Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ألف هادم ومدينة واحدة... الخرطوم تستعيد "ذاكرة الدمار"

الآن يربط السودانيون بين "خراب سوبا" في المخيلة السودانية الشعبية وبين مآل الخرطوم في الحرب الحالية

قامت دولة الفونج على أنقاض مملكة علوة بعد نهب كنائسها وتخريب مبانيها (اندبندنت عربية - حسن حامد)

ملخص

تعرضت الخرطوم خلال تاريخها لدمار اجتاحها مرات عديدة من أبرزها الحكم التركي - المصري للسودان خلال الفترة من 1881 إلى 1899...  فكيف يحدث خراب المدن؟

وصلت مدينة الخرطوم إلى كونها واحدة من كبريات المدن الأفريقية، كما خطط لها المستعمر البريطاني قبل أكثر من قرن، وذلك بتمدد العاصمة المثلثة إلى أبعد من المدن الرئيسة الثلاث (الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري). وتعرضت خلال تاريخها لدمار اجتاحها مرات عدة، كان أبرزها خلال الحرب على الحكم التركي - المصري في السودان خلال الفترة من 1881 إلى 1899.

في ذلك الوقت، استعانت الخديوية المصرية التي كان يتبع لها السودان بتشارلز غوردون الذي نجح في تنفيذ مهمتين سابقتين في السودان، أما الثالثة فتمثلت في إخلاء الخرطوم من أنصار محمد أحمد المهدي زعيم الثورة المهدية، ومع أن معارك تلك الفترة شملت مدناً سودانية أخرى إلا أن "حصار الخرطوم" الذي حدث بين عامي 1884 و1885، انتهى بانتصار الثوار التابعين للمهدي ومقتل غوردون داخل ساحة القصر في الخرطوم، ونتج منه حملات انتقامية أدت إلى تفكير بريطانيا في إعادة استعمار السودان مرة أخرى،  وتبع "حصار" المدينة تدميراً واسعاً لها، فأعاد المستعمر البريطاني تخطيطها وتعميرها بعد ذلك.

 

نبوءة الحكيم   

لطالما شكلت الحرب بوصفها السلاح الأمضى من السيف والأسرع تدميراً للمدن دماراً شاملاً، الموضوع الأكثر بحثاً عما قبل تاريخ إطلاق أول طلقة، للوصول إلى إجابات ثلاث لما يمكن اختصاره في (كيف كانت، وكيف أصبحت، وكيف ستكون). فالخرطوم العاصمة بحشدها السكاني الكثيف ومبانيها الحكومية الرسمية التي يعود أغلبها إلى الحقبة الاستعمارية، جمعت ما بين التراث والحداثة، وملامحها توزعت ما بين الريف والمدنية، ففي قلبها يسكن الأغنياء والميسورون، وعلى أطرافها يقيم المعوزون والنازحون من حربي الجنوب ودارفور.

وعلى رغم محاولات الحفاظ على شكل المدينة القديم إلا أن التعديات على الشوارع الرئيسة والأحياء السكنية والأراضي البيضاء جعل من العشوائية عنواناً، وعندما اندلعت المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، منتصف أبريل (نيسان) الماضي، انهارت الخرطوم بسرعة، دُكت مبانيها واحترقت الشوارع ودمرت الأحياء، فسرعة الضربات وعشوائية الهجمات والتعديات لم تفرق بين المحال العامة والأحياء السكنية ولا بين عمارات سامقة أو مساكن بسيطة.

 

وكلما يغشى الخرطوم خراب بسبب الحروب، يتذكر السودانيون قولاً أثيراً للشيخ فرح ود تكتوك، الذي يؤمن به قطاع واسع من السودانيين ويطلق عليه "حكيم السودان". عاش ود تكتوك في الفترة من عام 1635 إلى عام 1732، وينسب له عديد من الحكم والأقوال المأثورة، كما يرفق مع اسمه "حلّال المشبوك" تيمناً بمقدرته في وقته ذاك على حل المشكلات المستعصية بفطنته وفراسته.

ويرى السودانيون أن كثيراً مما قاله تحقق بعد قرون من وفاته، أي في هذا الوقت الذي كان يقرن ود تكتوك تنبؤاته به على أنه "آخر الزمان". ومما قاله في مناسبتنا هذه "الخرطوم تعمر عمار يصل سوبا وتخرب خراب يعدمها الطوبة". والمعنى أنه يكثر العمران في الخرطوم حتى تصل مضارب سوبا التي أصبحت الآن جزءاً من ولاية الخرطوم، ثم يجيء زمان يغشاها الخراب.

مملكة الوسط

وسوبا التي ذكرها ود تكتوك هي عاصمة مملكة علوة النوبية في العصور الوسطى (500- 1504) في ما يعرف اليوم بوسط وجنوب السودان وتمددت حتى الشمال، نشأت بعد سقوط مملكة كوش ضمن ثلاث ممالك على طول نهر النيل وهي نوباتيا والمقرة وعلوة وسقطت بظهور سلطنة الفونج في سنار، وقد اشتهرت في مملكة علوة عاصمتها سوبا التي تقع على الضفة الشرقية للنيل الأزرق، أما إقليم سوبا فيقع في المنطقة الوسطى من المملكة بين النيلين الأبيض والأزرق وتسكنها إثنيات الكرسا والنوبة والعنج المسيحية "الهمج"، وعرفت المملكة عند الإغريق باسم "علوديا" واحتلت معظم الأراضي في وسط السودان وامتدت حتى مدينة سنار جنوباً.

وعثر في حدود هذه المنطقة على كنائس مختلفة على النيل الأبيض، وبعض المدن وذكر اسم "علوة" وعاصمتها سوبا على لوحة تركها الملك نستاسن ملك مملكة مروي في عام 328 بمناسبة تخليد ذكرى جلوس الإله آمون على عرش البلاد، وتنبأ في هذه اللوحة بنشوء أقاليم جديدة، كانت في ما بعد من بينها مملكة علوة وعاصمتها سوبا التي تحتل المركز التجاري الثاني بعد مدينة مروي العاصمة.

وذكرت سوبا للمرة الثانية في نقش للملك عيزانا ملك أكسوم في عام 350 للميلاد، ويسجل النقش أن الملك عيزانا غزا وادي النيل كرد فعل على هجمات شنها النوبة ضد حلفاء أكسوم وكان حينها قد وجد جيش النوبة استقر في المدن المروية في ملتقى النيلين، ثم كانت بعد ذلك سوبا واحدة من تلك المدن التي أنشئت على أيدي جنود بسماتيك الغازين إلى السودان في أواخر القرن السادس قبل الميلاد.

وذكر في مجلة الآثار والأنثروبولوجيا السـودانية "أركماني"، أن "كتابات المؤرخين العرب في سوبا اعتمدت على ما ذكره نعوم شقير في كتابه [تاريخ السودان] وفي كتابات ابن حقوَل والإدريسي والمسعودي في وصفهم قصورها وأبنيتها ودورها الواسعة، وأن فيها كنائس كثيرة الذهب وقراها المتصلة وبساتينها الكثيرة، وأنها ذات مياه متصلة بسواق من النيل".

واستندت المجلة إلى ما أقدم على ذكره اليعقوبي عن سوبا بوصفها عاصمة لمملكة علوة دونه في "كتاب البلدان". وأرجع تاريخ مملكة علوة وعاصمتها سوبا إلى منتصف القرن الرابع قبل الميلاد، كما مر بها الرحالة ديفيد روبيني عام 1523، ووصفها بالأطلال، حيث تبقت بعد الآثار التي تعود إلى تلك الفترة، ومنها الآن أعمدة كنيسة علوة المسيحية.

عزلة "علوة"

يذكر التراث الشعبي أن لسوبا قصصاً وروايات عن ظهور بعض المخلوقات التي يقال إنها من الجن وتظهر في شريط من المنطقة يعرف بـ"دبة حمري". ولا تزال بعض قبائل "الهمج" تتمسك ببعض الطقوس ومنها أن هناك صيغة معروفة للقسم، وهي أن يقف الشخص على كوم من النفايات تذكر بدمار سوبا، ويقدم له قليلاً من الملح والرماد ودقيق الذرة، فيتذوق الخليط ويلتقط قطعة صغيرة من الخشب ويكسرها فوق رأسه ثم يؤدي القسم.

كما يتمسك بعض "الهمج" برسم إشارة الصليب بفحم الحطب أو الكحل على جبين المولود وعلى المرضى من الأطفال، وبعض قبائل الأنقسنا تلجأ إلى صخرة خارج القرية يسمونها الجدة "سوبا" في كل المناسبات مثل الولادة أو الزواج أو الموت، وهي عند "العنج" بمثابة النيل في شمال السودان يذهبون إليها لنيل البركة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تعرضت مملكة علوة لهجوم من جيرانها مملكة "الزغاوة"، على طرق القوافل التجارية في منطقة بحيرة تشاد حتى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، وتعرضت كذلك لأطماع ممالك أخرى مثل مملكة المقرة في الحصول على الرقيق للاتجار فيه ودفع ضريبة "البقط". كما أضعف المملكة قطع العلاقات الدينية بين الكنيسة المصرية وكنائس علوة إذ توقف إرسال الأساقفة المصريين إلى بلاد النوبة منذ منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، فأهملت الطقوس الدينية وهجرت الكنائس، كما أدى سقوط مملكة المقرة في الشمال واعتناق أهلها الإسلام إلى عزلة مملكة علوة.  

"خراب سوبا"

أما القصة الشهيرة المتداولة في التراث الشفاهي لمنطقة سوبا فهي عن "خراب سوبا"، يقال إن امرأة تدعى "عجوبة" كانت لها ابنة في غاية الجمال، وكان وزراء مملكة علوة يتقدمون لطلب الزواج من ابنتها، فتوهم عجوبة كل وزير بأنها سوف تزوجه ابنتها، ولكن عليه أن يقوم بقتل الوزير الذي سبقه لطلب الزواج من ابنتها، فيفعل الوزير ظناً منه أنها ستحقق رغبته، وتكرر هذا مع كل الوزراء الذين تقدموا لخطبة ابنتها، فتمكنت من قتلهم جميعاً مما أضعف ملك سوبا وأدى إلى خرابها وسار على الألسن منذ ذلك الزمان "عجوبة التي خربت سوبا".

بعد تضعضع مملكة علوة، ظهر حلف دولة الفونج المكونة من القبائل الزنجية المسلمة في سنار بقيادة ملكها عمارة دنقس، والعبدلاب المكونة من القبائل العربية القادمة من شمال ووسط السودان، بقيادة عبدالله جماع المعروف بزعيم المسلمين في ذلك الوقت، وكان ذلك في مطلع القرن السادس عشر فأكملا تدمير المدينة بدخول جيوشهم  إليها ونهبها وتخريب كنائسها ومبانيها الجميلة، في ما عرف بـ "خراب سوبا" الذي بدأته عجوبة، فنشأت على أنقاضها الدولة التي حكمت السودان منذ 1504 إلى 1820 وهو العام الذي بدأ فيه الغزو التركي- المصري على السودان، ومنذ ذلك التاريخ لم تنفك الروايات تذكر "خراب سوبا" عند كل نازلة، والآن يربط السودانيون بين "خراب سوبا" القصة الشهيرة في المخيلة السودانية الشعبية، وبين خراب الخرطوم نتيجة للحرب الحالية.

تحالف رعوي

قيام سلطنة الفونج (السلطنة الزرقاء) في الفترة من 1504 إلى 1820، كان على أنقاض مملكة علوة من القرن السادس قبل الميلاد إلى عام 1504، فقدم الفونج الأفارقة وتقاسموا مع العرب وأهل الشمال الرعي، وبعد سقوط مملكة علوة المسيحية ومركزها الإداري في سوبا، تأسست دولة الفونج الإسلامية، وصارت سوبا إحدى مدن الفونج المهمة نسبة لأثرها الثقافي والحضاري.

وفي ذلك يرى النور حمد في سلسة مقالاته "في تشريح العقل الرعوي" أن "تحالف الفونج والعبدلاب لم يكن في حقيقة أمره، سوى تحالف رعوي قح، تأسس لنهب ثروات سوبا، وانتزاع الملك من ملوكها"، وأضاف "على رغم أن الإسلام كان حاضراً في ذلك الصراع، الذي انتهى بخراب سوبا، إلا أن حضوره كان حضوراً مساعداً فقط، ولغرض الحشد والتعبئة وإثارة الكراهية، وليس حضوراً قيمياً جوهرياً".

وأوضح أن "العبدلاب والفونج استخدموا الإسلام لتجييش الرعاة المحيطين بوادي النيل، من أجل الهجوم على مملكة سوبا، بخاصة بعد أن تكاثروا حولها وتفوقوا عليها عدداً وعدة، ومن ثم الاستيلاء على ثرواتها الكبيرة التي كانت أعين هؤلاء الرعاة أصلاً مصوبة عليها منذ مدة ليست بالقصيرة".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات