقلال عام 1956، تعاقب على القصر الجمهوري خمسة رؤساء مجالس سيادة برئاسة كل من عبد الفتاح المغربي، وعبد الحليم محمد، وإسماعيل الأزهري مرتين، ثم أحمد علي الميرغني، ومن الرؤساء إبراهيم عبود، وجعفر محمد نميري، وعبدالرحمن سوار الذهب، وعمر حسن أحمد البشير، وكان أطولهم بقاءً في القصر القديم عمر البشير، (26 عاماً) في القديم وأربع سنوات في الجديد، يليه جعفر نميري (18 عاماً).

هدية الصين

تم الاتفاق على إنشاء القصر الرئاسي الجديد عام 2007، ووقع عقد التنفيذ في نهاية 2010 ليبدأ تنفيذ المشروع في مارس (آذار) 2011، وتكفلت دولة الصين ببناء القصر الرئاسي كمنحة وهدية للسودان، عرفاناً تاريخياً في ما يشبه المكافأة والانتقام المعنوي من الجنرال غوردون، جلاد الثوار المزارعين الصينيين الذي قتل على سلالم القصر القديم.

وبات تاريخ 26 يناير، قبل أكثر من 130 عاماً، يعرف بيوم "تحرير الخرطوم"، وتوافقاً مع ذكرى مقتل غوردون تم افتتاح القصر الجديد رسمياً في ليلة 26 يناير 2015.

ومعلوم أن الجنرال غوردون كان قد رُحّل من المستعمرة البريطانية (الصين) بعد سحقه لثورة الفلاحين الصينيين (التانينغ) والتنكيل بهم، ليفعل الأسلوب ذاته ويمارس القمع ضد الثورة المهدوية في السودان، لكنه لقي حتفه على يد أنصار الثورة المهدية في الخرطوم تحريراً لبلدهم و"قصاصاً لثوار الصين"، وفق أنصار الثورة.

توسعة ومتحف

لاحقاً تم تخصيص مبنى الكنيسة الكاتدرائية، أحد المباني الأثرية، التي شيدت وافتتحت عام 1912 وتمثل أيضاً طرازاً ونمطاً معمارياً متفرداً للعمارة الدينية في السودان، لكنها أغلقت عام 1971 لأسباب أمنية لوجودها داخل أسوار القصر، وتم تحويل المبنى إلى متحف للقصر في 1997، وبناء كنيسة بديلة لها بحي العمارات جنوب شرقي الخرطوم، وافتتح المتحف رسمياً ليلة 31 ديسمبر (كانون الأول) 1999.

حديثاً أضفت مساحات جديدة لمجمع القصر الجمهوري (الجديد والقديم) في الجانب الجنوبي عام 1971، كما أنشئت مبان إضافية لإدارات القصر والحرس الجمهوري وكراج السيارات داخل المجمع خلال الفترات المتعاقبة على الحكم، وكذلك أضيفت في الفترة الأخيرة من حكم عمر البشير، مساحات جديدة في الجانب الشرقي للقصر لتصبح المساحة الكلية الحالية له حوالى 150 ألف متر مربع وسط الخرطوم.

وظلت الاشتباكات العنيفة بين الجيش وقوات الدعم السريع، منذ اندلاعها قبل أكثر من شهر، محتدمة في مناطق مختلفة من العاصمة الخرطوم، بخاصة حول القصر الجمهوري والقيادة العامة للجيش، كأكبر موقعين للمعارك بين الطرفين منذ بدء الحرب.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات