ملخص
"ذات شتاء في سوكشو" رواية للكاتبة الكورية الفرنسيّة إليزا شوا دوسابان أحدثت ضجّة إعلاميّة كبيرة لأن أحداثها تدور في المنطقة الحدوديّة بين كوريا الشماليّة وكوريا الجنوبيّة
رواية "ذات شتاء في سوكشو" للكاتبة الكورية الفرنسيّة إليزا شوا دوسابان التي أحدثت ضجّة إعلاميّة كبيرة حين صدورها والتي تدور أحداثها في المنطقة الحدوديّة بين كوريا الشماليّة وكوريا الجنوبيّة، صدرت ترجمة لها بالعربيّة أنجزتها ميرنا باسيل خليفة، عن دار نوفل- بيروت، بعد أن تمّت ترجمتها إلى لغات متعدّدة.
تبدو هذه الرواية للوهلة الأولة قصيرة بالكاد تتخطّى المئة صفحة وتروي قصّة حبّ مقتضبة خالية من العواطف أو من التفاعل البشريّ، وبالكاد يمكن تسميتها قصّة حبّ فعلاً. لكنّ الواقع مختلف عن ذلك. فهذه الرواية التي تدور أحداثها في سوكشو وفي الشتاء كما يدلّ العنوان، إنّما هي رواية صقيع وعزلة في منطقة حدوديّة محفوفة بالموت والنار. هي رواية رماديّة باردة تدور أحداثها في منطقة سوكشو الحدوديّة الواقعة بين الكوريتين ويبدو من خلالها أنّ البرد ليس وحده الذي يجمّد القلوب، بل الخوف أيضاً.
شتاء عسكريّ- سياسيّ
تدور أحداث هذه الرواية في منطقة سوكشو الكوريّة. منطقة قريبة من جبال أولسان السياحيّة ومن محميّة سوراكسان ومن معابد بوذيّة هادئة رابضة بشموخ، إنّما قريبة أيضاً من المنطقة المحرّمة. والمنطقة المحرّمة هي منطقة أمنيّة عسكريّة تقع على خطّ الهدنة أو على الحدود بين الكوريتين.
صحيح أنّ سوكشو تقع في كوريا الجنوبيّة لكنّها تقع أيضاً على بعد ستّين كيلومتراً فقط من كوريا الشماليّة. تتحوّل هذه المنطقة الحدوديّة الصامتة المتوجّسة التي تعيش الرهبة من الموت في كلّ لحظة إلى ساحة الأحداث، فتكتب الراوية عن منطقتها الحدوديّة المترقّبة اندلاع الموت في أيّ لحظة: "مترعة بالشتاء والأسماك، كانت سوكشو تنتظر. لا تفعل سوكشو غير الانتظار. السيّاح، الزوارق، الرجال، عودة الربيع." (ص 66). وكأنّ الربيع المنتظر ليس فقط ربيع الطبيعة بل ربيع الإنسان، ربيع السلام، ربيع الطمأنينة.
تظهر آثار الانقسام السياسيّ والجغرافيّ والعسكريّ الصارم في الخلفيّة الاجتماعيّة والتاريخيّة والسياسيّة للرواية وفي خلفيّة نفسيّات الشخصيّات المستسلمة الخاوية الهادئة.
تظهر الأجواء المتوتّرة في الرواية بشيء من الخجل وإنّما بقبضة حديديّة في الوقت نفسه، تظهر كذلك آثار الهدنة المتّفق عليها العام 1953 والتي لا تعني السلام تماماً بين الكوريتين، صراع صامت وبارد يقبع بين كوريا الشماليّة المدعومة من السوفيات والصين، وكوريا الجنوبيّة المدعومة من الولايات المتّحدة والأمم المتّحدة. تدور أحداث هذه الرواية على الحدود العسكريّة التي تُعتبر الأخطر والأكثر عسكرة في العالم، فتكتب الراوية: "هنا، الشواطئ تنتظر نهاية حرب استمرّت لفترة طويلة حتّى انتهى بنا الأمر إلى الاعتقاد بأنّها لم تعد موجودة." (ص 69).
على الرغم من أنّ أحداث الرواية تدور حول فتاة شابّة تعمل في فندق عتيق مهترئ في سوكشو، وتهتمّ فيه بالزبائن والنزلاء وبأمّها، يسيطر التوتّر على السرد لكونه يدور في هذه المنطقة المنزوعة السلاح أو المسمّاة بمنطقة الحزام الأمنيّ. يُترجم هذا التوتّر الصامت في مواضع متعدّدة من السرد، مواضع معدودة لا تُثقل السرد إنّما لا تمرّ مرور الكرام، فتكتب الشخصيّة الرئيسة التي تروي: "عند نقطة تفتيش السيّارة، طلب منّا جنديّ يصغرني سنّاً ملء بعض الأوراق. مكبّر الصوت يردّد التعليمات بلا توقّف. التصوير الفوتوغرافيّ ممنوع. تصوير الفيديو ممنوع. الانحراف عن المسار المحدّد ممنوع. التكلّم بصوت مرتفع ممنوع. الضحك ممنوع." (ص 29). لائحة من الممنوعات تحدّد شكل حياة أهل سوكشو، لائحة من القوانين الصارمة القاتلة تحميهم لكنّها أيضاً تسجنهم وتقيّد حرّيتهم، فتقول الراوية: "كنتُ أحبّ هذا الساحل، بالرغم من الأسلاك الشائكة الكهربائيّة التي تحيط به. كانت كوريا الشماليّة." (ص 13).
شتاء اجتماعيّ- إنسانيّ
ينتقل الشتاء السياسيّ والعسكريّ الذي تفرضه المنطقة الحدوديّة بين الكوريتين وهي منطقة الحزام الأمنيّ إلى شتاء في العلاقات بين شخصيّات الرواية. فالصقيع واللامبالاة والعزلة هي المشاعر المسيطرة على مختلف الأصعدة. فالراوية الشابّة المتحدّرة من أمّ كوريّة ووالد فرنسيّ تعيش بمفردها، وبالكاد تمضي ليلة الأحد مع والدتها على الرغم من أنّ هذه الأخيرة هي السبب في عودتها من سيول. ويظهر للقارئ أنّ علاقة الابنة بأمّها هي علاقة باردة صامتة أوتوماتيكيّة لا تفرض أيّ نوع من الروابط الحميميّة أو العاطفيّة، بين الاثنتين اللتين لا تعرف أيّ منهما شيئاً عن الأخرى.
أمّا العلاقة بالأب فهي أسوأ بكثير لكون الفتاة لا تعرف شيئاً عن والدها الفرنسيّ الذي غادر ولم يسأل عنها. تبدو هذه العلاقة منقطعة بشكل واضح. لكنّ الراوية بطريقة من الطرق وفي لاوعيها، ترفض التخلّي عنها بدليل أنّها تدرس الأدب الفرنسيّ في الجامعة لتصبح اللغة الفرنسيّة الصلة الوحيدة بين الابنة ووالدها الفرنسيّ.
العلاقة الثالثة في الرواية التي يسودها الصقيع هي علاقة الراوية بحبيبها جون-أوه، علاقة هي الأخرى لا تبدو صحيّة كثيراً ويمكن التنبّؤ بنهايتها منذ البداية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أمّا العلاقة المحوريّة للسرد فهي علاقة الراوية/ البطلة بنزيل فرنسيّ يدخل الفندق ذات يوم ويُدعى يان كيراند. تبدأ الرواية بوصول هذا السائح الغريب إلى الفندق الذي تعمل فيه الراوية. ويبدو أنّ هذه العلاقة على برودها وغرابتها هي العلاقة الوحيدة التي تتطوّر وتتحسّن بين بداية الرواية ونهايتها. فمن عدم رؤيتها وعدم النظر إليها في الصفحة الأولى "اخترقني بصره، لكنّه لم يرني"، إلى الاعتراف بوجودها وطلب مساعدتها لزيارة المنطقة الحدوديّة المحرّمة، وصولاً إلى التسكّع معها في سوكشو. تتحوّل العلاقة بين الاثنين إلى علاقة أكثر حميميّة، مع بقاء الصمت والبعد واللامبالاة الصفات الأساسيّة لها، فتقول الراوية في موضع من السرد، جراء غضبها من عدم تذوّق يان كيراند طعامها: "كنتُ قد قرّرتُ عدم بذل المزيد من الجهد من أجل أجنبيّ لا يبدي أيّ اهتمام بالأطباق المحلّيّة." (ص 28).
بين الفنّ والطهو
يدخل الفنّ في هذه الرواية لكون السائح الفرنسيّ رسّاماً وكاتب كوميكس (comics). وكذلك للطعام في هذه الرواية منزلة خاصّة، فهو الرابط الأوّل بين الأم وابنتها، وبين الابنة ومحيطها، كما أنّه موجود دوماً في الخلفيّة نظراً لكون هذه المنطقة معروفة بأسماكها وأسواقها.
يتحوّل الطعام إلى محور مهمّ للكلام، فالراوية التي تطهو لنزلاء الفندق تغضب وتشعر بالإهانة لكون النزيل الفرنسيّ يرفض تناول ما تطهوه بحجّة أنّه لا يحبّ هذا النوع من الطعام. حتّى عندما تتوطّد العلاقة بين الاثنين يبقى السائح على رفضه تناول الطعام الذي تعدّه الراوية على الرغم من أنّها تهتمّ بفنّه وبرسومه وبالكتاب الذي يعمل عليه والذي جاء إلى المنطقة الحدوديّة من أجل إتمامه.
"ذات شتاء في سوكشو" رواية الصقيع والشتاء والانتظار، رواية الجليد العاطفيّ والسياسيّ والعسكريّ والإنسانيّ، رواية العزلة والصمت والانكفاء على الذات. هي رواية قصيرة، مقتضبة، جملها موجزة، فصولها لا تتعدّى الخمس صفحات على الأكثر، معانيها بسيطة أوّليّة، وصفها شبه غائب وخالٍ طبعاً من أيّ مجاز أو بلاغة إلاّ لدى الضرورة. الفضاء بأسره مختزل كثيراً ومقتصر على الأمور البدهيّة وكأنّه يشبه سوكشو من هذه الناحية، يشبه هذه المدينة الصامتة المتوجّسة الغارقة في شتائها وصقيعها وغموضها والقابعة على الحدود بين الحرب والحياة. تلخّص الراوية ابنة سوكشو الحال قائلة: "لن يعرف سوكشو مثلي. لا يمكن لشخص أن يدّعي معرفتها إن لم يولد فيها، إن لم يعش شتاءها، إن لم يتنشّق روائحها، إن لم يتذوّق محارها، إن لم يعش عزلتها." (ص 16).