ملخص
بقراره الظهور على شاشة "سي أن أن" فإن ترمب يقود حملة مكايدة لـ"فوكس نيوز"
لأول مرة منذ سنوات طويلة، سيظهر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب على شبكة "سي أن أن" الإخبارية التي طالما انتقدها علناً، واعتبر أنها تنقل أخباراً كاذبة حتى أصبحت ترنيمة يتغنى بها الجمهوريون، لكن قبول الطرفين بظهوره في ما يسمى "تاون هول" إذ يتلقى أسئلة الجمهوريين والناخبين في وقت ذروة المشاهدة الأسبوع المقبل، أثار جدلاً واسعاً ورفضاً من البعض، فما سبب هذا التحول ومغزاه في هذا التوقيت؟ وهل يمكن أن يستمر هذا التوجه طوال حملة ترمب بما قد يضر الرئيس جو بايدن ويثير حفيظة قناة "فوكس نيوز" ذات التوجه اليميني المحافظ؟
مفاجأة إعلامية
جاءت الأنباء بأن شبكة "سي أن أن" الإخبارية ستعقد لقاءً جماهيرياً مع الرئيس السابق دونالد ترمب يوم الأربعاء المقبل 10مايو (أيار) في كلية سانت أنسيلم بولاية نيو هامبشاير بمثابة مفاجأة من العيار الثقيل على جبهات متعددة، ذلك أن ترمب الذي سخر لفترة طويلة من الشبكة ووصفها بأنها "مزيفة" وكان يوبخ مراسليها بشكل روتيني أثناء خدمته في البيت الأبيض، ولم يجر معها مقابلة منذ حملته الرئاسية لعام 2016، وافق على التناغم والانسجام معها، ما يمثل لحظة مهمة في تقاطع السياسة والإعلام في الانتخابات التمهيدية الرئاسية للحزب الجمهوري لعام 2024، وهو أحدث مثال على استراتيجية إعلامية متغيرة ومتقلبة أحياناً يتبناها فريق ترمب.
في الوقت نفسه، يعد اللقاء الجماهيري مع ترمب خطوة محفوفة بالمخاطر بالنسبة إلى شبكة "سي أن أن" التي يقول البعض بأنها ستوفر منصة حية في أوقات ذروة المشاهدة لرئيس اتهمته الشبكة بأنه حرض على العنف، فيما تواجه تحدياً يتمثل في التعامل مع الرئيس السابق الذي لا يزال يرفض قبول نتائج الانتخابات التي خسرها منذ عامين ونصف أمام الرئيس الحالي جو بايدن، الأمر الذي يثير تساؤلات حول ما إذا كانت الشبكة تعتزم التحقق بشكل فوري من صحة ما سيقوله ترمب على الهواء مباشرة، بخاصة إذا كرر الادعاء بأن انتخابات 2020 كانت مزورة، كما فعل الأسبوع الماضي أمام حشد جماهيري ضمن حملته الانتخابية.
أسباب ترمب
يشير ظهور ترمب المرتقب على شبكة "سي أن أن" إلى تحول في استراتيجية حملة الرئيس السابق التي تستعد لانتخابات عام 2024، فقد أعاد الرئيس السابق وفريقه الانتخابي إشراك الصحافة ووسائل الإعلام الرئيسة بعد أن نبذهم لفترات طويلة واتهمهم بترويج الأخبار الكاذبة والمزيفة للنيل منه، حين أجرى فريقه محادثات لإجراء مقابلات تليفزيونية مع عديد من الشبكات التليفزيونية البارزة الأخرى، بما في ذلك شبكة "أن بي سي"، كما دعا مجموعة من المراسلين في وسائل الإعلام الرئيسة للسفر معه على متن طائرته من وإلى المدن التي تستضيف فعاليات حملاته الانتخابية.
ولفتت صحيفة "بوليتيكو" إلى أن المحيطين بالرئيس السابق يعتقدون أنه من خلال إجراء المقابلات والظهور عبر وسائل الإعلام الرئيسة يمكنهم زيادة وصول رسالة ترمب إلى قطاع أوسع من الجمهور الأميركي، وخلق تباين مع أخطر منافسيه المحتملين (حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس)، الذي يُنظر إليه على أنه أكثر انغلاقاً تجاه شبكات التليفزيون الرئيسة، بينما يمنح مقابلاته الصحافية والإعلامية لوسائل الإعلام المحافظة مثل "فوكس نيوز".
نكاية سياسية
قرار ترمب المشاركة في لقاء جماهيري للاستماع إلى أسئلة ورؤى الجمهوريين من خلال شاشة "سي أن أن"، ليس حباً في الشبكة التي كانت تناصبه العداء على مدى سنوات، وإنما نكاية في شبكة "فوكس نيوز" ذات الميول المحافظة التي كان مقرباً منها لفترة طويلة، فقد اشتكى أخيراً من أن "فوكس نيوز" التي تتمتع بأكبر عدد من المشاهدين في الولايات المتحدة، انقلبت ضده، فيما يؤكد المقربون من الرئيس السابق أنها وغيرها من الوسائل الإعلامية المملوكة لإمبراطور الصحافة روبرت مردوخ كانت مؤيدة لمنافسه البارز رون ديسانتس، بينما تبث شبكة "سي أن أن" إعلانات ترمب المدفوعة التي يهاجم فيها ديسانتس بضراوة حتى قبل أن يرشح نفسه رسمياً للانتخابات.
وفي إشارة أخرى تعكس غضب ترمب من "فوكس نيوز"، أعلنت اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري في منتصف أبريل (نيسان) الماضي، أن الشبكة المؤيدة للجمهوريين ستستضيف المناظرة الأولى بين المرشحين الجمهوريين في أغسطس (آب) المقبل، ولكن بعد وقت قصير أعلن ترمب على منصته للتواصل الاجتماعي "تروث سوشيال" أنه لم يوافق على ذلك، بل ألمح إلى أنه لن يشارك في مناظرة يديرها مذيعون غاضبون يكرهون ترمب وحركة ماغا "اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد أسبوع واحد فقط، أعلنت "سي أن أن" أنها ستستضيف لقاء ترمب الجماهيري في نيوهامبشاير في وقت ذروة المشاهدة الساعة الثامنة مساء بتوقيت شرق الولايات المتحدة وستدير الحوار الصحافية كايتلان كولينز، التي اكتسبت سمعة واسعة بين الجمهور باعتبارها مستجوبة صارمة لترمب أثناء تغطيتها كمراسلة للشبكة في البيت الأبيض، بما في ذلك حادثة وقعت عام 2018 عندما منعت من حضور حدث صحافي بسبب الأسئلة التي طرحتها على الرئيس ذلك اليوم، لكن كولينز (31 سنة) التي بدأت مهنة الصحافة في "دايلي كولر" اليمينية المحافظة التي شارك في تأسيسها تاكر كارلسون، قبل أن تنتقل إلى "سي أن أن" في يوليو (تموز) 2017، تحولت إلى نجمة صاعدة بسرعة ملفتة، وأصبحت مذيعة تليفزيونية مشاركة مع بوبي هارلو في برنامج "سي أن أن هذا الصباح" منذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
وعبر ترمب على منصته الاجتماعية "تروث سوشيال" قبل أشهر قليلة عن رأيه في "فوكس نيوز" التي طالما أشاد بها سابقاً، وقال إن القناة حققت نجاحاً باهراً باستضافة الديمقراطيين ومواجهتهم بأسئلة لينة، في حين أن "سي أن أن" ستكون بمثابة منجم ذهب إذا أصبحت قناة محافظة، بخاصة بعد التقارير التي أفادت بأن الشبكة تهدف إلى مزيد من الحياد السياسي وتوجيه انتقادات أقل للرئيس السابق في عهد رئيسها الجديد كريس ليكت.
حملات ودوافع
في مواجهة حملة انتقادات لاحقتها مع الإعلان عن استضافتها لترمب، أوضحت شبكة "سي أن أن" التقليد الطويل الذي تتبعه في استضافة المرشحين الرئاسيين البارزين بخاصة في اللقاءات التفاعلية مع الجمهور والأحداث السياسية الأخرى، كعنصر حاسم في تغطية الحملة الانتخابية القوية للشبكة، مشيرة إلى أنها تتعامل مع ترمب مثل أي مرشح رئاسي آخر، بحسب تأكيد المدير السياسي للشبكة ديفيد شاليان.
ويرى تشاليان أنه في حين أن ترمب مرشح فريد من نوعه لأنه أصبح رئيساً منخرطاً في سلسلة من التحقيقات، وهناك أسئلة حول رئاسته وكيف تركها، إلا أن الشبكة تواصلت مع كل مرشح رئاسي بارز آخر ومرشح محتمل بشأن المشاركة في تغطية شبكة "سي أن أن"، ولهذا فإن اللقاء الجماهيري (تاون هول) مع ترمب هو جزء من ذلك.
ومع ذلك، فإن تشاليان اعترف بصعوبة السيطرة على ما قد يقوله دونالد ترمب لأن الأمر متروك له، ولكن ما يمكن للشبكة القيام به هو طرح الأسئلة والمتابعة، ومحاولة الحصول على إجابات كاشفة قدر الإمكان، لكنه لم يحدد ما إذا كانت مضيفة البرنامج كولينز ستطرح نوعاً من أشكال الفحص والتدقيق المباشر للمعلومات التي سيقدمها ترمب على أنها حقيقة.
غير أن خبراء الإعلام يرون أن كريس ليكت، الذي تولى منصب رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشبكة "سي أن أن" العام الماضي، يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه يسعى إلى تحويل الشبكة إلى قاعدة أقل حزبية، كما يسعى أيضاً إلى زيادة شعبيتها واستقطاب جمهور ترمب الواسع من الجمهوريين ما ينعكس على إيرادات الشبكة، بخاصة وأن شبكات الأخبار التلفزيونية تعتمد بشكل كبير على مزودي خدمات الكابل، فقد جاء ما يصل إلى 60 في المئة من عائدات "سي أن أن" البالغة 1.8 مليار دولار العام الماضي، من مزودي خدمات الكابل، في حين حققت شبكة "فوكس نيوز" عائدات بلغت 12.3 مليار دولار من جمهور أكبر بكثير، ولذلك تعد زيادة إيرادات "سي أن أن" أولوية بالنسبة إلى الشركة المالكة الجديدة "وارنر برذرز ديسكفري" التي يبلغ إجمالي ديونها نحو 59 مليار دولار.
وعكست تصريحات ليكت للمعلنين في نهاية العام الماضي هذا التوجه، فقد أوضح أنه في الوقت الذي يهيمن فيه التطرف على القنوات الإخبارية، ستسعى إدارته إلى التغطية الخبرية بطريقة مختلفة، تعكس الحياة الواقعية لمشاهدي "سي أن أن" وتغيير الطريقة التي تنظر بها أميركا والعالم إلى هذه الوسيلة التي اكتسبت تحت الإدارة السابقة سمعة التصقت بها لفترة من الزمن، باعتبارها وسيلة إعلامية مناهضة قوية لترمب في برامجها ومبالغاً فيها في محاربته خلال تغطيتها للرئيس السابق.
وتشهد شبكات الكابل في الولايات المتحدة عموماً انخفاضاً في التصنيفات، على رغم أن انخفاض التصنيف الذي لحق بشبكة "سي أن أن" كان الأكثر حدة، فوفقاً لأرقام مؤسسة "نيلسن ميديا" البحثية حول معدل عدد مشاهدي اليوم الواحد خلال عام 2022، بلغ متوسط عدد مشاهدي قناة "فوكس نيوز" 1.4 مليون مقارنة بنحو 733 ألفاً شاهدوا شبكة "أم أس أن بي سي"، وأقل من نصف مليون فقط شاهدوا "سي أن أن" يومياً.
نيران صديقة
بمجرد أن ذاع خبر استضافة ترمب على شبكة "سي أن أن" تعرضت للنيران من مقدمي برامج في قنوات ليبرالية مشابهة مثل مذيع قناة "أم أس أن بي سي" مهدي حسن الذي غرد على "تويتر" بأن شبكة "سي أن أن" تقدم منصة حية في أوقات الذروة لمتهم ومحرض على ما وصفه بالتمرد في اقتحام الكونغرس، الذي حرض أيضاً على العنف ضد شبكتهم، مشيراً إلى أن الشبكة لم تتعلم الدرس من 2016 و2020.
واستنكر نشطاء ليبراليون قرار استضافة ترمب، حيث وصفت المدير التنفيذي لمنظمة ألترا فيوليت (منظمة مؤيدة للمساواة بين الجنسين) شونا توماس، ترمب بأنه "كاره للنساء" و"متمرد" تمنحه "سي أن أن" وقت بث مجاني ومنصة غير مقيدة لقذف الأكاذيب والكراهية.
وبدت ملامح النقاش الساخن حول ترمب مألوفة بالنظر إلى مسيرته الأصلية للرئاسة والسنوات التي تلت ذلك، فقد حظيت المراحل الأولى من السباق الرئاسي الأول لترمب، التي أطلقها في منتصف عام 2015، باهتمام إعلامي هائل، وجادل النقاد اليساريون بأن تكثيف الأضواء على ترمب وتصريحاته كان أحد العوامل الرئيسة التي مكنته آنذاك من تخطي منافسيه الآخرين الأكثر رسوخاً في طريقهم إلى الفوز بترشيح الحزب الجمهوري.
جدل متصاعد
ومع ذلك، فإن الجدل الدائر حول التغطية المناسبة لترمب يحظى بأهمية إضافية هذه المرة في أعقاب مزاعمه بتزوير انتخابات عام 2020، وسلوكه في السادس من يناير (كانون الثاني)2021، ولائحة اتهامه الجنائية الأخيرة في مانهاتن، والمحاكمة المستمرة التي تركزت على اتهام إي جان كارول بأن ترمب اغتصبها في منتصف التسعينيات، الأمر الذي يثير تساؤلات بين فريقين متعارضين يرى الأول أنه لا ينبغي توفير منصة لشخصية عامة من المحتمل بقوة أن يزود الجمهور بشكل فريد بمعلومات مضللة ويستخدم لغة تحريضية، كما يزعم المنتقدون، في حين الفريق الآخر المدافع عن إجراء اللقاء عبر "سي أن أن" يرى أنه من السخف الإيحاء بأن أي شبكة إخبارية رئيسة يمكن أن تتجاهل شخصية مثل ترمب لأنه المرشح الأوفر حظاً لنيل ترشيح الحزب الجمهوري لعام 2024.
في المقابل، يقول من هم في المنتصف إنهم يقدرون تعقيد الوضع، ويشير ديفيد غرينبيرغ أستاذ دراسات الصحافة والإعلام في جامعة روتجرز إلى أنه من السهل جداً القول إن ترمب انتخب لأن الشبكات الإخبارية الرئيسة منحته كثيراً من الوقت على الهواء، لكن مجرد وضع شخص ما على الشاشة لا يجعله رئيساً بطريقة سحرية، ومع ذلك من المهم لشبكة "سي أن أن" أن تحتفظ بنوع من التناسب في تغطيتها لترمب، إذ لا يجب مقاطعة ترمب، وفي الوقت نفسه لا يجب أن تمنحه منصة غير متكافئة مع المرشحين الآخرين.
ويقول أستاذ العلوم السياسية في كلية ماكسويل بجامعة سيراكيوز، غرانت ريهير، إنه سيكون مذهولاً إذا لم تقدم "سي أن أن" تدقيقاً مهماً للحقائق عن ترمب، سواء في جزء مخصص لذلك، أو في حلقة نقاش ما بعد بث اللقاء، أو من كولينز نفسها، لكن ريهير دافع أيضاً عن طبيعة الحدث، مشيراً إلى أن ترمب رئيس سابق ومرشح شرعي للانتخابات، ومن المناسب تماماً استضافته في برنامج بمشاركة الجمهور، وسيكون تقصيراً خطيراً بالقدر نفسه في أداء الواجب إذا رضخت "سي أن أن" أو أي شبكة أخرى لمطالب الناشطين، وألغت اللقاء مع هذه الشخصية السياسية المركزية.
وأوضح ريهير أن بعض الشبكات، تخلت في بعض الفترات خلال السنوات الثماني الماضية عن حيادها، لكن إلغاء اللقاء مع ترمب سوف يرقى إلى اتخاذ وسائل الإعلام خطوة عملاقة في الاتجاه الخطأ.
وفي ظل هذا الجدل، من المؤكد أن الصخب سيستمر حتى الحدث نفسه، وربما بعده، ومن المرجح أيضاً أن يؤدي الجدل بطبيعته، إلى تعزيز تصنيفات المشاهدة الخاصة بالشبكات الإخبارية.